إسلاميات - القرآن الكريم

اصالة الرفق واللين في الإسلام

في المجتمعات والحكومات في باب التزاحم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)

المراد من (لِنْتَ لَهُمْ) اللين التكويني

البصيرة الثالثة: أن الظاهر أن اللين في قوله تعالى: (لِنْتَ لَهُمْ) المراد به اللين التكويني لا التشريعي ويعني التكويني أنه (صلى الله عليه وآله) كان بسجيته وطبعه وشاكلته النفسية ليّناً عكس من يكون بطبعه وشاكلته فظاً غليظاً قاسياً عنيفاً شديداً، فان هذه الصفة (اللين، وضدها العنف والفظاعة) كسائر الصفات النفسانية فان بعض الناس بطبعه حليم أو كريم أو شجاع وبعضهم جبان أو بخيل أو غضوب.

والدليل على أن المراد به (لِنْتَ) اللين التكويني أنه تعالى أخبر عنه بصيغة الماضي ولو كان تشريعياً لكان المناسب أن يقول (فبما رحمة من الله لِن لهم) كما قال (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فان فاعفُ أمر تشريعي وليس إخباراً عن أمر تكويني، أو لناسب أن يقول (فبما رحمة من الله نأمرك بأن تلين لهم) كما يدل على أنه تكويني، قوله: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ) مما يعني أنه ليس فظاً ولا غليظ القلب.

العِبرة: اختاروا القائد الليّن الرفيق بطبعه

والعبرة من ذلك: أن القائد الذي يعيّن أو ينتخب لقيادة الأمة أو الشعب أو حتى الحزب والعشيرة والاتحاد والنقابة، من مميزاته أن يكون ليّناً بطبعه غير فظ ولا غليظ القلب، وعليه: فلو دار الأمر بين أن نختار معلماً دمث الأخلاق ليناً هشاً بشاً وبين أن نختار معلماً قاسياً عنيفاً كان الأول أرجح بلا شك، وكذلك لو دار الأمر بين أن تختار الزوجة زوجاً عنيفاً أو ليناً أو العكس أو أن يختار الأعضاء قائداً للحزب أو ينتخب الشعب رئيساً أو قائداً أو غير ذلك.

فانه إذا كان من أشعة رحمة الله تعالى أن يختار لمن يرسله إلى الناس كافة رسولاً ليناً غير فظ ولا غليظ، وكان الله هو الأعرف بما يصلح لعباده وبما يصلحهم وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً قدوة وأسوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2) كان الأولى بنا أن نختار للقيادة والإدارة في كافة المستويات الشخص اللين الخلوق السمح أو الإدارة أو المجلس اللّين الوَصول الحكيم الرفيق.

إضافة إلى أن الله تعالى يعلل سرّ لين الرسول لهم بأنه (صلى الله عليه وآله) ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) مما يعني أن اللين، إضافة إلى أنه كمال ذاتي، فانه الطريق الأنجع والأصلح لسَوْق الناس إلى الكمال والدين والأخلاق والفضيلة.

بل ان قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(3) دليل على أن الغليظ قلباً يتجلى عنفه على جوارحه إذ لا ينضح من الإناء إلا الذي كان فيه، وكذلك الليّن تماماً.

اللين اختياري اقتضائي

ولكن هذا اللين في الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس أمراً قسرياً جبرياً غير اختياري بل انه تكويني اقتضائي لا عِلّي، بل أن عموم الصفات النفسية هي من هذا النمط فإن الصفات النفسية قابلة للتغيير والتطوير وليست صفات لازمة قهرية للإنسان، ولذا نجد أن الجبان يمكن أن يتحول إلى شجاع بالتلقين والإيحاء المستمر وبالممارسة وغير ذلك، وكذلك البخيل يمكن أن يتحول إلى كريم وبالعكس، نعم التغيير في الصفات النفسية صعب لكنه ليس بالمحال.

ثم أن الصفات الإيجابية النفسية منحة من الله تعالى لكن فرقها عن الصفات الظاهرية كقسمات الوجه والطول والقصر وغيرها أنها قابلة للتغيير عكس الصفات الجسمانية، على أن بعض الصفات الجسمانية تقبل التغيير بتدخل خارجي كالعملية الجراحية.

والعبرة من ذلك أيضاً: أن البخيل والجبان والغضوب سيء الأخلاق وإن أمكن أن يتغير بالجد والجهاد وترويض النفس، فانه ليس من الراجح أصلاً اختياره كقائد وإن وعد بأن يغير ذاته؛ إذ ما أكثر الوعود وأقل الوفاء! فالأسلم والأرجح اختيار القائد أو المرجع أو المعلم الحليم الشجاع الكريم بطبعه وبذاته من البداية.

محورية اللين والرفق في الروايات الشريفة

والغريب أن نجد الروايات الشريفة تركز أكبر التركيز على صفة الحلم وسعة الصدر والرفق واللين في العلماء وغيرهم.. حتى ورد في الرواية:

(قال أبو عبد الله (عليه السلام): "إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ فَذَلِكَ فِي الدَّرْكِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ إِذَا وُعِظَ أَنِفَ وَإِذَا وَعَظَ عَنَّفَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّانِي مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنْ يَضَعَ الْعِلْمَ عِنْدَ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالشَّرَفِ وَلَا يَرَى لَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَضْعاً فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الثَّالِثِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي عِلْمِهِ مَذْهَبَ الْجَبَابِرَةِ وَالسَّلَاطِينِ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قُصِّرَ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَمْرِهِ غَضِبَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ أَحَادِيثَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيَغْزُرَ بِهِ عِلْمُهُ وَيَكْثُرَ بِهِ حَدِيثُهُ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الْخَامِسِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا وَيَقُولُ سَلُونِي وَلَعَلَّهُ لَا يُصِيبُ حَرْفاً وَاحِداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُتَكَلِّفِينَ فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّادِسِ مِنَ النَّارِ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَتَّخِذُ عِلْمَهُ مُرُوءَةً وَعَقْلًا فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ السَّابِعِ مِنَ النَّارِ"(4)

العالم الذي يخزن علمه ويمنعه من الناس في الدرك الأول من النار!

ولعل المراد من "أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ" والذي يستحق به أن يكون في الدرك الأول من النار، ذلك العالم الذي يمنع العلم الذي يحتاجه الناس في شؤون دينهم أو دنياهم مما كان في دائرة الواجبات الكفائية، ومن العلوم التي يحتاجها الناس: عِلمُ العالم في فضح عدوان الظالم؛ فان الحكومات الجائرة تتستر على استبدادها وظلمها ومصادرتها لحقوق الناس وآرائهم وأموالهم، تتستر بإعلام موجّه مزيّف خداع لا يكتشفه عادة إلا العلماء وذوي الفهم والبصيرة فإذا سكت هؤلاء عن بيان مظالم العباد تجرّأ الظالم أكثر فأكثر فكان العالم شريك الظالم في ظلمه وعدوانه وسفكه للدماء وهتكه للأَعراض، ومن الأَعراض: سمعة الناس والمعارضة، كما كان شريك الظالم في مصادرته للحقوق، ومن الحقوق آراء الناس.

والذي إذا وُعِظ أنف وإذا وَعَظَ عنّف في الدرك الثاني من النار!

ثم ان العلماء الذي يُودَعون في الدرك الثاني من الناس هم من يتصف بانه "إِذَا وُعِظَ أَنِفَ وَإِذَا وَعَظَ عَنَّفَ" فكأنّه يرى نفسه فوق النقد لذا يأنف الوعظ والنصيحة ويتكبر عليها ويشمئز من الناصح الناقد المعارض الحكيم، وفي المقابل فانه إذا وَعَظ الناس وعظهم بعنف لا برفق مما يسبب فرارهم عن الدين والحق والعدالة فيكون علة للضلال والفساد لذا يكون في الدرك الثاني من النار. والحديث عن هذا الحديث بحاجة إلى مقالة مستقلة.

كما ورد في الرواية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الصُّدُودُ لِأَوْلِيَائِي، فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَبُوا لَهُمْ وَعَانَدُوهُمْ وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ"(5)

الطغاة في مواجهة الآيات البيّنات

ومن أظهر مصاديق (الذين يعنّفون المؤمنين في دينهم) أولئك الطغاة والمستبدون الذين إذا أمرهم الناس بالعمل بآية الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(6) أو آية الحرية (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(7) و(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(8) وآية العدل والإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(9) أو آية التعددية (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)(10) أو آية الأمة الواحدة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(11)، إذا أمروهم بذلك واجهوهم بصنوف الاتهام بالعمالة وبأنواع التسقيط الاجتماعي وبالحصار الاقتصادي والسياسي أو بالسجن والتعذيب أو بالنفي والإبعاد أو غير ذلك.

ومن ذلك كله نعرف أن الأصل في الإسلام هو اللين والرفق والمداراة لخلق الله والتسامح والاغضاء عن السيئة، وأيضاً عدم التشدد في أمور الدين بما لم يدل عليه الدليل بل باختراع من عند أنفسنا.

من فقه رواية: "وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ... وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ..."

وقد سبق أن نقلنا رواية تدل على أن المنهج في الشريعة الإسلامية الغرّاء هو منهج اللين لا الشدة، وحيث تساءل العديد من الأفاضل عن فقه الرواية ووجه جمعها مع سائر الروايات ومنها "أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا"(12) فلا بد من التوقف قليلاً عند بعض فقه الحديث فيها على أن استقصاء أطراف الكلام فيها بحاجة إلى دراسة مستقلة.

فقد ورد في الرواية عن حنان بن سدير قال: "كُنْتُ أَنَا وَأَبِي وَأَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ الْقَصِيرُ وَزِيَادُ الْأَحْلَامِ حُجَّاجاً فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَرَأَى زِيَاداً وَقَدْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَ (عليه السلام): وَلِمَ أَحْرَمْتَ مِنَ الْكُوفَةِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعُدَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. فَقَالَ (عليه السلام) مَا بَلَّغَكَ هَذَا إِلَّا كَذَّابٌ. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِأَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟ فَقَالَ: مِنَ الرَّبَذَةِ. فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: وَلِمَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ أَنَّ قَبْرَ أَبِي ذَرٍّ بِهَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ لَا تَجُوزَهُ. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِأَبِي وَعَبْدِ الرَّحِيمِ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتُمَا؟ فَقَالَا: مِنَ الْعَقِيقِ. فَقَالَ (عليه السلام): أَصَبْتُمَا الرُّخْصَةَ وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"(13).

وتحقيق المطلب في ضمن النقاط التالية:

من المحرمات اختراع تعقيدات وتشديدات مبتدعة في الشريعة

أ- إن كل ما حدّ الشارع له حدوداً، فانه لا يجوز تجاوزها متذرعين بالرغبة في الأشد والاصعب لأنه أكثر ثواباً، فالحج حدّه الميقات ولا يجوز الإحرام قبل الميقات فانه تشريع محرم ولا يصح التعلل بانه حيث كان أصعب وأشق فهو أكثر ثواباً! ألا ترى أن للصلاة حداً لا يجوز تجاوزه؟ فلا يجوز مثلاً أن يصلي الصبح عشر ركعات متذرعاً بانه أصعب وأشق؟ أو يصلي بمائة ركوع في الركعة الواحدة! وفي غير الصلاة الأمر كذلك أيضاً كأن يصوم صوم الوصال أو يبقى صائماً حتى بعد المغرب.. وهكذا.

ب- ثم أن الإمام (عليه السلام) صحّح له المعلومة الخاطئة التي كانت قد بلغته ولعله كان قد سمع رواية مرسلة بـ"مَا بَعُدَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ"(14) ولذا قال "بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ" فأوضح له الإمام ان الرواية مكذوبة عليهم، بل حتى لو كانت بلغته بطريق معتبر فان الإمام صرح ههنا بخطأه فان الثقة قد يخطئ أحياناً، نعم انه يحتمل أن يكون وجه التكذيب هو تفسيره للرواية بالإحرام قبل الميقات بلا نذر لا الإحرام من أبعد المواقيت الخمسة أو الستة فتأمل.

ج- قوله (عليه السلام) للَّذين أحرما من (العقيق) وهو الميقات المعروف (اصبتما الرخصة) يفيد أن غيره، كالإحرام قبل الميقات، غير مرخّص فيه وغير جائز (واتبعتما السنة) يفيد أن غيره بدعة غير سنة.

مرجوحية النذر والقسم والعهد حتى على الطاعات!

د- وأما قوله "وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ" فالظاهر أنه مطلب آخر أضافه الإمام (عليه السلام) لمزيد الفائدة إذ العطف التفسيري خلاف الأصل والأصل في العطف عطف المبائن على المبائن، فقد بيّن الإمام (عليه السلام) أولاً حكم تجاوز الحد الإلهي المقرر بالانتقال إلى بدعة الأصعب الأشد(15) ثم بيّن الإمام (عليه السلام) أنه لو وُجِد للتشريع الإلهي حدّان كلاهما حلال لكن أحدهما أصعب فالأرجح الأخذ باليسير.

ومثال ذلك في نفس المقام: الإحرام قبل الميقات بالنذر فانه بدون نذر بدعة وباطل – وهو الصورة السابقة – لكنه مع النذر جائز فالجائز أمران: الإحرام من الميقات كسائر الناس والإحرام قبل الميقات بالنذر.

وهذان كلاهما حلال لكن الأول أرجح بلا شك؛ وذلك لأن النذر مكروه مرجوح فانه يوقع الإنسان في مشقة جديدة وهذا ما لا يريده الشارع، ويكفي أن يلتزم الشخص بالأوامر والنواهي الواردة ولا داعي لأن يضيف إلى وظائفه وظيفة جديدة، هذا إضافة إلى أن كثيراً من الناس ينذر ثم لا يلتزم فلم توريط النفس بالحرام؟

وكذلك القَسَم والعهد فانها مكروهة كالنذر ولو كانت لفعل الأمر المستحب كأن ينذر أو يقسم أو يعاهد الله على أن يحج حجة مستحبة أو غير ذلك(16).

وذلك هو ما تدل عليه الروايات وصرحت به الفتاوى:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): "لَا تَتَعَرَّضُوا لِلْحُقُوقِ فَإِذَا لَزِمَتْكُمْ فَاصْبِرُوا لَهَا"(17)

والتعرض للحقوق أي بالنذر والقسم وشبه ذلك (فاذا لزمتكم) أي بوجه شرعي كالنذر أو الشرط.

وقال (عليه السلام): "إِنِّي أَكْرَهُ الْإِيجَابَ: أَنْ يُوجِبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِه‏"(18).

سائر الفوائد الفقهية لفقه مقاصد الشريعة:

د- مقاصد الشريعة تصلح مرجحاً في باب التزاحم

ثم إن مقاصد الشريعة التي تستقى من الكتاب العزيز والروايات المعتبرة، يمكن أن تكون لها المرجعية الكبرى في باب التزاحم(19) وفي تشخيص الأهم من المهم، فإذا تزاحم أمران لكل منهما مصلحة فانه يقدم الأهم، إلزاماً إن كانت المصلحة الراجحة بحد المنع من النقيض وترجيحاً إن لم تبلغ ذلك الحد، لكن ما هو الأهم؟ كثيراً ما يتحيّر العقلاء أو المتشرعة في تحديده سواء في الشؤون الفردية أم الاجتماعية أم في شؤون الحكومة.

وهنا تبرز أهمية تحديد مقاصد الشريعة الأساسية والفرعية في تشخيص الأهم من المهم.

وذلك تارة يكون في دائرة الشؤون الشخصية وأخرى يكون في الفقه الاجتماعي وفقه الدولة الإسلامية فلنبدأ بفقه الدولة والفقه الاجتماعي ولنضرب لذلك بعض الشواهد:

المشهور تقدم حق الناس على حق الله

فقد نسب إلى المشهور تقدم حق الناس على حق الله قال السيد العم (دام ظله): (خامسها: إن المشهور بين الفقهاء: تقدّم حقّ الناس عند التزاحم مع حقّ الله، ولعلّه المرتكز في أذهان المتشرّعة)(20)، و(وقد يؤيّد ارتكاز المتشرعة على أهمية حق الناس بما ورد في الحج وغيره: من أنّ الحاجّ يغفر له، فقال الراوي: حتى حق الناس. حيث يدلّ على إنّ مرتكز الراوي كان على إنّ حق الناس أهمّ، ولذا سأل عنه، لظهور المقام في السؤال عن الأهم)(21).

نعم ناقش العديد من الفقهاء في ذلك صغرى وشهرة، كما نقل السيد العم تفصيله في كتابه فراجع.

وقد استدل الذين ذهبوا إلى تقدم حق الناس بوجوه منها (وقد يذكر للزوم الترجيح بحق الناس وجوه: أحدها: إنّ في حقّ الناس اجتماع حقّين، لأن الله تعالى هو الذي جعل حق الناس، فهو حق الله أيضاً)(22)

ونكرر ههنا أن البحث ههنا ليس بالأساس لتبني إحدى الآراء والمناقشة والأخذ والرد في الأدلة فان ذلك يستدعي مجلداً ضخماً بل الإشارة فقط إلى العديد من الروايات وأن فتاوى جمع معتد به من الفقهاء على ذلك.

1- في دائرة الفقه الاجتماعي وفقه الدولة:

تقديم الكذب على ضياع أموال الناس

أ- أن الكذب من المحرمات الكبيرة بلا شك والقسم كاذباً أشد حرمة بدون ريب لكن لو توقف إنقاذ مال الناس على الكذب بل والقسم كاذباً فليكذب وينقذ أموال الناس.

وذلك ما دلت عليه الروايات فمنها ما جاء في كتاب بيان الأصول: (في تزاحم الكذب – الذي حرمته من حق الله تعالى – مع التسبيب لإضاعة حقّ الناس من بدن أو مال – الذي حرمته من حقّ الناس – فقد وردت بتقديم حق الناس فيه طائفة من الروايات ومنها: الموثق (قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): "إنّ معي بضائع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّار، فيحلّفونا عليها، فنحلف لهم؟ فقال (عليه السلام): وددت إنّي أقدر على أن أُجيز أموال المسلمين كلّها وأحلف عليها"(23)). ونحوه غيره مما لا يجازف مدّعي تواتره معنىً أو إجمالاً.

وقد افتى بمضمونه الفقهاء، وربما ادعى الإجماع عليه، والتسالم مسلّم(24)(25).

لو دار الأمر بين تزويج الزانية أو إجراء الحد عليها

ب- لو دار الأمر بين تزويج الزانية أو إجراء الحد عليها فإن المعروف أن الزانية (لا عن إكراه) يجري عليها الحد بالجلد مائة جلدة إذا كانت غير محصنة ولكن الحاكم الشرعي إذا رأى أن حدّها لا يحل المشكلة لأن الزنا كثيراً ما ينشأ من الحاجة الجنسية وكثيراً ما ينشأ من الفقر والحاجة المادية فارتأى أن الأصلح تزويجها للوفاء بكلتا الحاجتين وللقضاء على جذور الفساد فلا شك في هذه الصورة في أرجحية أو تعيّن –حسبما يرى الحاكم الشرعي- تزويجها لأنه يقلع مادة الفساد أما إجراء الحد فقد يشكل رادعاً مؤقتاً لكنها ستعود ولو سراً نظراً لاحدى الحاجتين.

ولذا ورد أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما تصدى لأمر الحكومة أمر في ملف الزانيات بأن يزوّجن ثم خطط لتزويجهن فتزوجن بأجمعهن.

نعم قد يكون الزنا لخبث في ذات المرأة أو الرجل فهنا يكون الحد هو الرادع إلى درجة كبيرة.

لو دار الأمر بين قرار الحرب أو السلم

ج- وفي أمر الحكومة لو دار الأمر بين أن تدخل الدولة الإسلامية أو الوطنية أو المنتخبة في معاهدة سلم وسلام مع دولة أخرى وبين أن تدخل في حرب معها (مع فرض أن العدو يستفز الدولة الإسلامية باستمرار وأن الدخول إلى الحرب من وجهة نظر مجلس الشعب مثلاً أمر مبرّر تماماً ولكن أمكن الصلح والسلم ولو بتحمل بعض الخِفة والاستضعاف في المقياس الدولي أو كان ذلك متوقفاً على دفع أموال باهظة للدولة المستفزة، ثم وجدنا أن الناس –مع ذلك- يميلون إلى السلم والصلح، فان الأرجح، مبدئياً، الرفق بالناس وترجيح السلم بدل الخوض في الحرب بأهوالها وإن كانت لها مكاسب نفسية وسياسية كبرى، وذلك لأن دفع المضرة البالغة أولى من جلب المنفعة الكبيرة ولأن مقتضى الرحمة بالناس هو ذلك.

وقد قال تعالى في مورد آخر (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(26) ولعل وجه الأمر بالتوكل على الله تعالى أن العدو قد يتخذ السلم خدعة وذريعة للهجوم المباغت أو غير ذلك ولكن مع ذلك فالسلم أرجح مع الأخذ بسبل الاحتياط كاملة كما لا يخفى.

2- في دائرة الشؤون الشخصية:

وأما في دائرة الشؤون الشخصية فإليكم بعض الأمثلة:

لو دار الأمر بين الغُسل أو سقي الحيوان

أ- لو دار أمر المكلف إذا لم يكن عنده من الماء إلا بمقدار الغسل أو الوضوء بين أن يغتسل أو يتوضأ به ليصلي الصلاة الواجبة وبين أن يعطي هذا الماء لحيوان عطشان ظامئ يملكه في داره أو مزرعته، فقد صَرحَ عدد من الفقهاء، بوجوب إعطائه للحيوان لأنه واجب النفقة عليه وعليه فانه ليس (واجداً للماء) إذ قال تعالى: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(27) فان عدم الوجدان التشريعي (لأن الشارع أمره بإعطائه للحيوان) كعدم الوجدان التكويني يوجب انتقال وظيفته للتيمم.

و(لأنه واجب النفقة عليه) هو ما علّله به الفقهاء، لكن لذلك بُعداً أعمق في مقاصد الشريعة وفي بُعد الرحمة الإلهية الشاملة للحيوان أيضاً.

كما لنظائره جذر أعمق في مسألة التزاحم بين حقوق الله وحقوق الناس كما سبقت الإشارة إليه.

لو دار الأمر بين الصوم وإطعام المضطر

ب- لو كان المكلف في شهر رمضان لا يملك إلا طعام السحور ودار الأمر بين أن يعطيه لفقير يتضور جوعاً وبين أن يتسحر به ليقدر على الصيام (بحيث إذا لم يتسحر لم يمكنه الصيام قطعاً) فان الفقير إذا كان في معرض الخطر وجب عليه أن يقدمه له وحرم عليه أن يتسحر به.

لو دار الأمر بين الحج وتسديد الدين

ج- ولو دار الأمر بين أن يسدد دين الناس عليه وبين أن يحج حجاً قد استقر في ذمته (بان كان مستطيعاً في الأعوام السابقة ولم يحج عمداً فانه حينئذٍ لو مات قيل له "مت إن شئت يهودياً أو نصرانياً".

فقد احتمل جمع من الفقهاء تقديم حق الناس على حق الله فالواجب عليه أن يسدد دين الناس بذلك وإن فَقَد بذلك القدرة على أن يحج: (قال السيد الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في مسألة التزاحم بين أداء الدَين المطالب الحال، وبين الحجّ المستقرّ في الذمّة ما ترجمته: (وإن كان يحتمل تقدم الدَين إذا كان الديّان مطالبون، من جهة إنّه حقّ الناس، لكن يحتمل تقدّم الحجّ أيضاً، من جهة المبالغات والتأكيدات الواردة فيه...)(28)(29)

نعم احتمل بعض الفقهاء ترجيح الحج لأنه استقر في ذمته وأمره شديد جداً حسب الروايات الكثيرة، وقال بعض بالتخيير.

وللبحث تتمة بإذن الله تعالى..

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.........................................
(1) سورة آل عمران: آية 159.
(2) سورة الأحزاب: 21.
(3) سورة الإسراء: آية 84.
(4) الخصال: ج2 ص352.
(5) الكافي: ج2 ص351.
(6) سورة الشورى: آية 38.
(7) سورة الأعراف: آية 157.
(8) سورة البقرة: آية 256.
(9) سورة النحل: آية 90.
(10) سورة المطففين: آية 26.
(11) سورة المؤمنون: آية 52.
(12) بحار الأنوار: ج67 ص191.
(13) الإستبصار: ج2 ص162.
(14) تهذيب الأحكام: ج5 ص52.
(15) من دون أن يكون مندرجاً في إطار المستحبات. فتدبر
(16) وقد يستثنى من ذلك من قطع بوفائه بالنذر أو القسم ولعل به يوجه نذرهم (عليهم السلام) فتأمل.
(17) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص168.
(18) الكافي: ج7 ص455.
(19) وهو غير باب التعارض السابق الذكر، كما لا يخفى.
(20) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص22.
(21) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص23.
(22) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص19.
(23) وسائل الشيعة: ج23 ص227.
(24) انظر المكاسب المحرمة للشيخ الانصاري وحواشيها وشروحها في مسألة مسوّغات الكذب.
(25) بيان الأصول (التعادل والترجيح) ج9 ص26-27.
(26) سورة الأنفال: آية 61.
(27) سورة النساء: آية 43.
(28) رسالة السؤال والجواب: ص118.
(29) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ج9 ص20.

اضف تعليق