آراء وافكار - وجهات نظر

صور من الجبن

NINA L. KHRUSHCHEVA

 

نيويورك ــ كثيرا ما يُختَزَل مصير الأمم في اختيارات حِفنة من الأفراد في لحظة بعينها من التاريخ. واليوم تعيش الولايات المتحدة هذه اللحظة على وجه التحديد. فما يقرره حفنة من الجمهوريين الأفراد سوف يشكل مستقبل البلاد، بل والديمقراطية ذاتها.

والتاريخ الحديث عامر باختيارات محورية على نحو مماثل، سواء في السراء أو الضراء. فقبل قرن من الزمن، انتهت الثورة الروسية إلى مواجهة بين إرادة فلاديمير لينين الحديدية وتردد ألكسندر كيرنسكي، الذي انتهت به الحال إلى التسلل خارج سانت بطرسبرج للهروب من البلاشفة.

كما تمثلت ثورة روسية أخرى ــ في عشية السنة الجديدة عام 1999، عندما اكتسب الرئيس فلاديمير بوتن موطئ قدم في الحكومة، والذي مكنه في نهاية المطاف من حكم البلاد إلى يومنا هذا ــ في قرار أناني منفرد اتخذه زعيم البلاد آنذاك. فقد اختار الرئيس بوريس يلتسين تقديم سلامته وسلامة أسرته في الأولوية على رفاهة روسيا، ورشح بوتن، العقيد السابق في هيئة الاستخبارات السوفييتية، خلفا له.

بعبارة أكثر إيجابية، ماذا كان ليحل بفرنسا اليوم لو لم يذهب الجنرال غير المعروف نسبيا آنذاك شارل ديجول إلى المنفى في يونيو/حزيران 1940 ولم يوجه نداءه الملتهب حماسا إلى بلاده لمقاومة الغزاة النازيين؟ وأين كنا لنجد الغرب لو أصبح أي شخص آخر غير وينستون تشرشل رئيسا لوزراء بريطانيا في ذلك العام؟

حظيت الولايات المتحدة أيضا بنصيب في مثل هذه اللحظات المحورية، والتي وصف جون كينيدي العديد منها في كتابه "لمحات من الشجاعة"، الذي كتبه قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة. على سبيل المثال، قرر وزير الخارجية دانيال ويبستر دعم الحل الوسط في عام 1850، على الرغم من كراهيته للرِق، من أجل إنقاذ الاتحاد.

على نحو مماثل، ندد روبرت تافت بمحاكمات نورمبرج، على الرغم من كراهيته للنازيين، دفاعا عن المبدأ القانوني الأميركي الأساسي والذي يمنع توجيه الاتهام جنائيا إلى أي شخص على أساس قانون ذي أثر رجعي. لقد جازف ويبتسر وتافت، مثلهما كمثل الستة الآخرين الذين تناولهم كينيدي، بخسارة مستقبلهم السياسي وتشويه سمعتهم، باتخاذ قرارات صعبة، لأنهم كانوا يعتقدون حقا أنهم يدافعون عن المصالح العليا لبلادهم.

الواقع أن مثل هذه الشجاعة السياسية ليست شيئا من الماضي، ففي الأسبوع الفائت، رفض 11 عضوا محافظا في البرلمان البريطاني إعطاء حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي "سلطات هنري الثامن" ــ السلطات اللازمة لإنشاء قوانين جديدة أو إلغاء قوانين سابقة، دون الحصول على موافقة برلمانية. وبقيادة النائب العام السابق دومينيك جريف، رفض أعضاء البرلمان المتمردون دعم مثل هذه الخطوة، بصرف النظر عن الثمن. وقد تبين أن الثمن كان باهظا: فقد تلقى جريف تهديدات بالقتل، وأقيل آخرون من قِبَل قيادات حزب المحافظين.

أما الولايات المتحدة، فقد تحولت اليوم إلى مكان حيث لا يمكنك أن تلمس مثل هذه الشجاعة ونكران الذات. ولكن في حين يحاول الرئيس دونالد ترمب والأغلبية الجمهورية في الكونجرس إقرار مشروع القانون الضريبي الذي لن يعود بالنفع إلا على الأسر الأكثر ثراءً في أميركا على حساب تكبيل البلاد بأكثر من تريليون دولار في هيئة ديون إضافية، فإن مثل هذه الشجاعة تصبح ضرورية أكثر من أي وقت مضى.

لقد شجب الجمهوريون في الولايات المتحدة لفترة طويلة أي تدبير من شأنه أن يزيد من عجز الموازنة الأميركية. حتى أن روب بورتمان من ولاية أوهايو شغل منصب مدير مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض في عهد جورج دبليو بوش. ولكنهم رغم ذلك، يؤيدون الآن التخفيضات الضريبية التي ستؤدي حتما إلى نمو العجز بقدر ما نما في عهد الرئيس باراك أوباما، إن لم يكن أكثر. (وينبغي لنا أن نلاحظ أن أوباما كان يحاول درء أزمة كساد أعظم أخرى، وليس تقديم إعفاءات ضريبية كبيرة للممولين الأثرياء).

لا شك أن سبعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري ــ سوزان كولينز من ولاية مين، وروبرت كوركر من تينيسي، وجيف فليك وجون ماكين من أريزونا، ورون جونسون ومن ويسكونسون، وليزا موركوفسكي من ألاسكا، وماركو روبيو من فلوريدا ــ أعربوا عن قلقهم إزاء مشروع القانون. وتعكس هذه الشواغل مخاوف أكثر جوهرية، والتي أعرب عنها نفس أعضاء مجلس الشيوخ بدرجات متفاوتة، إزاء تسبب إدارة ترمب في إلحاق أضرار جسيمة بالمؤسسات الأميركية.

ولكن حتى أعضاء مجلس الشيوخ هؤلاء يبدو أنهم أذعنوا الآن، فوعدوا فعليا بتزويد ترمب بانتصار تشريعي مهم لمساعدته في دعم رئاسته المتخبطة، على حساب تعميق التفاوت بين الناس في الأمد الأبعد. وفي قيامهم بهذا فإنهم يضعون الولاء الحزبي القَبَلي فوق مصالح بلادهم.

بطبيعة الحال، من الصعب أن نطلب المزيد من البطولة من ماكين. ذلك أن شجاعته كأسير حرب لمدة خمس سنوات في فيتنام لا تبدو موضع شك إلا في نظر ترمب، كما زادت الطريقة الكريمة التي يكافح بها سرطان الدماغ اليوم من احترام أغلب الأميركيين له. ولكن الحقيقة هي أن ماكين يتراجع الآن عن دعوته التي أطلقها لدى عودته إلى مجلس الشيوخ بعد جراحة في الدماغ، عائدا إلى "الطريقة القديمة للتشريع في مجلس الشيوخ"، بما في ذلك من خلال جلسات استماع اللجنة العامة حول مشاريع القوانين.

كما فشل زميل ماكين من ولاية أريزونا على نحو مماثل في دعم كلماته بالأفعال. فمؤخرا، ألقى فليك، الذي أسمى مذكراته "ضمير المحافظ"، خطابا حارقا في مجلس الشيوخ في إدانة ترمب، الذي يرى فليك أنه يهدد "المبادئ، والحريات، والمؤسسات" الأميركية، ويتجاهل "الحقيقة واللياقة"، وينخرط في "استفزازات طائشة" وتافهة. ورغم كل هذا، يعتزم فليك دعم مشروع قانون ترمب الضريبي دون أن يبدي حتى أقل قدر من الامتعاض.

لقد لعبت ليزا موركوفسكي وكولينز دورا بالغ الأهمية في منع إلغاء قانون الرعاية الميسرة لعام 2010 والاستعاضة عنه بمشروع قانون وحشي للرعاية الصحية بدعم من ترمب. كما قدم كوركر نفسه بوصفه بعيدا بعض الشيء عن مستنقع ترمب. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتخفيضات الضريبية لصالح الأثرياء، سنجد أن هذه الشخصيات على استعداد، كأي معاون مخلص لترمب، لمقايضة شرفهم بقبول عشيرتهم لهم.

بعد سنوات من وقتنا الحاضر، سوف يتناول بعض الساسة الشباب الطموحين رئاسة ترمب بالدراسة، وفي محاولة لشرح الأحداث التي تتوالى فصولها أمامنا الآن، سوف يتوصلون إلى تكوين لمحات على غرار اللمحات التي سجلها كينيدي، ولكنها "لمحات من الجبن" تركز على افتقار الجمهوريين إلى النزاهة الشخصية والاستقامة. والسؤال هو كيف قد تكون حال الديمقراطية الأميركية بحلول ذلك الوقت.

* نينا خروشوفا، أستاذة في برنامج الدراسات العليا للشؤون الدولية في المدرسة الجديدة في نيويورك ومؤلفة كتاب تخيل نابوكوف: روسيا بين الفن والسياسة، وكتاب فقدت خروشوف: رحلة في معسكرات العمل من العقل الروسي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق