إن مسؤولية التصدي للحاكم الجائر وللسلطات الجائرة لا تقتصر على الابعاد الخارجية فقط، بل تشمل الابعاد الداخلية أيضاً، كما أنها لا تقتصر على مواجهة الملك الجائر، بل تشمل مطلق ذي السلطة، أي عنوان كان يحمله، فقد يحمل عنوان ملك وقد يحمل عنوان رئيس الجمهورية أو الأمير أو الحاكم، أو أي عنوان آخر من العناوين، إذ لا يهمنا العنوان، إنما الذي يهم أن يكون كل ذي سلطة خاصة، ومن هو في الموقع الأول في البلاد، ومن السلطات بيده، تحت رقابة مدنية وجماهيرية دائمة وصارمة.

ذاك الإنسان البعيد عن جادة الحكمة، في ذاك البلد في شمال أفريقيا، كان يقول: (ليس لي موقع حكومي رسمي فلا يستطيع الشعب أو أي أحد أن يعزلني! ليس عندي شيء حتى يعزلني!) وفي الواقع كل الأمور كانت بيده، الكل يدري، وكل أمي ومثقف يعلم بذلك، ولكنها مغالطة ساذجة، بل بلهاء، ليس بيدي شيء، وإنما أنا قائد لهذه الثورة الشعبية، لست رئيس جمهورية، ولا رئيس وزراء، فالشعب لا يستطيع أن يعزلني؛ إذ ليس عندي موقع ومنصب حتى يعزلني!

إن هذه المسؤولية مسؤولية كبيرة، وليست مسؤولية موجهة إلى العلماء والحوزات أو المثقفين والجامعات فقط، بل هي عامة شاملة لكافة المؤمنين وكافة المؤمنات، فإنهم جميعاً مسؤولون ومسؤولات عن التصدي لأي ظلم يصدر من أي رئيس أو وزير أو معاون وزير، أو من أي شخص له موقع رسمي في الدولة.

التداعيات المجتمعية في تغيير كتلة العملة:

من أمثلة التداعيات الداخلية ذلك المبحث المتداول في العديد من الدول، لإلغاء الأصفار من العملة، الدينار العراقي كنموذج، فالألف دينار يعادل أقل من دولار تقريباً، فالبحث المطروح هو إن الأصفار تلغى، وتصير الألف دينار ديناراً واحداً، فتكون للدينار القوة الشرائية نفسها، فإن عامة المؤمنين والمؤمنات ينبغي أن يكون لهم موقف من ذلك، ففي هذه المعادلة الاقتصادية لابد من استبيان أن هذا القرار هل هو لصالح الشعب أم لصالح الدولة وبضرر الشعب؟ إن ذلك مما يحتاج إلى وعي مسبق؛ لأن نتائج هذا القرار قد تكون سلبية على الملايين من العوائل.

وبرغم إدعاء الدولة أن القرار يؤثر إيجاباً، ولكن لنلاحظ الجانب السلبي للموضوع أيضاً، فإن قيمة البضائع وكلفتها سترتفع بذلك، لنفرض بضاعة ما، الكيلوغرام منها كلفته الحالية عشرة آلاف دينار عراقي، فإذا أثّر التضخم والغلاء والاحتكار ومنع استيراد هذه البضاعة مثلاً، فإنها ستصبح، بقيمة خمسة عشر ألف دينار أو عشرين ألف دينار مثلاً، وهنا ستثور ثائرة الناس ضد الدولة، إذا ارتفعت بهذه النسبة كلفة الكهرباء والماء والوقود والخبز، وأية سلعة تدعمها الدولة، أو البضاعة المرتبطة بمنطق اليوم بالدولة، (وإن كان بشكل غير مباشر) وسيحتج الناس بشدة على هذا الارتفاع بالأسعار، من عشرة آلاف دينار مثلاً، إلى خمسة عشر ألف دينار، أو عشرين ألف؛ لأن وَقْع ذلك شديد من الناحية النفسية، كما هو من الناحية الواقعية، فإنه يضغط على الناس بشدة، فيضغطون على الدولة، وحيث تخشى الدولة من أن تفقد شعبيتها وتفقد الأصوات في الانتخابات، أو تخاف من حصول اضطرابات فإنها ستحاول أن تسيطر على زيادة الأسعار.

ولكن إذا حذفت الأصفار من العشرة آلاف دينار، فصارت عشرة دنانير، فالليتر من البنزين مثلاً ارتفع من عشرة دنانير إلى خمسة عشر ديناراً، أو حتى إلى عشرين، فإن ذلك لن يؤثر نفسياً على الناس كثيراً، فهي مسألة نفسية اقتصادية، فإن الإنسان إذا رأى ما قيمته عشرة آلاف دينار صار فجأة بخمسة عشر ألف دينار فإنه سيتملكه الرعب، ولعله يواجه الدولة، أما إذا كانت قيمته عشرة دنانير فصارت خمسة عشر ديناراً فإن الأمر أهون بالنسبة له بكثير، وهذه مسألة طبيعية، وهذه القضية ذكرناها كمجرد مثال، وإلا فإن مثل هذه القضية تحتاج إلى لجان متخصصة مشتركة بين الدولة وبين المؤسسات ومراكز الدراسات الأهلية والحوزات والجامعات ومفكري الأمة، لكي يدرسوا القضية من كافة زواياها في إيجابياتها وسلبياتها، ثم يتخذوا القرار المناسب.

لكن المشكلة أن الدولة متفردة باتخاذ القرارات، و لاشك إنها ستذكر بعض الإيجابيات لذلك؛ إذ كل شيء حتى الشيء الضار فيه إيجابيات، قال تعالیٰ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[1].

وعليه، فإن المؤمنين والمؤمنات عامة إذا آمنوا بأنهم، كما كلفهم الله سبحانه وتعالى (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فإنهم سینظرون في مختلف القرارات التي تتخذها الدولة، بعين التكشيك والنقد والتمحيص، بل والمطالبة بأن لا تتخذ مثل هذه القرارات إلا عبر دوائر مشتركة بين الدولة وبين الناس، وبين المراجع- المرجعيات الدينية والعلماء والمفكرين والأحرار -لا في غرف مغلقة، وبعدئذ تسوق الدولة لرأيها ما تشاء، وما يحلو لها من الأدلة والبراهين.

مقارعة(الجائر)باللسان والأبدان وبالقلب أيضاً:

هنا نذكر بعض الروايات لتزيدنا بصيرة ونوراً على نور، إن شاء الله.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام)، كما في الكافي الشريف، في حديث هذا بعضه: (فانكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[2]) هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلم ظفراً حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويمضوا على طاعته.)

وهذه الرواية تفيد أن المسؤولية ليست منحصرة في الإنكار باللسان فقط، بل القلب أيضاً يجب أن يكره الحاكم الجائر، ويكره الظلم (وابغضوهم بقلوبكم(، وأيضاً: (وألفظوا بألسنتكم(، ولا تقتصروا على القلب فقط، بل تكلموا أيضاً.

ثم إن الظاهر من (ألسنتكم) أنها من باب المثال، إذ الكتابة بالقلم أو بغيره (كالحاسبة) أيضاً كذلك، وكذلك الإشارة والحركات المعبرة عن الرفض والشجب، كالمظاهرات الصامتة مثلاً، على إننا في غنى عن ذلك لصريح قوله:(عليه السلام) (فجاهدوا بأبدانكم).

فإذا جار الحاكم وظلم وسكت الكل فإنه سيزداد جرأة على جرأة، وجموحاً على جموح، وطغياناً على طغيان، على العكس مما إذا تكلم كل واحد واحد وكتب، أو صوَّر أو رسم سواء في مواقع الانترنيت، أو التواصل الإجتماعي مثل الفيس بوك والمدوّنات والواتساب وغيرها، إضافة إلى المجلات والصحف، وما أشبه ذلك.

وإذا لم تكن هناك صحف ومجلات حرة فعليهم استخدام التكنولوجيا الحديثة وإيصال أصواتهم للعالم عبر (الآيفون والآيباد والجالاكسي) والحاسبة وغيرها، إضافة إلى أن يكتبوا رسائل ويهربونها من هنا وهنالك على شكل نشرات سرية.

إن جميع الناس لو اضطلعوا بهذه المسؤولية فسوف لا تبقى حكومة جائرة، ذلك إن من الواضح إن قلة من الناس لو تصدوا للنهي عن المنكر، فإن الحاكم الجائر قد يعتقلهم، ويزجهم في السجون أو يواجههم بطرق أخرى، ولكنهم إذا كانوا ثلاثين مليوناً، أو خمسين مليوناً، أو ثمانين مليون إنسان، وإذا تحوّل كافة المؤمنين والمؤمنات إلى كتلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يستطيع أي حاكم جائر أن يواجههم أبداً.

(فانكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم) وكما سبق فإن (الفظوا بألسنتكم) من باب المثال، لا الخصوصية والموضوعية، فبإلغاء الخصوصية ٲو بالملاك نقول: إن استحال الأمر بالكتابة والإشارة، فمن خلال المظاهرات، كأن يخرج الناس في مظاهرات صامتة، أو لابسين السواد يوم عيد انتصار الثورة المعينة، يصكون بها جباههم، وإلاّ فبالكتابة وبالإشارة وبالمظاهرات كذلك.

المظاهرات الصامتة والرموز الناطقة:

في إحدى البلاد الإسلامية[3] خرج الألوف من الناس محتجين على سیاسة الحكومة الاقتصادية التي سببت فقر الناس، ولم يكونوا يحملون لافتة يرفعونها، كونها ممنوعة، ولا (بروشورات) ونشرات يوزعوها، ولا شعارات يطلقوها، تجنبوا أي لفظ أو أية كتابة في الاحتجاج على السياسات الاقتصادية الجائرة لتلك الحكومة، حيث زادت الناس فقراً على فقر، بمنعها قانون (الأرض لله ولمن عمرها)، وبمنعها للتصدير والاستيراد بحرية، ووضعها الضرائب الباهظة على الاستيراد والتصدير، أو غير ذلك، وبأخذها الضرائب الكثيرة من الناس على أي عمل. نعم، في ذلك البلد خرج الناس بالألوف إلى الشارع، بلا شعار لا ملفوظ ولا مكتوب، وإنما كانوا قد أخرجوا جيوبهم الفوقية والسفلية، وقلبوها إلى الخارج، بمعنى: انظروا إن جيوبنا خالية من بركات هذه الدولة غير المباركة!

وحضرت المخابرات (جهاز الأمن أو المباحث) وقوات مكافحة الشغب! وشاهدت هذا المنظر الغريب، حيث الناس خارجين بالألوف دون أن يقولوا شيئاً، وإنما جيوبهم مشرعة إلى الخارج، أي ليس عندنا شيء من المال، والسبب فيه واضح، والمعنى في قلب الشاعر، بمعنى في قلب كل من يرى، وفي مرأی كل من يرى، في البداية تحيرت المخابرات، ما الذي تصنع

مع هذه الجماهير؟ إذ لا حجة يحتجون بها عليهم، إذ سيجيبهم الناس إننا لم نقل شيئاً وهل من الممنوع أن نقلب جيوبنا؟ وإننا لم نقصد المسؤولين!! إن الكل يعلم لكن بلا مستمسك! فتحيروا فترة ماذا يصنعون معهم، ثم بعد ذلك بدهاء المخابرات الشيطاني فكروا أن يكتشفوا المحاور، ورؤساء هذه المظاهرة فاعتقلوهم فيما بعد.

إذا كانت الأمة أمة ناهضة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، فإن مصيرها سيكون بأيديها، ولا يتمكن الطغاة من التلاعب بها أبداً، فإن من الواضح إن ١۰۰ مليون إنساناً، ۸۰ مليون إنساناً، أو ۳۰ مليون إنساناً- أقل أو أكثر من تعداد سكان ذاك البلد - إذا خرجوا إلى الشوارع كلهم أو أضربوا عن العمل أو اعتصموا، فحينئذٍ لا يمكن لأحد أن يتصدى لهم، والحكومة ستسقط ببساطة، أو ترضخ طبيعياً.

إن الإمام (عليه السلام) يقول: (فانكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم)، يعني تحدوهم وواجهوهم بالقوة، بقوة المنطق وبقوة الموقف، ولا تخافوا في الله لومة لائم، أو لومة واعظ، وذلك لأن كثيراً من وعّاظ السلاطين يلومون الإنسان إذا خرج، بدعوى أن هذا خلاف الشرع و الشريعة، وإن هذا القائد أو الرئيس أو الملك والأمير له القدسية والمكانة، أو ما أشبه ذلك، والحال أنه: لا شيء يعلو على الحق، ولا تخافوا في الله لومة لائم،(فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[4])، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم) بمعنى أن هؤلاء الحكام الجائرين إذا لم ينفع الكلام معهم، فعليكم أن تجاهدوهم بأبدانكم.

ومن مصاديق الجهاد بالأبدان- إما انطباقاً فهي كالصغرى لهذه الكبرى، أو مناطها فيها- (الخروج في مظاهرات سلمية(في مقابل الحكومة الجائرة، وكذا (الاعتصامات(و)الإضرابات السلمية(في مقابل تشريع قانون جائر، اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو حقوقياً، أو في مقابل ممارسة ظالمة، أو بحق مظلوم قد ظلم وسجن، أو منع من السفر أو أبعد عن وطنه، أو صودرت كتبه أو اغلقت مؤسسته أو غير ذلك، سواء أكان عالماً أم جامعياً أو غير ذلك، ومن نماذج ذلك أن يصعد الناس كلهم فوق السطوح- في ساعة معينة- ليرفعوا أصواتهم بالتكبير، وسترون أن الدولة كلها من أقصاها إلى أقصاها ستهتز، وأول من يهتز هو قصر الحاكم الجائر!

(هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً)، وهذه التفاتة هامة جداً إلى ضرورة أن لا يكون النهي عن المنكر ذريعة للوصول للرياسة، أي لتحكم مكانه، فإن هذا هو منشأ الفساد؛ إذ الصراع يبدأ عندما يريد هذا أن يتسلط، وذاك يريد السلطة أيضاً.. وهكذا.. وهنا يبدأ الاختلاف بين الأمة، كلا، بل (لله وفي الله) إحقاقاً للحق، وإبطالا للباطل (غير طالبين سلطاناً (بما هو سلطان، وحباً للرئاسة،(ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلم ظفراً)، فلا يكونن الهدف هو(الظفر) وكأن الظفر له موضوعية حتّى لو مر عبر قاطرة(الظلم)؟ (حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته.)

ذنب العامة وذنب الخاصة:

الرواية الثانية: وهي رواية رائعة أيضاً، قال أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين، كما في علل الشرائع: (إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة المنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله.[5]) فالخاصة يراد بهم الملك أو السلطان أو الحاكم أو الوزير، بل يشمل هذا المفهوم حتّى مثل رئيس الجامعة والاٴُستاذ في الجامعة أو الحوزة، ورئيس اتحاد الصحفيين مثلاً، وهكذا.. فإنهم قد يعملون بالمعاصي سراً، فإذا لم يعلم الناس بذلك[6] فليسوا مسؤولين، ولا يؤاخذهم الله سبحانه وتعالى، ولكن الله يؤاخذهم إذا علموا ولم يغيروا، كأن يعلموا أنَّ هذا العالم، أو ذاك الصحفي أو الجامعي أو هذا السلطان وذاك القائد، يعصي الله سبحانه وتعالى، كأن يصافح الأجنبي المستعمر، أو يوقع له الاتفاقيات والمعاهدات التي هي لصالح أولئك بالأساس أكثر مما هي لصالحنا، بل لعلها لا مصلحة فيها لنا أبداً.

فإن الحق: إن هذه المعاهدات والاتفاقيات ليست لصالحنا أبداً، إذ لو كانت لصالحنا، لما كانوا يركضون وراءنا، فإن الدولة المستعمرة التي تبيع- مثلاً- السلاح لبلادنا تحقق في الواقع أهدافها؛ لأنهم (مالياً) هم الرابحون، و(عسكرياً) كذلك؛ لأنهم يبيعون لهذه الدولة، وللدولة التي تعادي هذه الدولة، فيبيعون لكل الأطراف، لماذا؟ لتبقى هيمنتهم على الدول، وعلى قرارها، وعلى خلق التوازن بينها، ولكي نبقى محتاجين لها، ولكي تبقى معاملهم ومصانعهم وشركاتهم فعّالة شغّالة غير عاطلة، وغير ذلك، ثم إنهم يشعلون فتيل المعركة بين الأطراف لتبقى الحاجة إليهم وإلى أسلحتهم دائمة وأبدية! فهم المنتفعون أولاً وأخيراً ونحن المخدوعون.

والمحصلة إن المستفاد من الرواية إنه إذا رأت العامة من الخاصة خضوعاً للاستعمار مثلاً، أو ظلماً لعامة الناس، فعليهم أن يتكلموا، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً جهاراً، كأن يصافح أحدهم قادة إسرائيل، أو جهاراً يوقع على الاتفاقات الضارة بالبلاد ولم تنكر العامة ذلك بمختلف الطرق، استوجب الفريقان، العقوبة من الله عزّ وجلّ.

عقوبة العلماء بصمتهم عن الظلم والمنكر:

رواية ثالثة: عن الإمام الصادق (عليه السلام)، كما في تفسير العياشي: (إن الله بعث إلى بني إسرائيل نبياً يقال له إرميا)، حتى يحذرهم، وإجمال الرواية: إن إرميا قال لهم: إن العذاب سينزل عليكم، مع أن كثيراً منهم - حسب الظاهر- كانوا من خيرة الناس، فقال علماء بني إسرائيل للنبي إرميا: يا نبي الله، عد إلى الله، وقل له ما ذنبنا؟ السلطان الجائر ظلم وجار، أو الكثير من الناس قد ظلموا ولكن نحن العلماء لم نفعل كذلك، لكن إرميا أجاب عن الله سبحانه وتعالى بأن العذاب يشملهم أيضاً، وهذا تحذير خطير للعلماء، ولا يقتصر التحذير على العلماء الفقهاء فقط، بل العالم بالظلم قد يكون طبيباً، أو محامياً، أو مهندسا، أو أي شخص علم بالظلم فسكت، فهو أيضاً يستحق العقوبة.

الرواية تقول في تفسير هذه الآية (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [7])، (إن الله بعث إلى بني إسرائيل نبياً يقال له إرميا، فأوحى الله إليه أن قل لهم: إن البيت بيت المقدس) يعني أنه مكان مقدس، وبيت المقدس معروف، (وإن بني إسرائيل(الذين هم كانوا منتخبين، لذا أنجاهم الله من فرعون، لكنهم مع ذلك (استحقوا العقوبة)؛ لأنهم سكتوا عن المنكر والباطل والظلم، وعملوا بالمعاصي، (فلأسلطن عليهم في بلدهم من يسفك دماءهم، ويأخذ أموالهم، فإن بكوا إلي لم أرحم بكاءهم، وإن دعوني لم استجب دعاءهم، ثم لأخربنها مائة عام).

وهذا تحذير أيضاً لكافة البلاد، والتي تتميز بتطور اقتصادي ونهضة اقتصادية، في الصين مثلاً هناك نهضة اقتصادية جيدة، وبعض الحكام الجائرين وأعوانهم وأبواقهم، اتخذوا من التجربة الصينية عذراً لظلمهم، فتوهموا أنهم إذا انفتحوا اقتصادياً، وتطوروا صناعياً ومالياً، فيمكنهم الاستمرار في الاستبداد سياسياً واجتماعياً وحقوقياً، إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يقبل هذا المنطق، وسترون خلال عقدين أو أقل أن الله سينتقم من الصين وامريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها بظلمهم للأخرين، وبظلمهم أنفسهم أيضاً.

(لأخربنها مائة عام ثم لأعمرنها بعد مائة سنة) وهذا يعني إن الله سبحانه وتعالى يبدأ من جديد مع الأجيال اللاحقة، (فلما حدثهم اجتمع العلماء فقالوا: يا رسول الله، ما ذنبنا نحن ولم نكن نعمل بعملهم (فلم نكن نحن من الظلمة ولا من العصاة (فعاود لنا ربك) أن يغير قراره، إلى أن قال (ثم أوحى الله إليه إنكم رأيتم المنكر فلم تنكروه(فسلط الله عليهم (بخت نصّر)[8] فصنع بهم تلك الأهاويل الغريبة، وذاك العذاب الرهيب.

إن مسؤولية تحقيق أهداف مؤسسات المجتمع الإنساني الإيماني، من بناء المجتمع وتوفير الخدمات، والتصدي للحاكم الجائر والحكومة الطاغية، والقوانين غير الاسلامية غير الإنسانية، لهي مسؤولية عامة شاملة لكل المؤمنين والمؤمنات، من علماء وخبراء وأطباء ومحامين ومهندسين وصحفيين وتجار، وشباب ونساء وشيوخ، وحرفيين ومزارعين وغيرهم، فهل من مدّكر[9]؟

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

.............................................
[1] سورة البقرة، الآية 219.
[2] سورة الشورى، الآية 42.
[3] في مدينة اصفهان بإيران.
[4] سورة الشورى، الآية.42
[5] علل الشرائع، 5۲۲/٦، رواه الصدوق في عقاب الأعمال، ۳١١، ونقله المجلسي في البحار، ج.97
[6] الظاهر ٲن المقصود بقوله (عليه السلام) ﴿من غير ان تعلم العامة﴾ أي عن قصور، لا عن تقصير.
[7] سورة البقرة، الآية ۲5۹.
[8] بختنصر الكلدي، وهو الملك البابلي نبوخذ نصر بن نبوبلانصر (٦۰5-5٦۳﴾ ق.م، قاد الجيوش البابلية في معارك حاسمة على منطقة بلاد الشام، ودمر عدة ممالك، منها مملكة يهوذا، في حملتين، وسبا الكثيرين من سكانها إلى بابل.
[9] سياتي في الفصل السابع عشر والثامن عشر ما يكمل بعض جوانب هذا المبحث بإذن الله تعالى.

اضف تعليق