هناك قلق متزايد على المستويين الوطني والدولي إزاء الأثر الذي يتركه ارتكاب جرائم خطيرة ذات طبيعة عالمية على مجتمعاتنا، بشكل خاص الجريمة المنظمة وجرائم الإرهاب. مثل غسل الأموال والرشوة والفساد الإداري والمالي. والأنشطة غير المشروعة بالمواد المخدرة. التربح غير المشروع في سوق الأوراق المالية. والاتجار غير المشروع بالأشخاص لاسيما بالنساء والأطفال. والاتجار بالسيارات المسروقة، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية قرصنة المنتجات وسرقة العلامات التجارية، والاتجار بالأعضاء البشرية والاستيلاء على الآثار والاتجار غير المشروع بها. الاعتداء على البيئة، ونقل النفايات الخطيرة والمواد الضارة، جرائم أعاقة سير العدالة، والجرائم المعلوماتية كتزوير البطاقات البنكية والائتمانية واقتحام وسرقة الحسابات البنكية والبرامج المعلوماتية إلى غير ذلك من الجرائم التي يفسح التطور التكنولوجي.

ينطوي كلا النوعين من الجرائم على خطورة بالغة، ولا يتورع الفاعلون في هذه الجرائم عن القيام بالعنف المبالغ فيه وغير المبرر تماما، لتحقيق مآربهم، مما يتسبب في سقوط ضحايا أبرياء لا دخل لهم فيما يجري. وكلا النوعين من الجرائم تقوم بارتكابها جماعات إجرامية منظمة ومهيكلة، تبيح لنفسها حيازة السلاح واستخدامه، كما لو كانت دولا مجهرية تعمل تحت الأرض في عالم من السرية وتنتهز الفرصة للانقضاض على أهدافها. ويتسم كلا النوعين من الجرائم بالنزوع نحو العالمية وعبور حدود الدول، فالجماعات الإرهابية مثلها مثل الجماعات الإجرامية المنظمة قد تعمد إلى تجنيد إتباعها في دولة، وتدريبهم في دولة أخرى، والبحث عن مصادر التمويل من جهات متعددة والقيام بأنشطتها الإجرامية في دول أخرى.

الأمر الذي يستدعي من الدول كافة أن تبحث عن نظام جنائي عادل وفعال؛ حيث ان وجود نظام عدالة جنائية يتصف بالإنصاف والمسؤولية والأخلاقية والفعالية يمثل عاملا هاما في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية أمن الإنسان.

فما هو نظام العدالة الجنائية؟ ومما يتكون؟ وما هي صوره؟ وما علاقته بحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن بلوغ الأهداف التي يبتغيها؟

تُعرف العدالة الجنائية بأنها نظام من الممارسات والمؤسسات للحكومات التي تستهدف دعم الرقابة الاجتماعية، وردع وتخفيف الجرائم، ومعاقبة المنتهكين للنظام بعقوبات جنائية مع إعادة تأهيلهم؛ كما أن للمشتبه بهم في ارتكاب جريمة حق المطالبة بالحماية ضد إساءة استعمال سلطات التحقيق والملاحقة القانونية.

يتكون نظام العدالة الجنائي من ثلاثة أقسام رئيسية: ١- التشريعي "سن القوانين" ٢- القضائي "المحاكم" ٣- التأديبي "السجون، الحبس، المراقبة والإفراج المشروط".

ولاشك أن الكثير من الأنظمة الجنائية في العالم تسعى إلى بلوغ نظام عدالة جنائية عادل وفعال ومتوافق مع المعايير الدولية بهدف الوصول إلى العدالة التي تضمن الحقوق الكاملة للمجني عليه من جهة، وتراعي حقوق الجاني من جهة ثانية.

يهدف نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى "فرض معايير السلوك اللازمة لحماية الأفراد والمجتمع" ويهدف نظام العدالة الجنائية في إنكلترا وويلز إلى "الحد من الجريمة من خلال جلب أكبر عدد من المجرمين إلى العدالة، وزيادة ثقة الشعب بأن النظام عادل وسيخدم المواطن الملتزم بالقانون" ويهدف نظام العدالة الجنائية في كندا إلى تحقيق التوازن بين أهداف مكافحة الجريمة والوقاية منها، وفي السويد فالهدف الأسمى لنظام العدالة الجنائية هو "الحد من الجريمة وزيادة الأمن للشعب"

في الواقع، أن أي نظام جنائي لا يكون عادلا وموفقا في أدائه ما لم يأخذ بنظر الاعتبار حقوق الضحية من جهة؛ وحقوق الجاني من جهة ثانية، وأن تجاهل أيا من هذين الحقين يعني بالضرورة أن نظام الجنائي يفقد أهم صفة من صفاته وهي العدالة والإنصاف.

بتعبير آخر أن نظام العدالة الجنائية الفعال والمنصف والإنساني هو نظام قائم على الالتزام بالتمسك بحماية حقوق الإنسان في تسيير العدالة ومنع الجريمة ومكافحتها، وأن الدولة هي الجهة المسئولة أولا عن إقامة نظام لمنع الجريمة والعدالة الجنائية يتسم بالفعالية والإنصاف والمساءلة والإنسانية، وهي ملزمة أن تسعى لاستخدام معايير الأمم المتحدة وقواعدها في منع الجريمة باعتبارها مبادئ توجيهية تهتدي بها في تصميم وتنفيذ سياستها وقوانينها وإجراءاتها وبرامجها الوطنية المتعلقة بمنع الجريمة وتأمين العدالة الجنائية. كما أن العامل الحاسم لتعزيز قدرات العاملين في إنفاذ القانون يأتي من خلال المساعدة الفنية وبناء القدرات وتبادل الخبرات والمعلومات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

من هذا المنطق، تعقد الأمم المتحدة كل خمس سنوات مؤتمرات عالميا، تعرف بـ(مؤتمرات الأمم المتحدة لمنع الجريمة والعدالة الجنائية) يحضرها مندوبون عن حكومات الدول من وزراء وقضاة وادعاء عام وقادة شرطة وامن وأساتذة جامعات ومختصون بالشؤون الاجتماعية، إلى جانب مندوبين آخرين يمثلون منظمات مجتمع مدني عالمية وإقليمية وجامعات ومعاهد أمنية معنية بقضايا منع الجريمة وتوطيد العدالة وإصلاح السجون وحماية حقوق ضحايا الإجرام.

الحقيقة أن هناك دليل واضح على أن الاستراتيجيات الجيدة التخطيط لمنع الجريمة لا تمنع الجريمة والإيذاء فحسب، بل إنها تعزز أيضا أمن المجتمع المحلي وتسهم في التنمية المستدامة للبلدان، ومن شان منع الجريمة منعا فعالا وأن يحسن نوعية حياة جميع المواطنين، وله فوائد طويلة الأمد من حيث تخفيف التكاليف الاجتماعية الأخرى التي تنجم عن ارتكاب الجريمة، ويتيح منع الجريمة فرصا لوجود نهج إنساني، وأكثر فعالية من حيث التكلفة إزاء مشاكل الجريمة.

ومما تقدم فان فالوصول إلى نظام جنائي عادل وفعال يتطلب القيام بالآتي:

أولا- إجراء مراجعة شاملة للتشريعات الجنائية الوطنية في إطار ملاءمتها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان عبر مراحل الاتهام والتحقيق والمحاكمة والتنفيذ العقابي والعمل على تعديلها، ليكون القانون القائم الواجب التطبيق في متناول القضاء، سليماً على مستوى توفيره لضمانات حقوق الإنسان عبر هذه المراحل.

ثانيا- لتأكيد على إعمال مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق إنشاء المحكمة الدستورية التي يكون من بين اختصاصاتها الاطمئنان على موافقة ما يسن من تشريعات لمبادئ الدستور، وبما يشكل ضمانة لموافقة القانون الداخلي للمعايير الدولية لحقوق الإنسان واحترامها وتفادي انتهاكها.

ثالثا- التأكيد على مبدأ استقلال القضاء الجنائي عن السلطة التنفيذية والتنظيمات الحزبية وإعادة النظر بأية هيكلية إدارية وإجرائية قد تضع المحاكم الجنائية أو القضاة تحت تأثير السلطة التنفيذية.

رابعا- الاهتمام بسياسات إعداد وتعيين واختيار القضاة وأعضاء النيابة العامة والادعاء العام. واعتماد سياسات تدريب ملائمة لإكساب القضاة وأعضاء النيابة العامة والادعاء العام المعارف والخبرات والمهارات اللازمة في التعامل مع الظواهر الجرمية المستحدثة بفعل العولمة (جرائم غسيل الأموال، جرائم الإنترنت) والظواهر الجنائية الجديدة بفعل تنامي الجريمة العالمية المنظمة (الاتجار بالأعضاء البشرية، أو المواد الأثرية، أو التحف الفنية وغيرها).

خامسا- التشديد على عدم الاعتداد بالمعلومات والأدلة المنتزعة تحت وطأة التعذيب أو المعاملة القاسية أو أي شكل من أشكال الإكراه أو التهديد به، كقرائن على اقتراف الفعل المحظور من المتهم، وذلك تحقيقاً لمبدأ المشروعية وكرامة الأفراد بصرف النظر عن كونهم مذنبين أو غير مذنبين، واعتبارها باطلة النتائج والآثار.

سادسا- تفعيل العلاقة ما بين الإعلام والقضاء وفق معايير صحيحة من شأنها تنشيط دور الرقابة الشعبية في إطار العدالة الجنائية، ودون المس بتقاليد المحاكمة العادلة وموجباتها.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://adamrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق