q
ورغم أننا قد نظن أن المرور بأحداث من هذه النوعية سيُؤثِّر بالسَّلب على السنوات المقبلة، ومن ثَم يؤدي بالناس إلى الشعور بالمزيد من الكآبة والعجز والتشاؤم مع التقدُّم في العمر، فلا حاجة بنا للقلق. إذ يقلُّ شعور الناس بالعواطف السلبية ويزيد شعورهم بالعواطف الإيجابية مع التقدُّم في العمر...

مجابهة أحداثٍ حياتية صعبة تُغيِّر طريقة تفكيرنا

بأي طريقة على وجه التحديد تُساعدنا أحداث الحياة المُثيرة للضغط النفسي على أن نتمتَّع بحياةٍ أفضل؟ التعرُّض لأحداث سلبية والخروج منها يُعزِّز من قدرتنا على إدراك الأشياء البسيطة والاستمتاع بها - شروق شمس خلاب، رواية شائقة. كذلك قد يُفيد التعرُّض لبعض الشدائد في تذكيرنا بأن نُقدِّر المباهج الصغيرة في الحياة اليومية، أن نتمهَّل لتأمُّل جمال الحياة.

طلب الباحثون في واحدة من الدراسات من ١٥ ألف بالغ أن يُكمِلوا اختبارًا لقياس التلذُّذ، نوع من تنظيم الانفعالات حيث يَسترسل الناس في التجارب الشُّعورية الإيجابية ويُعزِّزونها. (من الممكن أن تستمتع بمذاق قالب شوكولاتة لذيذ بتخيُّلك كم سيكون مذاقه طيبًا قبل أن تشرع في تناوله حتى، وتناول قطع بالغة الصِّغر لتُساعِد على بقاء المذاق لمدة أطول، وإمعان التركيز في مدى روعة مذاق الشوكولاتة في فمك). ثم سألوا المُشاركين عن أنواع الأحداث السلبية التي مرَّت بهم، سواء كانت موتَ شخص عزيز، أو طلاقًا، أو مرضًا، أو إصابة خطيرة. رغم أن الناس الذين كانوا ما زالوا يُعانون الحدثَ أفادوا بقدرةٍ أقل على الاستمتاع بالأحداث الإيجابية، فإن الذين مرُّوا بتجارب صعبةٍ أكثر فيما مضى أفصحوا عن مستوياتٍ أعلى من التلذُّذ. بعبارة أخرى، يبدو أن المرور بتجاربَ حياتية أكثر صعوبة في الماضي، والتكيُّف معها، يعزِّز من قدرة الأشخاص على الاستمتاع بالتجارب السارة.

تسهم هذه النتائج في تفسير ظاهرةٍ مُحيِّرة - ألا وهي أن السعادة كثيرًا ما تزداد مع التقدُّم في العمر. فمع بلوغ الستين، نكون جميعًا قد مررنا بمواقف حياتية عسيرة، مثل خسارة أحباء، أو انتكاسات في العمل، أو مشكلات صحية. ورغم أننا قد نظن أن المرور بأحداث من هذه النوعية سيُؤثِّر بالسَّلب على السنوات المقبلة، ومن ثَم يؤدي بالناس إلى الشعور بالمزيد من الكآبة والعجز والتشاؤم مع التقدُّم في العمر، فلا حاجة بنا للقلق. إذ يقلُّ شعور الناس بالعواطف السلبية ويزيد شعورهم بالعواطف الإيجابية مع التقدُّم في العمر، أي إن الذين في السبعينيات والثمانينيات من العمر يفيدون بشعورهم بسعادةٍ أكبر من المراهقين!

سأل الباحثون في دراسة أخرى ١٥٠٠ بالغٍ أعمارهم بين ٢١ و٩٩ عن أدائهم الحيوي العام، بما يشمل الوظائف البدنية والمعرفية والنفسية. رغم أن كبار السن أفصحوا عن مستوياتٍ أدنى في الوظائف البدنية والمعرفية كما هو متوقَّع؛ فقد أفادوا بمستويات أعلى من الصحة النفسية. بعبارة أدقَّ، كلما تقدَّم بالشخص السنُّ زادت قناعته بالحياة، وانخفض شعوره بالضغط النفسي والقلق والاكتئاب. علَّق الدكتور ديليب جيست، مدير مركز التمتُّع بالصحة في الشيخوخة في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، بالقول: «أعرب المشاركون أن رضاهم عن ذاتهم وحياتهم أخذ يزيد عامًا بعد آخر، وعقدًا بعد عقد.»

تسهم عواملُ عدة متنوِّعة في زيادة مقدار سعادتنا مع تقدُّمنا في العمر. لكنَّ أحد الأسباب هو أن مجابهة أحداثٍ حياتية صعبة تُغيِّر طريقة تفكيرنا، وهذا التحوُّل يجعلنا أكثرَ انشراحًا.

وفقًا للأثر الإيجابي المتعلِّق بالشيخوخة، فإن المسنين بوجهٍ عامٍّ يفضِّلون الشيء الإيجابي في مقابل الشيء السلبي ويولونه اهتمامَهم المتواصل. فمثلًا حين يعرض الباحثون على الناس حشدًا من الوجوه بتعبيراتٍ متنوعة، يَلتفِت الأصغر سنًّا أكثر للوجوه التي ترتسم عليها أمارات التهديد، بينما ينجذب انتباه الأكبر سنًّا تلقائيًّا إلى الوجوه المبتهِجة. كما أنهم يتذكَّرون الأحداث الإيجابية أكثرَ من السلبية. بعبارةٍ أخرى، ينزع المتقدِّمون في السن إلى تركيزِ انتباههم وذاكرتهم بإمعانٍ على الأشياء الطيبة، بينما يميل الأصغر سنًّا إلى التركيز على الأشياء الرديئة. في رأيك، أيُّ نوع من التركيز يؤدي إلى سعادةٍ أكبر؟

يتجلَّى تحوُّل طريقة التفكير هذه في الكيفية التي يعالج بها مخُّنا الأحداثَ بأنواعها المختلِفة. فعلى سبيل المثال، عرض الباحثون في واحدة من الدراسات على مجموعتَين من الناس، من سن التاسعة عشرة إلى الحادية وثلاثين، ومن سنِّ الحادية والستين إلى الثمانين، صورًا بينما كانوا بداخل جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي. كانت بعض الصور تُعبِّر عن تجاربَ إيجابية، مثل مُتزلِّج أثناء فوزه بسباق، وعرضت صور أخرى تجارب سلبية، مثل جنديٍّ جريح. وقاس الباحثون نشاط المخ ليَروا ما إن كان السن أدَّت إلى اختلافٍ في طريقة استيعاب هذه الصور.

على عكس ما توقَّعوه، لم يكن ثمَّة اختلافٌ بين المجموعتين عند رؤيةِ الصور السلبية، على المستوى العصبي على الأقل. لكن حين شاهدتِ المجموعةُ الأكبر سنًّا الصورَ التي عرضت تجاربَ إيجابية، نُشطت كل من المناطق التي تختص بالمشاعر (اللوزة الدماغية) والذاكرة (الحُصَين). هذا يدُل على أن كبار السن استوعبوا الأحداث الإيجابية بشدة؛ فقد كانت مناطق المخ التي تعالج الأشياء الطيبة كأنها تقول «تذكَّر هذا.» لم يُرصَد هذا النوع من النشاط في المجموعة الأصغر سنًّا.

إذن فإننا مع التقدُّم في السن نصير أفضلَ في الانتباه إلى الأشياء الطيبة وتجاهل الأمور الرديئة، وهذا التغيُّر في طريقة التفكير يجعلنا نشعر بسعادةٍ أكبرَ بالطبع. ومثلما وصف ألفين مان، البالغُ من العمر ٩٤ عامًا، استراتيجيته لشيخوخةٍ أفضل لصحيفة «نيويورك تايمز»: «بالتأكيد يرتبط الأمر إلى حدٍّ ما بالعلوم الطبية، لكن الجانب الأهم أن نعيش حياةً خالية من القلق؛ فلا نسمح لشيء لا نملك السيطرة عليه أن يزعجنا على الإطلاق».

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق