q
ثقافة وإعلام - أدب

ثلاثية الاحترام الحب الاهتمام

مذكرات قابلة للنسيان (14)

يباغتني نوع من العطش غريب، ليس للماء، ولا للعصائر أو للبيبسي كولا، عطش يصعب تفسيره على كائن غضّ مثلي، أحيانا أسمّي هذا العطش (عطش الاهتمام أو الاحترام)، وأجده أهم من عطش الماء، لأنه يترك في الروح لوعة وفراغا وقلقا وضياعا، هكذا بدأتُ أشعر بالضياع عندما افتقدتُ لاهتمام قبيلة...

يباغتني نوع من العطش غريب، ليس للماء، ولا للعصائر أو للبيبسي كولا، عطش يصعب تفسيره على كائن غضّ مثلي، أحيانا أسمّي هذا العطش (عطش الاهتمام أو الاحترام)، وأجده أهم من عطش الماء، لأنه يترك في الروح لوعة وفراغا وقلقا وضياعا، هكذا بدأتُ أشعر بالضياع عندما افتقدتُ لاهتمام قبيلة، فهي لم تعد تسبق اسمي بكلمة (سيد) عندما نتحاور، بل هي لا تنظر إليّ، وفي حينها احترتُ بالسبب لكنني لم أسألها لماذا؟

كان بيتنا في حي رمضان من البيوت التي أسست هذا الحيّ، كأنه خيمة مزروعة في قلب صحراء، وحده ينتصب في وهادٍ واسعة، لا جار ولا بيوت قريبة، ولكن في غضون شهور وقف أمام بيتنا، مقابلنا بيت ثان، فأصبح لنا جيران، وفي نفس الوقت بدأ بيت نوفه الملاصق لجارنا الجديد يُبنى بشكل سريع، وأصبح قبال بيتنا بيتان، فصارت الحياة أقل وحشة، هناك أولاد في مقتبل العمر، أحيانا نلتقي ونلعب معا كرة القدم أو ألعابا أخرى.

لكن عطش فقدان الاهتمام والاحترام بدأ يتصاعد، ولابد من حلّ، قبيلة لم تعد كما هي، وفيما بعد عرفتُ بأنها اختارت أحد أقاربها من بغداد وحسمت أمرها، قد يكون هذا هو السبب الذي جعلها تتغيّر، الغريب هو خطأ الإحساس المرير، أو الشعور الخاطئ الذي عشته طويلا، كيف كنتُ أفكّر بأنها تحبني، كيف حسمت هذا التوقّع بيني وبين نفسي؟، فيما بعد عرفت أنها تحترمني فقط، ولكن أليس الحب هو الاهتمام؟

هذا بالضبط ما كانت تقدمه لي قبيلة، الاحترام والاهتمام، فارتوت روحي من اهتمامها، تخيّلتُ أنها تحبني، ولا يقف الأمر عند الاحترام فقط، وبنيتُ في ذلك العمر الغض أحلاما كبيرة، كان لها الفضل عليَّ في تحقيق علامات عالية في الدروس، والعمل المتواصل في مهن مختلفة، أبيع الأسكيمو، وأعمل في (برْم وغزْل الخيوط)، وعامل بناء، وكببجي، وقهوجي، وعملت في أفران بيع الخبز، كنتُ أحب العمل، وأكافح حتى أحصل على درجات عالية في الامتحانات، وكنتُ أضع كل ما أحصل عليه من نقود في يد أبي...

عندما حاصرني عطش فقدان الاحترام، لم أعد كما كنت، بدأت أحاربُ نفسي حتى لا أتذكّر قبيلة، حتى لا أعتمد على احترامها أو اهتمامها، وفجأة وجدتُ البديل، في الجيران الذين سكنوا قبال بيتنا...

في غروب غض رأيت ما يشبه الملاك، فتاة خطفت كالغزال أمام عيني ودخلتْ بيت الجيران الجديد الذي اكتملَ إلى جانبه بيت نوفه العاقر، فأصبح لنا جاران..

يقع بيت الملاك ذات العيون الخضر، مقابل بيتنا، كان يسميها الشباب والمراهقون في حيّنا، (الفتاة الأوربية) لجمالها، لا أنسى اللقاء الأول الذي جمعني بها على قارعة الطريق غروبا، حينما مسكت يدي بيدها الصغيرة و وضعتْها على قلبها، فأحسستُ نبضها يتلاحق بذعر يتناقض مع سعادتها آنذاك...

في الأيام الأولى كنت أقضي النهار كله فوق سطح بيتِنا، أتناول وجبات الطعام الثلاث تحت شمس الصيف القائظ، هي في السطح المقابل، نتعامل بالإشارات، لا نملّ الكلام بالأصابع، يمضي الوقت سريعا، المسافة بين الصبح والغروب تصبح قصيرة كغمضة عين، لا نشعر بها، ولا بالحر المجنون الذي تسكبه الشمس على رؤوسنا، أمي هي الوحيدة التي عرفت بقصة هذا الحب المباغت، أخذتني جانبا وقالت لي:

- إذا عرف أبوك بالأمر سيطردك من البيت أو يحبسك في الغرفة، ثم أكملت قولها:

- الحب يا بنيّ يبيّض الوجوه ولا يسودها!!

ركضتُ إلى المرآة، رأيت وجهي، بدا لي سبّورةً سوداء بسبب لفح الشمس، نوفه العاقر أظن أنها عرفت بحبنا الغضّ، رأيتها تتلصص علينا، لم نكتفِ بالإشارات من بعيد، قمنا بمد خيط أبيض رفيع بين سطحيْنا، وربطنا في طرفيّ الخيطين كأسين من البلاستك، وبدأنا نتبادل الحديث، أضع الكأس لصق فمي وهي تضعه لصق أذنها وأبدأ أنشدُ لها، أراها تتمايل إعجابا على السطح المقابل، أعرف أن صوتي الولهان يصل إليها، تضع الكأس لصق فمها وأضعه لصق أذني فأسمع شهقات الشوق في صوتها العصفوري، أتقافز فرحا...

شيء جديد ستقوم به أيضا، قذفتْ من سطحها قطعة بسكويت مدوَّرة خفيفة كورقة، أرسلتها بخفّة غريبة نحوي، لا أعرف أيَّ تصويبٍ رهيب أوصل البسكويتة إلى يدي تماما، أنا بالمقابل سوف أرسل لها تفاحة حمراء ملساء تشبه كرة صغيرة، كان يجب أن تكون مهمتي أسهل فأضع التفاحة في كفّ الملاك تماما، لكن حين صوّبتها وقذفتها انحرفت صوب بيت نوفه وسقطت في حديقتها، فسمعتُ صوت نوفه وهي تلعن الجميع.

هربتُ من السطح وكذلك هبطت هي من سطحهم، بعد دقائق صمت، عُدنا.. وبدأت لغة الأصابع بيننا حتى الغروب، بل حتى العشاء، مرّت شهور ولم تتوقف لغة الأصابع بيننا.. والآن كلما أتذكّر أنها ذهبت إلى رجل غيري، ولم تكن من نصيبي، أرفع يدي إلى وجهي، أتحسّس السواد الذي حفرته الشمس في بشرتي ومسامات جلدي، وأتذكر كلمات أمي..

(الحب يا بنيّ يبيّض الوجوه دائما...)...

لم أرتوِ من حبّ الملاك، ولا اهتمامها، تقدّم لخطبتها رجل ثري جدا، وابتاعها بفلوسه سلعةً جميلة لا أكثر، وضاع الاحترام الذي كنت أحوز عليه من قبيلة، ولكن في كلا الحالتين لم يكن الذنب ذنبي، إنه الفقر العنيد، ولكن منْ منكم جرّبَ هذا النوع من العطش، أقصد عطش فقدان الاهتمام؟

كنتُ أظن كغيري من الشباب بأن الحلّ يكمن في الفلوس، وأن عطش الاهتمام سوف يُروى عندما تصبح غنيّا، هكذا فكّرتُ حين كنتُ أتابع فلما عربيا في مقهى (أبو ياسين) بحي رمضان، في جيبي عشرة فلوس فقط تكفي لتسديد الشاي الذي شربته مقابل الجلوس في المقهى، الدنيا ليل وغداً يوم عيد، وأنا لا املك سوى هذه (العشرة فلوس)..

فكرتُ أنني لن ادفعها لأبي ياسين القهوجي، حتى أستطيع غداً أركب الأرجوحة المنصوبة بين نخلتين شاهقتين في منطقة (الحر)، ثم حلمتُ أن جيبي يغصُّ بالفلوس فجأة، فكرتُ أشتري ملابس جديدة، وحذاءً لمّاعا، سأنثر الدراهم على أخوتي وأخواتي، سأركب في العربات التي تقودها الحمير أو الخيول أحيانا، سوف أطلق العنان لصوتي مع الأطفال في أول أيام العيد نردد أهازيج الفرح الحرّ..

فجأة رأيتُ عين (أبو ياسين) تراقبني، تأكَّدتُ من وجود العشرة فلوس في راحة يدي، قبضتُ عليها بقوة، وتركت المقهى هارباً من الباب الخلفي، صرتُ بعيدا عن المقهى، لم يلاحقني أحد، هدأتْ أنفاسي، نظرتُ إلى السماء، كانت صافية مرصعة بنجوم هادئة، فرحتُ لأنني أستطيع غدًا أن أركب الأرجوحة..

في الطريق رأيتُ أربعة مراهقين بعمري يشكلون دائرة ويلعبون (الزار) مقابل خمسة أو عشرة فلوس، جلست معهم، قامرتُ بمبلغ الشاي، قلبي ينبض بخوف، رميتُ الزار المكون من 12 نقطة، حصلتُ على 11 ورمى الآخرون أيضا، كنت الأعلى وفزت بأربع عشرات، أربعين فلسا، مبلغ كبير، ولعبت مرة أخرى وأخرى، كنت الأعلى دائما..

في عشر دقائق كسبتُ الكثير، قبضةُ يدي امتلأت بعشرات الفلوس، مع نفسي فكرتُ أن أكفَّ عن اللعب، خشيتُ من الأولاد الأربعة، ربما يطالبونني بالاستمرار، فجأة تركتُ اللعب ونهضت بقوة، لم ينبس أحد بكلمة، أطلقتُ خطواتي إلى البيت، رنين القطع المعدنية في جيبي يبعث رنينا صاخبا، فرح هائج أيضا يجتاح قلبي، في دقائق قليلة أصبحتُ غنياً..

غداً في أول أيام العيد سوف أكون أغنى الأطفال، وصلتُ بيتنا، طرقتُ الباب الحديد، لم يفتح لي أحد، سمعتُ صوت صراخ وضجيج، قفزتُ وعبرت سياج البيت، ركضتُ إلى الغرفة، وجدتُ أبي طريح الفراش يعاني من آلام مبرحة في البطن، خرجتُ مذعورا إلى الشارع، أتيتُ بسيارة أجرة (تكسي) ذهبنا بأبي إلى مستشفى الطوارئ، حقنوه بإبرة مخدرة وأدوية أخرى، بعد نصف ساعة عدنا بسيارة الأجرة نفسها، وأفرغتُ جيبي تماماً و وضعتُ النقود كلها بيد السائق.. تذكرت الأرجوحة، وعرفت أنني لا أستطيع الصعود فيها غداً...

اضف تعليق