يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [1]

استلهامات قرآنية عن الدور المجتمعي للمرٲة:

يمكننا أن نستلهم حقائق عديدة، من الآية القرآنية الشريفة، ومن هاتين الكلمتين (المؤمنون والمؤمنات).

الحقيقة الأولى: هي أنه لا يصح عزل المرأة عن المسؤولية العامة الاجتماعية بأنواعها المختلفة، فالمرأة مسؤولة كما أن الرجل مسؤول، والآية القرآنية الكريمة لم تخصص المسؤولية والولاية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرجل وبالمؤمنين؛ إذ لم تقل المؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، بل قالت الآية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ) وهذا الضمير يعود للمؤمنين وللمؤمنات (أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فهذا البعض المراد به أيضاً المؤمنون والمؤمنات.

فالحقيقة الأولى أو الاستلهام الاول هو إنه لا يصح عزل النساء عن المسؤولية الدينية الاجتماعية وغيرها فإن المرأة – أيضاً- مسؤولة تماماً كالرجل في محاربة المقامر ومحالِّ اللعب بالميسر والقمار، والمرأة كالرجل مسؤولة عن محاربة المخامر ومحلات بيع الخمور، والمرأة كالرجل مسؤولة عن مواجهة الضُّلاَّل والفاسدين والمفسدين والمبتدعين والمنتحلين، والغالين البترية[2]، وأشباه أولئك من سراق العقيدة، أو سراق الأخلاق.

والحاصل: أن المرأة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف هو كافة الواجبات والمنكر كافة المحرمات.

الحقيقة الثانية والاستلهام الثاني: أن المرأة لو نصحت وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فإنه يجب أن يسمع لها، مع إننا نشاهد في كثير من المجتمعات الاستخفاف بها والاستهانة وعدم الاهتمام بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ إذ يعدون المرأة في مرتبة نازلة عن مرتبة الرجل، فإذا شاهدت الزوجة من زوجها محرما فليس لها الحق في أن تتكلم، بل إنها إذا تكلمت تواجه بالعنف من الأب أو الزوج أو الأخ، والآية الكريمة تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ) فهي مسؤولية إلهية، فإذا المرأة أمرت زوجها أو أباها أو أخاها بالمعروف، ونهته عن المنكر فعليه أن لا يتكبر على الحق وأن لا يستكبر؛ لأن استكباره إنما هو على الله سبحانه وتعالى، بل عليه أن يرضخ للحق.

إذن، يجب أن يُسمع للمرأة، لو أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، كما يسمع من الرجل؛ لأن هذه الولاية قد أعطيت لها من قبل الله سبحانه وتعالى، وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الى والتفصيل يستدعي مجالاً آخر.

الحقيقة الثالثة: على ضوء هذه الآية الشريفة، إن على المرأة أن تتصدى للمسؤولية الاجتماعية، وهذه تعد مرحلة متقدمة على الحقيقة الثانية السابقة؛ إذ الحقيقة السابقة كانت تقول إنه يجب القبول منها كلما أمرت بالمعروف أو نهت عن المنكر، والحقيقة الثالثة تقول: إنه يجب عليها أن تتصدى لهذه المسؤولية، وذلك يعني أن الله سبحانه وتعالى كما جعل الرجل ولياً وقيماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليه أن يتصدى، فالمرأة أيضاً جعلها ولياً وقيماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليها أن تتصدى.

ومن مصاديق ذلك، بل لعله من أبرز مصاديقه تأسيس المؤسسات التي تعنى بهذه الحقوق، بأن تكون هناك مؤسسات نسوية خاصة للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مهمتهنّ التصدي للمفاسد في المجتمع إذا رأين - على سبيل المثال- فضائيات هدامة للأخلاق، أو أفلاماً تحطم الفضيلة، أو مواقع في (الانترنيت) تستهدف مكارم الأخلاق، فإن عليهن التصدي لذلك بمختلف الإشكال والطرق، كما يجب على الرجل تماماً أن يؤسس مؤسسات متخصصة وأخرى متنوعة المهام للتصدي لتلك البوابات الشيطانية الجهنمية، ولتلك الأبواب المشرعة للجحيم.

والحاصل: إنه يجب على المرأة أن تتصدى لما ولاها الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبشكل عام إطاعة أمر الله وأمر رسوله والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، حيث إن أمرهم هو أمر رسول اللهJ، ولم يفرد الأئمة (عليهم السلام) بالذكر في قوله تعالى: (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، لأن إطاعة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، هي إطاعة لرسول الله؛ لأنهم أوصياء له، فأمرهم أمره، ونهيهم نهيه، فلا يستشكل بأنه لَمْ يذكر الأئمة(عليهم السلام) في الآية.

والحقيقة الرابعة: أن المرأة لها مقام الولاية حسب هذه الآية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وبالمعنى الذي تفسر به هذه الآية، لكن هذه الولاية لها حدود، وليست هذه الولاية بلا حدود، والحدود أيضاً يعينها الله سبحانه وتعالى الذي منح الولاية وأعطاها ولاية الأمر بالمعروف ولاية النهي عن المنكر وما أشبه ذلك، ومن الحدود (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من، وراء حجاب) فعلى المرأة أن تتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لا يعني ذلك أن لها أن تتبرج، وأن تختلط الاختلاط المحرم مع الرجال، ومنه الاختلاط الذي هو في معرض الفتنة والفساد، فإنه محرم طريقياً ومقدمياً، كالاختلاط في الشركات والمدارس والجامعات، والوزارات، والشركات وما أشبه ذلك، فإن هذه عادة هي الطريق والمقدمة للوقوع في أحابيل وشباك إبليس، فما كان مقدمة لمحرم فهو محرم، وما لم يكن مقدمة فالأفضل تجنبه تنزهاً وإجلالاً لمقام المؤمن ومقام المؤمنة، إذاً هذه الحقيقة الرابعة، وبإيجاز أن المؤمن والمؤمنة كلاهما معني الولاية، بل ذو ولاية وعلى حسب الآية الشريفة(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) لكن هذه الولاية معطرة ومؤطرة بالحشمة والعفاف والوقار والحجاب.

الحقيقة الخامسة التي تستفاد من هذه الآية الشريفة لجهة علاقة المؤمنين بالمؤمنين وبالمؤمنات، وعلاقة المؤمنات بالمؤمنين والمؤمنات، سنتركها للمبحث القادم إن شاء الله.

مسؤولية (المرٲة) في مقارعة السلطة الجائرة:

لقد ذكرنا في الحلقات السابقة أن أهداف المجتمع المدني الأساسية هي ثلاثة: أولاً: بناء الأمة وبناء المجتمع، وثانياً: توفير الخدمات، وثالثاً: أن يكون المجتمع المدني(الإنساني أو الإيماني) بكافة مؤسساته درعاً حصينة أمام طغيان الدولة وظلمها وإجحافها، وسحقها للحقوق.

إن هذه المسؤوليات أو الأهداف الثلاثة لمؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني هي مسؤوليات مشتركة بين الرجل والمرأة، فكما أن الرجال المؤمنين عليهم أن يقوموا ببناء المجتمع وبتوفير الخدمات وجوباً كفائياً، وأن يتصدوا للحاكم الجائر كفائياً كذلك، كذلك على النساء المؤمنات أن يقمن ببناء المجتمع وتوفير الخدمات، بحركة فردية أو جماعية ومجموعية واجتماعية، وأن يتصدّين للحاكم الجائر أيضاً، كواجبات كفائية.

وصفوة القول: إن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) تتسع لتشمل بشعاعها هذه الأهداف الثلاثة، وعلى كل من الرجل والمرأة.

الولاية العَرْضية للمؤمنين والمؤمنات:

سيجري البحث عن حقيقة مهمة على ضوء موقع (الواو) في هذه الآية القرآنية الكريمة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ)، فهذه (الواو) لها دلالة كبيرة، ولها دلالة بالغة، ويختلف المعنى جذرياً لو أن الله سبحانه وتعالى قال: والمؤمنون فالمؤمنات، أو ثم المؤمنات، بعضهم أولياء بعض، هذه الواو - التي هي لمطلق الجمع- لها دلالة كبيرة، حيث لم يستعض عنها بالفاء أو بثم.

إن الذي نستفيده من وجود (الواو) هنا أن الولاية التي منحها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين والمؤمنات هي ولاية عرضية بالنسبة للمؤمنة إلى جوار المؤمن، وليست ولاية طويلة، فليست ولاية المؤمنات في طول ولاية المؤمنين، وإنما ولاية المؤمنات هي في عرض ولاية المؤمنين.

فعلى سبيل المثال: الأب له الولاية، ولو فقد الأب فالولاية للحاكم الشرعي[3] على الصغير أو الصغيرة، ولكن في ما نحن فيه، الولاية عرضية، وليست ولاية طولية. نعم، لو قال سبحانه وتعالى: (المؤمنون ثم المؤمنات) لأفادت أن الولاية قد منحت للمؤمنين، فإن لم يستطع المؤمنون أن يقوموا بتلك الولاية، أو لم يقوموا بها، لسبب أو لآخر، عصياناً أو لغير ذلك، هنا تنتقل الولاية للمؤمنات، لكن ثم أو الفاء لم تستخدما، بل الواو، فيفيد أن الولاية في عرض واحد، فالمؤمنون مسؤولون ولهم ولاية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك، والمؤمنات مسؤولات وعليهن ولاية الأمر بهذا المعنى.

انطلاقاً من ذلك، عندما نلحظ - على سبيل المثال- مشكلة البطالة في المجتمع، حيث تنجم عن البطالة مشاكل كثيرة كالفساد الأخلاقي، والتي قسم كبير منها يعود للبطالة، وكذلك الكثير من النزاعات، والمشاكل الأسرية وغيرها، فإنها تعود إلى البطالة فالمسؤول عن مشكلة البطالة ليست الدولة لوحدها؛ إذ من الواضح أن الدولة مسؤولة، ولكن الناس أيضاً مسؤولون، وكذا مؤسسات المجتمع المدني أو الإيماني، فالرجال مسؤولون والنساء مسؤولات أيضاً.

والحال إن من ثقافة النساء في بلادنا إنهن لا يجدن أنفسهن مسؤولات عن حل مشكلة البطالة، أو مشكلة ارتفاع سن الزواج بالنسبة للنساء، وكذا عن حل مشكلة العنوسة، كظاهرة عامة، فكثير من النساء يصبحن عوانس، بمعنى أن المرأة لا تحصل على زوج، وهذه مشكلة اجتماعية كبيرة جداً تنجم عنها وتتولد منها أمراض وأخطار كبيرة، والمسؤولية في ذلك تقع على جميع المؤمنات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وغير أمهات، كما أن جميع المؤمنين مسؤولون أيضاً.

عليه، فإنَّ مشكلة البطالة والعنوسة، ومشكلة الإنحلال الخلقي في المجتمع، ومشكلة النزاعات الرهيبة التي تعصف بالمجتمع، من هنا وهنالك، ومن مختلف الأطراف، بما تتضمن من غيبة وتهمة ونميمة وتدابر وتقاطع، وما أشبه ذلك، فالنساء مسؤولات عن ذلك، كالمؤمنين.

وإذا تحوّل هذا النمط من التفكير إلى ثقافة عامة، بمعنى إنه إذا فكر كل مؤمن ومؤمنة بهذه الطريقة، بأنهم جميعاً مسؤولون تجاه أية ظاهرة خطيرة تحدث في المجتمع، وإذا فكر الجميع أنهم مسؤولون في قبال تلك الفضائيات الهدامة الفاسدة المفسدة أخلاقياً أو عقدياً.لتغير الوضع بدون شك، وهكذا الحال لو فكروا في أنهم مسؤولون تجاه القرارات الاقتصادية، التي تصدر من الدولة، والتي تقول:إن الأرض لله، لكن ثم لي - أي للدولة - أو تقول إنها لي من البداية، على عكس صريح كلام رسول اللهJ حيث يقول: (الأرض لله ولمن عمرها)، فكل مؤمنة هنا مسؤولة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فعليهن أن يأمرن الدولة بالمعروف، كون الأراضي كلها للناس، وليس للدولة الحق في أن تضع اليد على هذه الأراضي وتمنع الناس من تملكها، إلا باستجازة وبضرائب، وبقيود وشروط وبيروقراطية، وروتين إداري وغير ذلك.

بعض الأصول الفقهية في ولاية المرآة:

في قوله سبحانه وتعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ(سبق البحث في استلهامات أربعة، في ما يتعلق بكلمة (المؤمنات(، ونضيف استلهاماً خامساً متعلقاً بالأصل في العلاقة التي يمكن أن تكون:

أ- بين المؤمنين والمؤمنات كمجموعتين.

ب- وبين المؤمنين والمؤمنين.

ج - وبين المؤمنات والمؤمنات.

د- وبين المؤمنين والمؤمنات كأفراد لا بلحاظهما كمجموعتين، من حيث مصطلح »أولياء«، ونعني بالأصل: الأصل من حيث كون المؤمن ولياً للمؤمن، والمؤمنة وليةً للمؤمنة، وكذلك المؤمن ولي للمؤمنة، أو المؤمنة ولي للمؤمن.

إن هذا بحث مهم، وله تفصيل أصولي وفقهي، ولكن بمقدار الإشارة الموجزة، فإن تأسيس الأصل في هذا المقام سيكون نافعاً في مواطن الشك، بمعنى إنه إذا تأسس الأصل أن للمرأة المؤمنة كما للرجل المؤمن الولاية، فإنه:

1- يرجع إليه عند الشك في أن لها بعض مصاديق أو أنواع الولاية المشكوكة أو لا.

2- وأما لو كانت هنالك أدلة خاصة فإنها تكون حاكمة حينئذٍ على الأصل، بل واردة عليه، فمثلاً دلّت الأدلة الخاصة على إن المرأة لا يمكن أن تكون قاضياً، فإنه ما دام هنالك أدلة خاصة -حتى لو افترض وجود عام أو أصل- فإنها تخصص ذاك العام، أو ذلك الأصل، وترد عليه لو كان أصلاً، أما لو كان عاماً فتخصصه.

وعلى هذا فلو فرضنا إنه شككنا في صحة أن تكون المرأة رئيساً للجمهورية، أو لا يصح لها ذلك، نظراً إلى[4] أن الرئيس سابقاً أو الملك كان يملك زمام الأمور بأكملها، لكن رئيس الجمهورية في العقد الاجتماعي الحديث لا يملك كل شيء، وإنما يملك بعض السلطة أو بعض الولاية، وكذا عضو البرلمان، فهو يملك بعض الولاية.

فالسؤال هو هل لهذه المرأة الحق في أن تصبح رئيساً للجمهورية، أو أن تصبح عضواً في البرلمان، أو ليس لها ذلك؟ وكذا لو شك في أنه هل يصح لها التصويت في الانتخابات، بسبب أن التصويت هو نوع من منح الولاية للمنتخَبين، سواء لرئيس الجمهورية أم لعضو البرلمان أو غير ذلك؟ إن تأسيس الأصل، ينفع في هذا المقام ونظائره عديدة.

لكن الحق: إن ذلك يتوقف على مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن مفردة (أولياء) التي هي جمع (ولي) يراد منها الولاية، كما هو ظاهر هذه اللفظة، أو المتضمن فيها[5]، وتعني القيمومة أي الوصاية، ولم نقل:أنها تعني النصرة فقط، فلو أننا فرغنا من هذه المقدمة الأولى وفرغنا من:

المقدمة ثانية: وهي أن (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) تفسير بالمصداق، وذلك لوجود احتمالين في المقطع اللاحق من لقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) والمقطع اللاحق هو (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، وهذا الاحتمالان هما: الاحتمال الأول: أن يكون تفسيراً بالمصداق، الاحتمال الثاني: أن يكون نظير عطف البيان، فلو صرنا إلى الاحتمال الأول فالأصل محفوظ، يعني أن الأصل في المؤمنين والمؤمنات إن لبعضهم القيمومة على البعض الآخر، والولاية على البعض الآخر، لأن (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر) وإلى آخره وتفسير بالمصداق، ولا يفيد حصر مفهوم (أولياء) في صِرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والحاصل: إنه إذا سلمنا بهاتين المقدمتين، بمعنیٰ أننا سلمنا أن (ولي) يعني المتولي والقيم والمالك للأمر، والوصي، وسلمنا بأن هذه التتمة- التي هي يأمرون بالمعروف - إنما هي تفسير بالمصداق، فالأصل يتأسس بولاية المؤمنين وولاية المؤمنات بعضهم على بعض.

أما إذا شككنا في إحدى هاتين المقدمتين فلا يتأسس الأصل، ولذا ذكرنا ان تفصيل هذا البحث يتطلب التحقيق، من الفقه والكلام، إنما هذه إشارة للموضوع.

وعلى ذلك لو أسسنا الأصل في المقام، فإن المسائل التي تكون مورداً للشك والشبهة في ان للمرأة الحق أو لا نرجعها إلى الأصل، الذي هو (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في كل ما صدق عليه عنوان الولاية، وشك في شموله لها.

إن بعض المصاديق واضحة، مثل التصويت في الانتخابات لكونه توكيلاً[6]، باعتباره مقدمة للأمر بالمعروف، فهو ليس في حد ذاته أمراً بالمعروف، ولكن بنتيجته أن ننتخب حاكماً ظالماً أو حاكماً عادلاً، فاسقاً أو مؤمناً، وكذلك: أن ننتخب برلمانياً أو ممثلاً عادلاً أو فاسقاً، حريصاً على مصالح المسلمين ومصالح الشعب، أو حريصاً على مصالحه الشخصية، أو مصالح جماعته وفئته.

إن التصويت السليم مقدمة لإحقاق الحق ولإبطال الباطل، ولاستقرار المعروف، ولإحقاق وإقرار المعروف، وهو مقدمة لدفع المنكر؛ إذ عندنا رفع، وعندنا دفع، ورفع المنكر واجب كدفعه، فتارة هناك سلطان جائر فنقف أمامه، وهذا اسمه رفع، وتارة نحول دون أن يصل الظالم للحكم عبر صناديق الاقتراع مثلاً، وهذا اسمه دفع، وكلاهما تنطبق عليه العناوين الكلية أو بعضها على الأقل.

المسؤوليات المجتمعية للطفل المميز:

هناك مبحث هام جداً في علم فقه القانون والفقه الدستوري يدور حول أن الطفل المميز هل له تكاليف؟ وما هي حدودها؟ ويُعَدَّ قوله سبحانه وتعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) احد مفاتيح الإجابة على هذا السؤال، وذلك على ضوء دراسة إن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) يشمل المميز أم لا، وهل تشمله هذه الآية؟ ذلك إن هنالك أطفالاً بلغوا سن التمييز، قد يكون عمر أحدهم ست سنوات، أو سبع سنوات، أو ثماني سنوات، وهو مميز، فهل هو مشمول لقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)؟ وهل هذا الطفل المميز مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

وهنا لطيفة معبّرة حدثت في بعض الأسر، حيث إن أحدهم يقول: عندنا طفل مميز، وليس بالبالغ، لكنه ذكي فكان عندما يعترض والده عليه، لماذا آذيت أخاك أو أختك مثلاً؟ كان يقول: ليس ذلك حراماً عليّ؛ إذ انني لست بالغاً، أنا مميز!! فيعتبرها حجّة على أنه يمكنه أن يسئ للآخرين براحته!! والجواب على ذلك إنه: لا؛ لأن المميز مكلف في الجملة، وهذا له بحث طويل، وقد أشرت إلى جوانب من هذا البحث في كتاب (المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول).

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) يشمل المميز؟ فالجواب الظاهر: نعم؛ لأن المميز المتدين بدين الإسلام والمؤمن يصدق عليه حقيقية وعرفاً أنه مسلم مؤمن، وذاك الآخر غير المسلم يصدق عليه أنه كافر، بمعنى أن الشاب المميز الذي عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وينكر وجود الله يطلق عليه كافر حقيقة، بالحمل الشائع الصناعي، فإنه يصدق عليه أنه كافر، أو مخالف، أو شيعي، أو بوذي، أو ما أشبه ذلك، وليس في ذلك أي نحو من المجازية.

المميز والحكم الوضعي والتكليفي:

إذن فالآية الشريفة تنطبق على المميز، فإذا اكتفينا بهذا المقدار من الاستدلال فستقع على عاتق المميز مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً، اللهم إلاّ أن يقال: فأين حديث الرفع؟ إذ ورد (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) والجواب عن ذلك: هو أن المرفوع عن الصبي هل هو قلم التكليف أو قلم المؤاخذة ؟ أيضاً في الجملة، لا بالجملة، فإن قلم الأحكام الوضعية ليس مرفوعاً، وأما الأحكام التكليفية فهي مرفوعة في الجملة.

فإذا كسر الطفل زجاجاً فهو ضامن طبيعياً، أو إذا لامست يده القذارة أو النجاسة فهو نجس؛ لأن الأحكام الوضعية تترتب على الطفل، ولذا فالخمس أيضاً- كحكم وضعي- يتعلق بعاتق وعنق الطفل إ أنّ إخراج هذا الخمس مخیّر فيه الولي بين أن يخرجه فوراً أو أن يتركه إلى أن يبلغ الطفل فيدفع الخمس، فالأحكام الوضعية لا يرفعها حديث الرفع، أما الأحكام التكليفية فحديث الرفع منصرف عن المستقلات العقلية، وما علم من الشرع كراهته وقوعه مطلقاً كالقتل وبتر الاعضاء والزنا واللواط وشبهها، كما أن الفقهاء أفتوا بأن التعزيرات ثابتة بحق الطفل، فإذا زنا الطفل- لا سمح الله- أو فعل قبيحاً آخر كاللواط فإنه يعزر؛ اذ ليس له الحق في ذلك، كما أن كثيراً من المحرمات يردع عنها الطفل المميز، بل مطلقاً، كأن يضرب الناس أو يكسر أو يحطم أو يسرق أو غير ذلك، فلا يسمح له بذلك، فالصبي مكلف في الجملة.

وتفصيل هذا القول واختلاف الآراء فيه يترك إلى مظانه، فموضوعه مطول، وفيه خلاف مفصل، وبعض المفردات فيها نقاش، فبعض أنواع التعزير بالنسبة إلى الطفل العاصي لا كلام فيها، وكذا بعض العبادات، كالحج، فإنه مندوب بالنسبة له، والصلاة مندوبة مستحبة، وهكذا وهلم جرا، ويترك تفصيله إلى بحوث الفقه.

والحاصل: إن الظاهر في الآية الشريفة- لو آمنا بالمقدمة الأولى- أن الأولياء تعني الولي، والقيم، والمتولي والمالك للأمر، ولو قلنا: إن هذه الآية الشريفة تشير إلى حكم وضعي (هو الولاية) كما هو الظاهر، فإن هذه الآية ما دامت منطبقة بالحمل الشائع الصناعي على المميز فالحكم الوضعي أيضاً شامل له، فهو ولي متول قيم في الجملة طبعاً.

ففي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقول: إن الطفل المميز في الجملة مكلف، مثلاً إذا رأى طفل مميز أحدهم يهم بجريمة قتل فيجب عليه أن يحول دون ذلك إن استطاع، وليس له أن يقول: أنا لست ببالغ، فالجواب لا، بل هو مكلف بالردع، وأنه يؤاخذ ويحاسب على ترك ذلك - أي الردع - ويعاقب، أو لو رأى بعض المنكرات الأخرى التي علم من الشارع إرادة عدم وقوعها في الخارج بأي شكل من الأشكال، فالطفل المميز مسؤول، كحكم تكليفي، وأما كحكم وضعي فله نوع من الولاية، وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الأعم من ذلك حسب تفسير الآية الشريفة.

ومن هنا نقول: إنَّ من أهم مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات الشبيبة التي يجب أن تنشط وتفعّل.

فبمجرد أن يشبّ الفتى أو الفتاة، وبمجرد أن يبلغ الطفل سن خمس سنوات أو ست سنوات، يجب علينا أن ندفعهما، باتجاه أن يكونا عضوين في مؤسسة لتحفيظ القرآن الكريم، أو في هيئة حسينية، أو في روضة من الرياض، أو في مؤسسة لخدمة الأيتام أو كل ذلك! على حسب ما يتحمله وضعهم، وكذلك الطفل المميز ينبغي أن يدخل في مؤسسات الشبيبة؛ إذ يستطيع الأطفال أن يقوموا بدور كبير جداً في بناء المجتمع.

ولو نشطت مؤسسات الشبيبة لكانت من أهم ركائز مؤسسات المجتمع المدني، و من أهم أعمدة المجتمع المدني أو الإنساني، وهذا يعني أنه يجب أن تكون هنالك مئات الألوف من مؤسسات الشبيبة في العراق، ومصر، والكويت، والسعودية، والبحرين، في إيران وسورية ولبنان، وفي أفغانستان والهند، واندونيسيا وغيرها، ومئات الألوف من مؤسسات المراهقين أو المميزين، أو بما شئت فعبِّر من الذين لم يبلغوا بعد، علينا أن نوجههم لذلك.

إن بمقدور الصغار أن يقوموا بأدوار مفتاحية؛ فإن الأطفال يستطيعون أن يحولوا دون وقوع الكثير من المنكرات في البلد إذا كان لهم الوعي المطلوب وأرشدناهم لذلك، فمثلاً إذا شاهدوا بعض الفضائيات المنحرفة، التي تبث السموم الأخلاقية في الوقت الحاضر، فإن الصغار عادة يعرفون الإنترنيت ويمكنهم أن يبعثوا برسائل شجب واستنكار لإدارة تلك القناة، أو لتلك الدولة أو لتلك المحطة، التي تستضيف هذه القناة، أو حتى لمنظمات دولية اخرى، بل إن المراهقين - من الفئة العمرية عشر سنوات، أو أقل أو أكثر- يمكنهم أن يشكلوا تجمعاً لردع هذه المنكرات.

إن الصغار يمكنهم أن يصنعوا الكثير، وإننا عادة نستصغرهم، ولكن لهم شخصيات غنية متنوعة قوية وحافلة في حد ذاتهم، ولو أعطيناهم هذه الروح، وهذا الاعتبار والآليات الملائمة لاستطاعوا أن يصنعوا الشيء الكثير، كما يمكن أن نشجعهم لكي يؤسسوا لهم مسجداً، ويكون منهم إمام جماعة، ويمكن أن يؤسسوا حسينية، أو يقدموا برامج خاصة للأطفال، ويمكن أن يؤسسوا مكتبة، تحوي الكتب الخاصة بالأطفال، التي تلائم مستوياتهم، ويمكن أن يؤسسوا ميتماً لأجل الإهتمام بالأطفال الأيتام، الذين هم من سنهم وغير ذلك.

ويمكن للأطفال أن يؤسسوا- أيضاً- قناة فضائية بمساعدة الكبار طبعاً.

نعم، هم قادرون على أن يؤسسوا أو يديروا القناة الفضائية بكافة لوازمها وملزوماتها، أو على أقل تقدير أن يؤسسوا مركزا للإنتاج الفني، إن انطلاقة الأطفال لإنجاز هذه الفعاليات والجهود سيشجع الكبار أيضاً، فالأب إذا رأى ابنه المميز المراهق وهو منخرط في سلسلة من الأنشطة الاجتماعية، فإنه سيتشجع للمزيد من العطاء، وكذلك الأم، وسنشهد عندئذ مصداقاً جديداً من مصاديق قوله تعالى (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) وستضاف بذلك سلسلة حيوية هامة إلى سلاسل أو مؤسسات المجتمع المدني.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية

....................................................
[1] سورة التوبة، الآیة ۷١.
[2] هم الذين يقولون بالولاية ولا يقولون بالبراءة، وقد سماهم بذلك زيد بن علي بن الحسين، في محضره، إذ قال قوم إننا نحب علياً وآله ولا نبرأ من أعدائهم.. الخ.
[3] هناك تفصيل حول ذلك: مثلًا في (الحضانة) إذا فقد الأب فإنها للأم، ومع وجودها لها أن تطالب بحضانة الطفل لكن تحت نظر الأب، أما (العقد) على البكر الرشيد فعلى القول بعدم استقلالها، فذهب جمع إلى استقلال كل من الجد والأب، وذهب البعض - كصاحب العروة- إلى تقدّم عقد الجد لو تقارن العقدان مثلاً.
[4] هذا بيان منشأ الشك.
[5] سبق وجود احتمالين في (الولي)، وعلى الثاني فإنه موضوع للجامع، فراجع.
[6] حول انه هل هو توكيل أو نوع إعمال ولاية أو غيرهما يراجع (شورى الفقهاء - دراسة فقهية أصولية﴾ للمؤلف.

اضف تعليق