q
ملفات - شهر رمضان

شهر رمضان والسَّعي لاستصحابِ التغيير

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الحادِيةُ عشَرَة (٢)

أَن لا يكونَ الشَّهر الفضيل مَوسِماً مُحدَّداً في الزَّمانِ والمكانِ، ما يترتَّب على الصِّيامِ فيجب أَن نبذِلَ كُلَّ مساعينا لاستصحابهِ طِوالَ العامِ بل طِوالَ العُمرِ. وبذلكَ تكُونُ هذهِ المحطَّةُ الإِلهيَّة العظيمة مدرسةً نتعلَّمُ فيها ما يقوِّمنا طُوالَ العامِ باستصحابِ الصِّفاتِ الحسنَةِ المُكتسبةِ. سيكُونُ الشَّهرُ نُقطةَ تحوُّلٍ...

 {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.

 إِذا أَردتَ أَن تَستَوعِبَ معاني الأَفعال فعليكَ أَن تفهمَ طريقةَ عملِها وكيفَ تترُك أَثرها في الأَشياء.

 كذلك على مُستوى العِبادات، فإِذا أَردتَ أَن تفهمَ كيفَ تعمل في النُّفوسِ، عليكَ أَن تستَوعِبَ فلسفتها أَوَّلاً وقبلَ كُلِّ شيءٍ.

 في اللَّيلةِ الأُولى من شهرِ الله الفضيل أَقترح قِراءة دُعاء الإِمام علي بن الحُسين زَين العابدينَ السجَّاد (ع) لدخُولِ شهرِ رمَضان، لنقفَ عند خارِطةِ الطَّريقِ التي نحتاجَها ونستعدَّ لها ونحنُ نبدأ رحلتَنا الماديَّة والمعنويَّة والروحيَّة والعقليَّة في الشَّهر الفضيلِ التي تمتدَّ شهراً كاملاً.

 فالمعرفةُ هُنا بمثابةِ دراسةِ الجدوائيَّة لأَيِّ مشروعٍ تنوي الإِقدامَ عليهِ وتنفيذهِ، لتتأَكَّدَ من مكاسبهِ قبلَ أَن تنطلقَ بهِ، والدِّراسةُ تنفعُ في مرحلةِ الدِّراسةِ والإِعدادِ والتَّخطيطِ ولا تنفعُ في مرحلةِ التَّنفيذِ أَو ما بعدَها، وإِلَّا لما سمِّيت بالجدوائيَّة أَليسَ كذلكَ؟!.

 فالجَدوى التي تعني الفائِدة والمَنفعة بحاجةٍ إِلى دراسةٍ دقيقةٍ من نمطٍ من الدِّراسات المُنظَّمة يهدفُ إِلى تقييمِ المواردِ المُتاحةِ لتحقيقِ غرضٍ معيَّنٍ مع التَّقييمِ المُتلازمِ لقدُراتِ وإِمكانيَّاتِ تدبيرِ هذهِ المواردِ، كما وردَ تعريفها في دِراساتِ الجدوائيَّة.

 والدُّعاءُ المذكُورُ يرسِمُ لنا الخارِطة التي يلزَم أَن نُهيِّئها ونحقِّقها في الشَّهرِ الفضيلِ وعلى [٣] مُستوَيات؛

 الأَوَّل؛ هوَ العِلاقةُ معَ الله تعالى، وهيَ تمتدُّ بينَ العبدِ وربِّهِ لا يتدخَّل بها أَحدٌ ولا يقيِّمها أَحدٌ ولا يثِقُ أَو يشككُّ بها أَحدٌ إِلَّا العبدُ نفسهُ فهوَ أَعرفُ بنفسهِ ممَّا يسعى إِليهِ لبناءِ العلاقةِ السَّليمةِ معَ الله تعالى.

 قالَ تعالى {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.

 وقَالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) لِرَجُلٍ أَفْرَطَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْه وكَانَ لَه مُتَّهِماً {أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وفَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ}.

 وقَالَ (ع) وقد مَدَحَهُ قَوْمٌ فِي وَجْهِهِ {اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي وأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ}.

 وما أَروعَ وصفهِ لمَن يضحكُ على نفسهِ، فلقد قَالَ (ع) لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وقَدْ سَمِعَه يُرَاجِعُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَلَاماً {دَعْه يَا عَمَّارُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا قَارَبَه مِنَ الدُّنْيَا وعَلَى عَمْدٍ لَبَسَ عَلَى نَفْسِه لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ}.

 فالحذرَ من أَن نكونَ ممَّن يتستَّر بالشُّبهةِ لتبريرِ الذَّنبِ!.

 يقولُ الإِمامُ السجَّاد (ع) {وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ فِيْهِ مِنَ الاَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتَّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلاَئِكَتِكَ إلاّ دُونَ مَا نُورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطَّاعَةِ لَكَ، وَأَنْوَاعِ القُرْبَةِ إلَيْكَ}.

 وقوله (ع) {وَجَنِّبْنَا الالْحَادَ فِي تَوْحِيدِكَ وَالتَّقْصِيرَ فِي تَمْجِيدِكَ وَالشَّكَّ فِي دِينِـكَ وَالْعَمَى عَنْ سَبِيْلِكَ وَالاغْفَالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالانْخِدَاعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.

 الثَّاني؛ هوَ العِلاقة مع الذَّات [السُّلوك والمُعاملة والمَنهج وطرِيقة التَّفكير وفهمِ الأُمورِ والأَشياء] كَون [الدِّين المُعامَلة] كما وردَ في الحديثِ الشَّريف، من خلالِ إِعادةِ النَّظرِ بالسِّيرةِ والمَسيرةِ والأَخلاقِ والمناقبيَّاتِ وكُلِّ ما يُساعِدُ في إِعادةِ صِياغةِ الشَّخصيَّةِ من جديدٍ باعتبارِ أَنَّ الشَّهرَ الفضيل محطَّةٌ للغسلِ والتَّطهيرِ والتَّنظيفِ والتزوُّدِ.

 يقولُ (ع) {وَأَعِنَّـا عَلَى صِيَـامِـهِ بِكَفِّ الْجَـوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ حَتَّى لاَ نُصْغِي بِأَسْمَاعِنَا إلَى لَغْوٍ، وَلا نُسْرِعُ بِأَبْصَارِنَا إلَى لَهْو، وَحَتَّى لاَ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلَى مَحْظُورٍ، وَلاَ نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلَى مَحْجُورٍ، وَحَتَّى لاَ تَعِيَ بُطُونُنَا إلاَّ مَا أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إلاَّ بِمَا مَثَّلْتَ وَلا نَتَكَلَّفَ إلاَّ ما يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلاَ نَتَعَاطَى إلاّ الَّذِي يَقِيْ مِنْ عِقَابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِئآءِ الْمُرَائِينَ وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعِينَ، لاَ نَشْرِكُ فِيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغِيْ فِيهِ مُرَاداً سِوَاكَ}.

 الثَّالث؛ هوَ العِلاقة مع الآخر إِبتداءاً بالأَقربِ فالأَقربِ، الأُسرة والجيران والأَصدقاء وزُملاء العمَل والمُجتمع، الذي يُشاركُني في العقيدةِ والذي لا يُشاركُني فيها، والذي يُشاركُني في الدِّين والذي لا يُشاركُني.

 بمعنى آخر؛ هوَ مُستوى الإِنسانيَّة ومُغادرةِ مُستوى الحَيوانيَّة في خصُوصيَّاتِها وصِفاتِها المُتهافِتة على مُستوى العِلاقاتِ.

 يقولُ (ع) {وَوَفِّقْنَا فِيهِ لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالاِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَـا وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا وَأَنْ نُسَـالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ}.

 أَمَّا النُّقطة الجَوهريَّة في كُلِّ ذلكَ فهوَ السَّعي لاستصحابِ ما نبنيهِ في هذا الشَّهرِ الفضيلِ وما نكسبهُ وعلى المُستوَياتِ الثَّلاثةِ إِلى بقيَّةِ أَيَّام السَّنةِ وشهورِها.

 بمعنى أَن لا يكونَ الشَّهر الفضيل مَوسِماً مُحدَّداً في الزَّمانِ والمكانِ، باستثناءِ الصِّيامِ طبعاً باعتبارِ وجُوبهِ فيهِ، أَمَّا ما يترتَّب على الصِّيامِ فيجب أَن نبذِلَ كُلَّ مساعينا لاستصحابهِ طِوالَ العامِ بل طِوالَ العُمرِ.

 يقولُ (ع) {أللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ وَالاَيَّامِ كَذَلِكَ مَا عَمَّرْتَنَا}.

 وبذلكَ تكُونُ هذهِ المحطَّةُ الإِلهيَّة العظيمة مدرسةً نتعلَّمُ فيها ما يقوِّمنا طُوالَ العامِ باستصحابِ الصِّفاتِ الحسنَةِ المُكتسبةِ.

 وبذلكَ سيكُونُ الشَّهرُ نُقطةَ تحوُّلٍ للتَّغييرِ الحقيقي، أَمَّا الذين يتركُون كُلَّ ما يكسِبونهُ وراءَ ظهورهِم لحظةَ انتهاءِ الشَّهرِ، فهؤُلاء كأَنَّهم لم يفعلُوا شيئاً، فأَفضل لهُم أَن لا يدخلُوا قاعةَ الدَّرسِ مِن أَساسِها.

 وصدقَ اللهُ تعالى بوصفهِم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

اضف تعليق