في الاقتصاد العراقي هنالك حقيقة تكاد تميزه عن باقي اقتصاديات دول العالم ألا وهي الترابط الحديدي بينه وبين السياسة وليس هذا فحسب بل إن الجانب السياسي هو من يحكمه ويسيره، فأي خطط أو حلول لمعالجة أزمته الأخيرة الناتجة عن الانخفاض في أسعار البترول، لابد وان تأخذ ذلك في الحسبان، كما لا بد من الاعتراف والتسليم بحقيقة أخرى تحكم هذا الاقتصاد وهي حالة التأزم التي يخطئ الكثير في الاعتقاد إنها وليدة الإحداث الأخيرة فهي ترجع إلى تراكمات تمتد لعقود من الزمن، والتي اصطف انخفاض أسعار النفط إلى جانبها لتكتمل اللوحة السوداء للاقتصاد العراقي، ولتزداد معاناة ذلك المواطن الذي سئم من انتظار وعود دولة الرفاهية والاستقرار الاقتصادي.

 من خلال ما تقدم نقف عند محطتين للاقتصاد العراقي شكلتا طرفي نقيض في مسيرة البلاد الاقتصادية هما:-

- الانحدار والتردي الاقتصادي

إذ يرى الكثير إن الانحدار والتردي في الاقتصاد العراقي يعود في بدايته إلى ذلك التأريخ الذي انتهت فيه الملكية والجمهورية الأولى في العراق، أي مع بداية عام 1958 مرورا بسقوطها عام 2003 م ومنها إلى يومنا هذا، ويمكن استدلال ذلك من خلال مجلس الأعمار العراقي الذي كان يأخذ على عاتقه التخطيط والتنفيذ والإدارة للأعمار والاستثمار والتنمية في ذلك العهد، فقد شرع قانون هذا المجلس عام 1950 وتميز المجلس بعدد من الجوانب التي شكلت عامل قوة ونجاح للاقتصاد والتنمية التي حدثت آنذاك من بنية تحتية وعمرانية وغيرها يمكن للعراق أن يستفيد منها اليوم من خلال ما يلي:-

1- التشريعات القانونية الرصينة التي شرعت له والتي أعطته استقلالية في العمل دون الارتباط بوزارة آو أي هيئة حكومية أخرى بل كان مسؤول مباشرة أمام المجلس النيابي آنذاك.

2- ضم هذا المجلس أفضل العقول والخبرات الاقتصادية والعمرانية العراقية وخصوصا أساتذة الاقتصاد من خريجي أفضل الجامعات العالمية وشرع له استقطاب خبرات أجنبية مماثلة لتلبية حاجته من تلك الخبرات.

3- تعامله مع شركات استشارية عالمية وكلا حسب تخصصها مثل شركات الري البريطانية وشركات الاسمنت الأمريكية وشركات البناء الألمانية والرومانية.

4- خططه التي عرفت وقتها بـ (أسبوع الأعمار) أي إنه لا يمر أسبوع إلا ووضع هذا المجلس حجر الأساس لمشروع اقتصادي ضخم في العراق.

شيع نعش هذا المجلس مع بداية حكم نظام حزب البعث عام 1963، لقد كانت تجربة هذا المجلس تجربة رائدة في العراق، بل إن معظم دول المنطقة آنذاك كانت تفتقر إلى التنمية العمرانية والصناعية والاستثمارية التي أوجدها آنذاك العراق ومنذ ذلك التأريخ عجز هذا البلد أن يأتي بما يماثل أو ينافس تلك التجربة الاقتصادية. نستنج من ذلك إن العهد الذي ازدهر فيه اقتصاد العراق ليس عصرا ملائكيا بل انه عصر وظفت فيه كل الطاقات والخبرات العلمية والعملية بعيدا عن دهاليز وحسابات السياسة وتقلباتها وهذا ما يحتاج العراق إليه اليوم للاستفادة من ذلك الماضي للنهوض بالحاضر والمستقبل.

- تكامل مقومات هذا الاقتصاد

 يعتمد الخبراء الاقتصاديون على دالة رباعية في تحديد قوة اقتصاد إي بلد ما، فان تكاملت فيه تحقق التكامل الاقتصادي الذهبي في القوة والرخاء والرفاهة الاقتصادي، وتكمن هذه الدالة بأربع مقومات هي (الطاقة البشرية / المناخ والطاقة المائية / رأس المال / الثروات الطبيعية) من خلال هذه الدالة وجدت الوقائع الميدانية الحية والدراسات والبحوث وغيرها إن تكاملها ينحصر في اثنين من بلدان العالم وان كان الثاني ليس بصورة كاملة لكنه بصورة اقرب مع هذه المقومات ما عدا ذلك فأن دول العالم تعاني الخلل في تكامل مقومات هذا الدالة، وهاتان الدولتان هما العراق والولايات المتحدة الأمريكية، لكن شتان ما بين الاثنين في الواقع الاقتصادي الذي يعيشه كل منهما، وهذا ما ذكرنا بعض أسبابه من غياب وتغيب الإرادة الوطنية في فهم وتوظيف هذه المقومات وغياب الأيادي النظيفة في إدارته منذ عقود إلى يومنا هذا، فلو أخذنا مثلا جمهورية ماليزيا نجدها تفتقر إلى الموارد الطبيعية ورأس المال لكنها تحسب اليوم إحدى القوى الاقتصادية الأسيوية بفضل التخطيط والإدارة الناجحة لاقتصادها، وليس ببعيد عن العراق الأردن نجده يعاني من خلل كبير في كل هذه المقومات إلا انه استطاع تجاوز تحدي هذه المقومات حتى أصبح الاقتصاد العراقي اليوم رهنا له في الاستشارة والاستيراد والأعمار والتنمية.

إن تقصي الأسباب الحقيقية للوقوف على التدهور والتردي الذي أصاب العراق وجعل اقتصاده معزول عالميا في التعاملات والتداولات المالية والاقتصادية ومنكوب داخليا لفشله في تقديم أي نهضة تذكر والى يومنا هذا هي:-

1- أزمة الصراع على السلطة في العراق وهي واحدة من الأسباب التي عمقت وجذرت الانحدار والتدهور الاقتصادي في هذا البلد، وتمثلت هذه الأزمة في عدم استقرار النظام السياسي وتغيره الدائم الذي أخذ أشكالا متعددة من ثورات وانقلابات واغتيالات وتدخل دولي لتبديل نظامه السياسي والإتيان بنظام جديد..

2- عدم الاستقرار على نظام اقتصادي واضح المعالم، حيث تتبع معظم دول العالم واحدة من النظم الاقتصادية السارية عالميا في التعامل والتخطيط والإدارة الاقتصادية وهذه النظم:

أ‌- النظام الرأسمالي الذي يعتمد اقتصاد السوق الحر في العرض والطلب، وهو النظام الأكثر رواجا واعتمادا في اغلب الدول والتعاملات التجارية والمالية العالمية.

ب‌- النظام الاشتراكي الذي يعتمد على تخطيط وإدارة الدولة في الموارد والتعاملات والتنمية الاقتصادية وغيرها والذي تقلص العمل به بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م.

ت‌- النظام الإسلامي، وهذا النظام غير معمول به إلا في بعض اقتصاديات الدول الإسلامية كإيران وهو إلى الآن محض نظريات ولم يخرج بعد إلى حيز الواقع العملي في التطبيق. لقد عاش الاقتصاد العراقي الازدواجية والتحول المفاجئ غير المدروس والمربك بين هذه الأنظمة الاقتصادية وفشل في بناء اقتصاد منافس قوي يتلاءم وحجم موارده وتكامل مقوماته الاقتصادية.

3- غياب وافتقار العراق إلى البنية المؤسساتية الاقتصادية حيث إن اغلب المؤسسات المعنية في الجانب الاقتصادي وخصوصا بعد عام 2003 لم يتم بنائها بناء حقيقيا، المفارقة أنها أصبحت معوقة ومعيقة للتنمية والتطور الاقتصادي فهي على نوعين: منها ما هو موروث من حقبة النظام السابق، ومنها ما أوجده الحاكم المدني بول بريمر عام 2004 والذي انشأ على عجالة ولازال ساريا العمل بها إلى يومنا هذا.

4- غياب التخطيط والإدارة الناجحة في توزيع واستثمار مقومات البلد الاقتصادية، ومنها غياب توجيه وإدارة الموارد البشرية التي يتمتع بها العراق من طاقات سواء كانت علمية أو فنية أو إدارية، كذلك المناخ الذي يمتاز به العراق من تعاقب فصلي يصلح لكل أنواع التجارة والزراعة والصناعة وأيضا المياه التي يمكن أن تستخدم في ذلك وخصوصا في مجال توفير المحطات الكهربائية وغيرها، كذلك الثروة النفطية التي كان ولازال بالأماكن توجيهها لمشاريع البنية التحتية لا للمشاريع الاستهلاكية والترقيعية كما يحدث اليوم.

5- هناك أيضا جانب سياسي أربك وأخر الاقتصادي العراقي ومثل شرخا عميقا في جسده، حيث تم التعامل بعد عملية التغيير عام 2003 مع الاقتصاد العراقي بكل مصادره وتعاملاته وأبوابه برؤى مختلفة فهمها كل مكون عراقي وفسرها حسب مصلحته، فالكرد سحبوا الاقتصاد والانفتاح الذي حدث فيه إلى مقاس مصلحتهم وفصلوه بما يتلاءم وطموحاتهم في تكوين كيان خاص بهم، والشيعة نظروا اليه كتعويض ما فاتهم من فقر وتهميش اقتصادي سابقا، أما العرب السنة فقد نظروا إليه من جانب المركزية التي تعايشوا معها سابقا وتخوفوا من فقدانها وبالتالي إفلاسهم من مزاياهم التي تعايشوا معها قبل التغيير.

- تبقى الحاجة إلى حلول ورؤى لتطوير الاقتصاد العراقي وبما يتلاءم وحجم موارده الطبيعية والبشرية، وخصوصا مع ما يعانيه هذه الأيام من تدني لأسعار النفط حاجة ملحة ينشدها الكثير من أبناء هذا الشعب ويمكن تحديد بعضها بالشكل الآتي:-

1- إلغاء تبعية الاقتصاد إلى السياسة، وهذا ما تعمل به اغلب دول العالم، فأكثر دول العالم انتعاشا اقتصاديا أكثرها تبعية السياسة للاقتصاد وهذا نفتقر إليه في العراق.

2- يوجد انخفاض أسعار النفط قلقا اقتصاديا كبير حيث سيشكل عجزا في الموازنة العراقية إلا إن الحقيقة هي أن العراق بحاجة إلى تخطيط وإدارة سليمة لإدارة وتوزيع عائدات هذا المورد التي إن وزعت ووجهت بصورة علمية ومدروسة فأن العراق لا يتأثر بانخفاض أسعار النفط.

3- إعادة النظر في نفقات الرئاسات الثلاثة (الجمهورية والوزراء والبرلمان) من رواتب ومخصصات والتي أصبحت عبارة عن موازنات خاصة إضافة إلى الوزراء والبرلمانيين والوكلاء والدرجات الخاصة حيث تستهلك هذه المؤسسات والشخصيات الحكومية ما نسبته 15% من ميزانية البلد، والمشكلة في ذلك انه لا يوجد تشريع دستوري أو قانون يحدد مخصصاتها وامتيازاتها غير ذلك النص الدستوري العقيم الذي ينص على (إن العراقيين متساوون في الحقوق والواجبات) وهنا تبرز الحاجة إلى تشريعات تحدد هذه الموازنات بما يحقق العدالة والإنصاف والترشيد في الموازنة.

4- يعرف الاقتصاد بأنه ذلك النشاط البشري الجاد والحثيث في توظيف الموارد الطبيعية وغير الطبيعة مباشرة أو بصورة غير مباشرة لسد حاجاته، وفقا لهذا التعريف فان العراق لم يوظف كل الموارد الطبيعية بل وظف مورد واحد وبصورة غير صحيحة ألا وهو النفط، إن العراق بحاجة إلى توظيف موارد يمتلكها تفوق في تأثيرها ما يملكه من النفط بعشرات المرات إلا وهي الزراعة والصناعة والاستثمار والسياحة.

5- البحث في تطوير واستثمار الموارد الاقتصادية غير المنظورة ومنها السياحة والنقل الجوي، ويعتبر العراق من اغني وأوفر الدول حظا في هذا الجانب، فهو يكتنز في ربوع أرضه مقامات دينية وآثار تاريخية وطبيعية تشكل عامل جذب لملايين الزائرين سنويا لكنها تعاني من الإهمال، كما يمثل العراق أكثر بلدان العالم ممرا للنقل الجوي (الترانزيت) والذي تربط أجوائه بين أسيا وأفريقيا وأوربا فماذا لو نظم واستثمر هذان الموردان بالإمكان إن يعوضا عن النقص والعجز الحاصل في الموازنة والناتج عن تدني أسعار النفط.

أخيرا لابد من الذكر إن الاعتماد الاقتصادي الأحادي الجانب وخصوصا ما انتهى إليه الاقتصاد العراقي يمثل عامل ضعف له وهذا ما أثبتته الوقائع والأحداث ومنها الانخفاض الأخير في أسعار النفط، إن العراق الأغنى في موارده الاقتصادية، لكنه الأفقر في استثمار وتوجيه هذه الموارد بحاجة إلى إرادة حقيقية علمية وعملية وناضجة لتوجيه واستثمار هذه الموارد بصورة صحيحة من تشريعات وإرادات سياسية واعية واقتصادية متحررة وأيادي نظيفة جادة في العبور به إلى شاطئ الازدهار والتطور وخلق الرفاهية لشعبه.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

..........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق