رغم كل الجهود الدبلوماسية التي يبذلها الطرفان الأمريكي والروسي لتلطيف أجواء العلاقات المتوترة بينهما بين الحين والآخر، الا ان تلك الجهود سرعان ما تفشل نتيجة استمرار مشاعر الخوف المتبادل والناتج عن انعدام الثقة والطمأنينة الى تصرفات وطموحات ونظرة كل منهما الى الآخر على رقعة الشطرنج العالمية، والدليل على ذلك كمية التصريحات الإعلامية والصحفية الصريحة والمبطنة التي تبرز بين فترة وأخرى، مؤكدة على اتساع هوة الخلاف واستمرار المخاوف التاريخية المتبادلة، والتي كان آخرها ما تناقلته العديد من وكالات الأنباء والصحف العالمية عن ديبورا لي جيمس وزيرة القوات الاميركية بالتزامن مع تصريحات قائد سلاح المارينز الجنرال جوزف دانفورد المعين لتولي منصب قائد الجيوش الاميركية او هيئة الأركان المشتركة في القوات المسلحة الاميركية.

حيث اعتبرت ديبورا لي جيمس بتاريخ 9/7/2015م في تصريحات نقلتها وكالة رويترز: ان روسيا تشكل التهديد الأكبر للولايات المتحدة الاميركية، وان على هذه الأخيرة ان تعزز وجودها في أوربا لأنها تتعامل مع القلق المستمر النابع من أعمال روسيا، في وقت قال فيه قائد سلاح المارينز الجنرال جوزف دانفورد أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الاميركي: اذا أردتم الحديث عن دولة يمكنها ان تفرض تهديدا وجوديا تجاه الولايات المتحدة الاميركية فإنني أشير الى روسيا، وإذا نظرتم الى سلوكها فما من شيء لا يستدعي القلق، وأشار دانفورد الى ان قدرات روسيا النووية وقدرتها على انتهاك سيادة دول أخرى، وحلفاء الولايات المتحدة وفعل أشياء لا تتسق مع مصالح الولايات المتحدة، وأكد انه اذا اضطر الى ترتيب مخاوفه فان الصين تأتي في المرتبة الثانية ثم كوريا الشمالية ثم الدول الإسلامية، وقال مؤكدا على ان خطر الروس يتجاوز خطر تنظيم داعش الإرهابي.

والمتتبع للعلاقات الاميركية الروسية منذ مطلع العام 2000 تقريبا وتحديدا منذ تولي بوتين زمام الحكم القيصري في روسيا الحديثة، او روسيا بوتين تحديدا، يلاحظ ان التوتر المستمر وانعدام الثقة واتساع هوة المخاوف هو الغالب على العلاقة بينها، وهذا أمر تؤججه الكثير من العوامل التاريخية بمختلف مستوياتها العسكرية والجيوسياسية والاقتصادية القديمة والحديثة، وهو لا يعني ان روسيا او بوتين من يتحملان المسؤولية الأولى والأخيرة عنه، بل بكل تأكيد تتشارك في تأجيج ذلك الخلاف والنزاع النظرة الاميركية الى روسيا، وكذلك الطموحات الجيوسياسية الاميركية على رقعة الشطرنج الاوراسية على وجه التحديد، ومن ابرز نقاط الخلاف والنزاع بين الطرفين، والتي تعتبر الفتيل المشتعل في العلاقة التاريخية المتوترة بينهما النقاط التالية:

(1) توسع حلف الناتو، والذي تنظر إليه روسيا على انه تهديد مباشر لأمنها وسيادتها القومية، وخصوصا كونه قد بدأ بضم العديد من الدول التي كانت تشكل سابقا الاتحاد السوفيتي، فبعد انضمام التشيك والمجر وبولندا للناتو في العام 1999م، تمددت تلك المنظومة الاوروأميركية أصلا لتضم أعضاء جددا لا تقل مخاطر دخولهم للناتو عن الدول الثلاث سالفة الذكر كبلغاريا ورومانيا ولتوانيا واستونيا وسلوفينيا على سبيل المثال لا الحصر.

(2) إشكالية الدرع الصاروخي، والذي تصور الكثيرون حتى وقت قريب بأنها انتهت بعد وصول الرئيس الديموقراطي باراك أوباما الى الحكم، وخصوصا بعد تعهده بالغاها وتفكيكها في شرق أوربا، ولكن ما حصل بالفعل هو ان القيادة الاميركية قد قامت بتحويل تلك المنظومة من منظومة دفاعية برية ثابتة الى أخرى بحرية متنقلة، هي اخطر بكثير على روسيا مما كانت عليه سابقا، وبالتالي فان مبدأ التهديد الاورواميريكي لم ينتهِ بعد.

(3) إشكالية البيت الروسي القديم، - أي - النطاق السوفيتي السابق، والذي تفكك وتقسم بسقوط الاتحاد السوفيتي مع نهاية عقد الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، والذي تنظر إليه روسيا " الوريث الشرعي " على انه جزء من سيادتها وأمنها القومي، بينما تسعى الولايات المتحدة الاميركية الى انضمامه الى التحالف الغربي بقيادتها، وهو ما يجعل من روسيا الاتحادية تنظر الى الأمر على انه تدخل في سيادتها وأمنها ومحاولة عدائية من قبل الغرب لتحطيمها وتدميرها وتفتيتها.

(4) المحاولات الروسية المستمرة لاحتواء توسع طموحات الولايات المتحدة الاميركية خصوصا على رقعة الشطرنج الاوراسية والشرق الأوسط، ما جعل من الولايات المتحدة الاميركية تنظر الى روسيا على أساس أنها العقبة الأكبر أمام تلك الطموحات الجيوسياسية، وأنها المدمر الأكبر للعلاقات الاميركية الدولية، ومن ابرز تلك القضايا، التهديدات الروسية المستمرة لحلفاء الولايات المتحدة الاميركية في البيت السوفيتي القديم، وكذلك التحالفات الروسية التي تعقدها وتدعم بها اشد أعداء الولايات المتحدة الاميركية كالصين وكوريا الشمالية وإيران ووقوفها مع سوريا ومصر وتركيا وتحالفها الأخير مع المملكة العربية السعودية.

وبكل تأكيد هناك عوامل أخرى لكل هذا العداء المتبادل بين الطرفين لا يتسع ذكرها في هذا الطرح الموجز، ولاعتبار الولايات المتحدة الأميركية ان روسيا هي القلق المستفز لها والتهديد الأكبر لوجودها ومصالحها الجيوسياسية على رقعة الشطرنج العالمية كما تؤكده تصريحات العديد من المسؤولين الكبار في القيادة العسكرية الأميركية خصوصا، وباختصار شديد وهما أمر طالما أكدت عليه حيال هذه العلاقة، ان علاقة الولايات المتحدة الاميركية وروسيا في عهد بوتين ووجوده على رأس الهرم السياسي الروسية لن تتحسن في ظل هذا الكم الهائل من التناقضات في المصالح والأهداف والتوجهات والطموحات، وكذلك التصريحات الإعلامية والصحفية المستمرة من كلا الطرفين، والتي تسبب التوتر وتشعل فتيل الكراهية والعداء بينهما بشكل متواصل، وفي نهاية المطاف أرى من خلال قراءة استشرافية قديمة متجددة لي في هذا الجانب على التالي:

(1) استحالة إمكانية التعايش الطبيعي دون صراع ومواجهة ما بين خصمين يملكان نفس الطموح والأهداف الجيوسياسية والجيواستراتيجية على رقعة الشطرنج الدولية، ويسعيان للهيمنة والسيادة على موارد ومواطن عالمية محددة وتتمركز في نطاق عالمي معروف.

(2) وجود العديد من نقاط الخلاف الجذري كما سبق واشرنا ما بين الطرفين حول المصالح العالمية التي تتقاطع في أكثر الأحيان، حيث ان ما تراه الولايات المتحدة الاميركية من خلال وجهة نظرها صائبا ومبررا وليس هناك ما يستدعي الخوف منه، تجده روسيا من خلال وجهة نظرها انتهاكا واختراقا لمصالحها الاستراتيجية وتهديدا لأمنها وسيادتها القومية.

(3) هناك إشكالية كبيرة تعاني منها القيادات السياسية في كلا الطرفين، و- نقصد - إشكالية القيادات العسكرية التي تنظر الى الأمور من ناحية مختلفة كليا عما يراه السياسيون والدبلوماسيون، وتحديدا في ظل وجود قيادات عايشت فترة الحرب الباردة، وأخرى تربت على يديها، وما زالت تنظر وتتعامل بعدائية وتخوف مع العديد من القضايا المشتركة.

(4) بروز القيادات القومية السياسية والعسكرية والإعلامية بشكل لافت في روسيا الاتحادية، حيث تسعى تلك القيادات بطريقة او بأخرى الى استعادة مكانة روسيا القيصرية، وهو ما دفع وسيدفع روسيا خلال المرحلة القادمة الى التعاطي مع بعض القضايا وخصوصا القومية والسيادية بطريقة متشددة ومتشككة، وبالتالي عدم التجاوب مع الكثير من المسائل ذات الدوافع الأمنية والسياسية المشتركة ما بين الطرفين.

(5) النظرة الاميركية الجديدة الى روسيا، والتي بدأت بالارتسام والتشكل مع بداية القرن الحادي والعشرين، حيث تنظر الولايات المتحدة الاميركية الى تصرفات ومساعي وأهداف روسيا القومية الاستراتيجية بتشاؤم وقلق، وواحد من أهم تلك الأهداف التي تخيف الولايات المتحدة الاميركية، عسكرة المواقف الروسية تجاه حلفاء الولايات المتحدة في نطاق الاتحاد السوفيتي القديم، كما حدث مع جورجيا وأوكرانيا.

(6) التطور الهائل في الشؤون العسكرية وموازنات الدفاع في كلا الدولتين دون مبرر يذكر، وهو ما يؤكد المخاوف المشتركة، وتبني خيارات الردع والاحتواء من جديد كما كان ذلك على عهد الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة في ستينيات القرن العشرين، وليس أفضل دليل على ذلك من بناء كلا الطرفين لمنظومات جديدة من الأسلحة النووية الانشطارية الاستراتيجية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

(7) كذلك فان هناك نقطة مهمة على هذا الصعيد، وهي البناء الايديوبوليتيكي للقرن الحادي والعشرين نفسه، حيث ان هذا القرن وكما أكدنا في بحوث ودراسات سابقة سيكون اقرب الى التعددية الفضفاضة، او ربما الى نظام البولياركي منه الى نظام الثنائية القطبية، وهو ما يستدعي بروز التحالفات والخصومات منه الى الاستقرار والتوازن الاستراتيجي، ومن باب أولى ان يكون ذلك بين القوى العظمى على المصالح والهيمنة والسيادة العالمية.

وباختصار شديد، فإننا نؤكد بأن العلاقات الروسية - الاميركية، لن تتحسن تدريجيا كما يعتقد البعض خلال الفترة الزمنية القادمة، وان حدث ذلك أحيانا، فلن يكون ذلك أكثر من فترة للتهدئة وقياس للنبض من الجانب الدبلوماسي، فما يحدث اليوم من اشتعال لفتيل بعض الصراعات واختلاف وجهات النظر وما سيحدث في الغد في نفس السياق الثنائي او العالمي، هو بمثابة لعبة دولية للصراع والمنافسة والمواجهة لم تبدأ بعد بين الطرفين النوويين.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق