q
قدرًا مُتناميًا من الأبحاث يشير إلى فوائد المحن في تعزيز مرونة الأفراد؛ أي قدرتهم على التفاعل مع التجارب السلبية على نحوٍ مَرِن وبنَّاء. يبدو أن الأحداث المعاكسة تمدُّ الناس بفرصٍ للاعتياد على التأقلم مع الصدمات، ومن ثمَّ ابتكار استراتيجيات مفيدة للسيطرة على الخسائر المستقبلية على نحوٍ عملي...

القُدرة على رؤيةِ الإيجابي في الظروف القاسية بحقٍّ تُوضِّح كيف تحدِّد طريقةُ تفكيرِنا العواقبَ. رغم أننا لا نستطيع أن نمضي في الحياة مُتجنِّبين كلَّ الخسائر، فإننا نملك سيطرة كبيرة على الطريقة التي نرى بها حتى الصدمات الأليمة. من ثَم؛ فإن معرفة السبيل لتبنِّي طريقةِ تفكير إيجابية جزءٌ أساسي من الحفاظ على مشاعر السعادة، مهما كانت الظروف.

مشاعر التعاطف

في ١٥ أبريل ٢٠١٣، كان كارلوس أريدوندو يشاهد ماراثون بوسطن حين سمع انفجارًا مدويًا. رغم أنه لم يكن يدري ما إذا كانت ستقع انفجاراتٌ أخرى؛ فقد هُرع في الحال نحو رجل كانت ساقاه تنزفان بشدة. فصارت صورة كارلوس، الرجل الذي يعتمر قبَّعة رعاة البقر، وهو يدفع جيف باومان على كرسي متحرك من الصور الرمزية للبطولة التي شُوهدت في ذلك اليوم.

ما الذي دفع كارلوس إلى التصرُّف على الفور دون روية، مُعرِّضًا حياته للخطر؟ أغلب الظن أن تجربته الشخصية مع المصائب كان لها دور. فابن كارلوس البكري، جندي المارينز، لاقى حتفَه عام ٢٠٠٤ في العراق. ومات ابنه الأصغر الذي أُصيب باكتئاب حاد إثر هذا المُصاب مُنتحرًا عام ٢٠١١. من المحتمل أن تكون هذه المآسي قد عزَّزت قدرته على التعاطف مع الآخرين والإقبال على أعمال خير يُنقِذ بها حياة الآخرين.

هذا النوع من التعاطف بين الذين خبروا خسارات كبرى ليس بالشيء غير المألوف. إذ تُدلِّل أبحاثٌ طولية على أن العديد من الناس الذين يموت لهم زوجٌ بسرطان الرئة تظهر تغيراتٌ كبرى على شخصيتهم. من بين هذه التغيرات تنامى حبُّ الاختلاط بالآخرين وأهليتهم لثقة الغير وكذلك الآراء الاجتماعية الإيجابية. في الواقع، يُبدي نحو ٤٠ في المائة من الأزواج المفجوعين ارتفاعًا كبيرًا في توجُّههم نحو أفعال الخير.

تكشف أبحاثٌ معملية عن نتائج مشابهة تتعلَّق بتعزيز المِحن للسلوك الاجتماعي الإيجابي. فقد تحرَّى الباحثون في واحدة من الدراسات، مثلًا، مقدارَ ما تعرَّض له بعض الناس من النوازل وكذلك مستويات التعاطف والشفقة لديهم. ثم أتاحوا للمشاركين في الدراسة الاختيار بين الاحتفاظ بكل المال الذي دُفع لهم مقابل الاشتراك في الدراسة أو التبرُّع ببعض مُكتسباتهم للصليب الأحمر. وكما هو متوقَّع، كان الناس الذين تعرَّضوا لأحداثٍ سلبية أكثر في حياتهم، وبالتالي أمكنهم التعاطف مع الآخرين المحتاجين لتلك المساعدة، أكثر إقبالًا على التبرع.

لكن لتظلوا مُتذكِّرين أن التعافي من الصدمة يستغرق وقتًا. ففي أعقاب معرفةِ كارلوس أريدوندو مقتلَ ابنِه الأكبر مباشرةً أصابه غمٌّ عظيم، حتى إنه لجأ إلى علاجِ حزنه علاجًا نفسيًّا داخل مصحة. وقدرته على إظهار قدرٍ هائل من الشجاعة والتعاطف خلال هجمات ماراثون بوسطن لم تأتِ إلا بعد مرور بعض الوقت، وبعد أن تصالح مع خسارته.

المِحَن تنمِّي المرونة

لعل الأمر الأهم أن قدرًا مُتناميًا من الأبحاث يشير إلى فوائد المحن في تعزيز مرونة الأفراد؛ أي قدرتهم على التفاعل مع التجارب السلبية على نحوٍ مَرِن وبنَّاء. يبدو أن الأحداث المعاكسة تمدُّ الناس بفرصٍ للاعتياد على التأقلم مع الصدمات، ومن ثمَّ ابتكار استراتيجيات مفيدة للسيطرة على الخسائر المستقبلية على نحوٍ عملي.

إليكم مثالًا بسيطًا على فوائد التعرُّض لحدثٍ صعب وإن كانت صعوبته منخفضة نسبيًّا. درس الباحثون في إحدى الدراسات تأثيرَ رحلة بحرية في نيوزيلاندا استمرت ١٠ أيام على القدرة على التأقلم لدى مراهقين. تعرَّض المراهقون لظروف صعبة، منها بذل مجهود بدني شاق، ودُوار البحر، والطقس السيئ، والظروف المعيشية المزدحمة، والمهام اليومية الممتدة. قيَّم الباحثُون مستويات المرونة لدى الطلاب أثناء الرحلة وقيِّموها مرة أخرى بعد خمسة شهور، ثم قارنوا بين مستويات المرونة هذه ومستويات المرونة لدى طلاب بالجامعة لم يُشاركوا في مثل تلك الرحلة.

كانت الفروق في مستويات المرونة بين هاتين المجموعتين طويلة الأمد. فقد أدَّى التعرُّض لظروف قاسية، مصحوبة بالعلم بأن الشخص لديه القدرة على التأقلُم مع هذه التحديات، إلى مستوياتٍ أعلى بكثير من المرونة مقارنةً بطلاب الجامعة الذين لم يذهبوا في رحلة مثل تلك. على هذا النحو، يبدو أن التجارب المجهِدة «تحصِّننا» من الضغوط المقبِلة. فإننا نتعلَّم من التجربة أن لدينا البأس لعبور التحديات الصعبة ويصير هذا الاعتقاد عظيمَ الفائدة حين نتعرَّض لمكدِّراتٍ أخرى فيما بعدُ في الحياة اليومية.

هذا، ومن المسلَّم به أن الضغط النفسي الناجم عن سفر المغامَرات لا يُماثل تمامًا الضغوط النفسية الصعبة التي تُواجهنا في الحياة اليومية. لكن ضغوط عالم الواقع، وحتى مآسيه، تَمنحنا مزايا مماثلة من حيث تعليمنا المرونة.

فمثلًا تابع الباحثون في دراسة أخرى واسعة النطاق نحو ٢٠٠٠ بالغ من سن ١٨ حتى ١٠١ لعدة سنوات لتقييم كيف تغيَّرت حالاتهم بمرور الوقت. دوَّن المشاركون أيَّ أحداث محورية مجهِدة تعرَّضوا لها قبل بدء الدراسة، ثم أي أحداث جديدة طرأت. شملت هذه الأحداث الطلاق، وموت شخص عزيز، والأمراض العُضال، والكوارث الطبيعية. ثم قيَّم الباحثون العلاقة بين عدد الأحداث المجهِدة والرفاه النفسي بوجه عام.

ربما تتوقَّع أن يكون الناس الذين تحاشَوا الضغوط الشديدة هم الراضون أكثرَ عن الحياة. لكن في الواقع لم يكن المتمتعون بحياة خالية نسبيًّا من الضغط النفسي أكثرَ سعادة ممَّن تعرضوا لأحداث محورية متعدِّدة بلغ عددها ١٠ أحداث. من كان الأكثر سعادة؟ إنهم أولئك الذين تعرضوا لبعض الأحداث الصعبة (اثنان حتى ستة) وليس عددًا كبيرًا جدًّا من تلك الأحداث.

تشير هذه النتائج إلى أن المرونة لا تأتي بالصدفة، لأغلبنا على الأقل. وإنما نصير أقدرَ على التعافي من الأحداث الصعبة بالتمرُّن. فالناس الذين استطاعوا أن يتجنَّبوا المنغِّصات الكبرى لم تتسنَّ لهم فرصة تنمية هذه المهارات؛ مِن ثَم فإنهم عند وقوع المشكلات يجدون صعوبةً في التكيف معها. تسهم هذه النتائج في تفسير النتيجة المخالِفة للتوقُّعات التي تشير إلى أن المصابين بمرضٍ عصبي خطير من المترمِّلين يشعرون بمعدلات أعلى من السعادة من المتزوجين. باختصار، يساعد التعرُّض لخسارةٍ كبرى سلفًا الناسَ على تنمية استراتيجيات تكيفية للتعايش مع ما يطرأ من منغِّصات الحياة؛ مثل أن تُشخَّص حالتهم بمرض يهدِّد حياتهم مثلًا.

تُعطي هذه الأبحاث دليلًا قاطعًا على أن ما لا يكسِرُنا يزيدُنا صلابة ولا شك. تقول روكسان كوهين سيلفر، عالِمة النفس في جامعة كاليفورنيا، إرفين: «كلُّ حدث سلبي يواجهه الإنسان يؤدي إلى محاولةٍ للتكيُّف، مما يحمل الناس على الاطلاع على قدراتهم، والداعمين لهم من معارفهم-يعلمون مَن أصدقاؤهم الحقيقيون. ونعتقد أن ذلك النوع من المعرفة بالغُ الأهمية للتمكُّن من التأقلم فيما بعدُ.»

لكن ليَبقَ في أذهانكم أنَّ هناك بالطبع حدودًا لفائدة المِحَن. فبرغم كل شيء، كان الأشخاص الذين تعرضوا لعدد كبير من تلك الأحداث في حالٍ أسوأ من الذين مرَّ بهم عدد معقول من تلك المواقف. إليزابيث سمارت، التي اختُطفت من منزلها في ولاية يوتا في سن الرابعة عشرة وأمضَت تسعة شهور تعرَّضت خلالها للإيذاء البدني والنفسي قبل إنقاذها كتبت معقِّبة: «إنني أقوى مما كنت سأُصبح. لكنَّني لا أتمنى لأحد أن يمرَّ بهذه التجربة. لا أعتقد أن أي شخص قد يريد أن يصير قويًّا بهذه الطريقة.» لكن حتى في مواجهة عددٍ هائل من التجارب الصعبة، تظل الروح الإنسانية تبرهِن على قدرةٍ مميَّزة على التأقلم، كما ستقرءون في القسم التالي.

قوة التأقلم

في ٢٣ يوليو عام ٢٠٠٧، أقدَم رجلان كانا قد خرجا حديثًا من السِّجن على اقتحام منزل في تشيشير، كونيتيكت. فقيَّدا الأب، الدكتور ويليام بتيت، في القبو. ثم قيَّدا زوجته، جينفير، وابنتيهما، هايلي وميكيلا، في أَسرَّتهنَّ وشرعا يعتديان جنسيًّا على ثلاثتهن. كانت الفتاتان في سن الحادية عشرة والسابعة عشرة. وبعد ذلك، حتى يُخفيا أثرَ جرائمهما، أشعل الرجلان النار في المنزل. تمكَّن ويليام من الهروب من القبو، لكنَّ زوجتَه والفتاتين متنَ من استنشاق الدخان.

يستحيل على أغلب الناس تخيُّل التفاصيل البشعة لهذه القصة، وكذلك هول الخسارة التي ألمَّت بويليام. يبدو فقدان زوجته وابنتَيه شيئًا لا يُحتمل، لا سيما مع الملابَسات الشنيعة لآخر ساعاتٍ لهنَّ على قيد الحياة. وربما يتساءل أغلبنا أنَّى له أن يشعر بالسعادة مرةً أخرى.

بيْد أنه في عام ٢٠١٢ تزوَّج ويليام مرةً أخرى. فقد التقى بزوجته الثانية، كريستين، حين تطوَّعت للعمل مصوِّرة مع مؤسسة عائلة بتيت، المؤسسة الخيرية التي أقامها تخليدًا لذكرى أسرتِه. وقد حضرت أسرة زوجته الأولى عُرسَه وعبَّرت عن سرورها لعثوره على الحب مرةً أخرى. وفي ٢٣ نوفمبر عام ٢٠١٣، رُزق ويليام وكرستين بتيت بمولود جديد، ويليام آرثر بتيت الثالث.

ماذا نتعلم من هذه القصة المأساوية عن تحقيق السعادة؟ من المسلَّم به أن فقدان زوجتِه الأولى وابنتيه غيَّر ويليام بتيت وشكَّله على نحوٍ جذريٍّ وسيَظلُّ يؤثِّر عليه ما تبقَّى من حياته. إلا أن هذه القصة مثال حي على قُدرة الروح البشرية على التأقلم، حتى مع الظروف التي قد يبدو أنها مستعصية على التحمُّل في بادئ الأمر. فبعد مجابهةِ ظروفٍ عسيرةٍ حدَّ البشاعة، يمكننا مع الوقت العثورُ على السعادة مجددًا. مثلما قال الشاعر والروائي رينر ماريا ريلكه: «دعْ كل شيء يحدث لك. كل شيء سواء كان جَمالًا أو رعبًا. حسبك أن تمضي في سبيلك. فليس هناك شعور أبدي.»

بعيدًا عن الاستناد إلى الحكايات، أثبتت الأبحاث العلمية هي الأخرى قُدرة الروح البشرية على التأقلم مع الأحداث السلبية، حتى حين لا نستطيع تصوُّر إمكانية هذا. فتكشف الدراسات التي أُجريت على الأشخاص الذين عانَوا خسارةَ وظيفةٍ أو إصابةَ النخاع الشوكي أو العمى أنه بعد الفترة الأولى للتكيُّف، يُفيد العديد منهم بالفعل بشعورهم بحالة إيجابية. فما زال البشر يثبتون مرارًا وتكرارًا أنه مهما بدا سوء الظروف في لحظتها نستطيع جميعًا أن نعثر على السعادة مجددًا في نهاية المطاف.

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق