السلطان يتمرن على الرعونة

انقلبت الجمهورية التركية على تراثها "الكمالي" الذي قصد لينين روسيا طالبا قروضا مالية عاجلة لتعزيز خزينة جمهوريته الفارغة نتيجة محاصرة الدول الغربية لدولته الناشئة، بعد تحجيمها. لينين وفر لكمال اتاتورك ما ينوف عن 100 مليون روبل من الذهب بين 1920-1921؛ وفق بيانات الاستاذ الجامعي في جامعة كيل البريطانية، بولنت غوكاي، والذي شغل منصبا رسميا رفيعا في وزارة الخارجية قبل بضعة سنوات.

عانت الطبقة السياسة التركية منذ تلك الازمنة أزمة هوية سياسية واجتماعية مما جعلها تركض وراء الغرب والتمثل به دون ان يعترف لها بدور مماثل. وانضمت لسياسة الاحلاف الغربية في المنطقة وما ترتب عليها من استعداء الدول العربية بشكل اساسي في مرحلة التحرر والاستقلال الوطني، وابقت على عضويتها في حلف الناتو استكمالا لتوجهاتها بمعاداة الاتحاد السوفياتي، وخليفته روسيا الاتحادية لاحقا.

تركيا واعضاء حلف الناتو الآخرين يتحركون ضمن سقف سياسة الطرف الاقوى في الحلف، الولايات المتحدة، ينفذون ما يطلب منهم ولو بعد حين. في هذا السياق ينبغي رؤية حادثة اسقاط تركيا للقاذفة الروسية سو-24 فوق الاراضي السورية، وما نجم عنها من توتر متسارع في علاقة البلدين تقترب من الصدام المباشر دون بلوغه؛ ارفقته تركيا بغزو للعراق بقوة عسكرية متواضعة نسبيا، 150 جندي ونحو 24 مدرعة، في بلدة بعشيقة شرقي الموصل والقريبة من الحدود المشتركة.

تداعيات الغزو احيت مشاعر العداء لدى شعب العراق وفي الخلفية ما تعرضت له بلاده من تدمير وحصار على يد الغزو الاميركي وحلفائه الاقليميين ودول الناتو. تركيا اردوغان "استجابت" لطلبات العراق بالانسحاب العاجل على طريقتها بتعزيز قواتها الغازية لتصل الى نحو 300 جندي، ارفقتها بتصريحات متشنجة ورفضها الامتثال لمطالب العراق.

تصرفات تركيا ترمي من بين اهدافها الى استمرار استفزازها لروسيا، وفق خطة اميركية اشمل لإشغال موسكو ودفعها لدخول مستنقع المغامرات الحربية تمهيدا لمحاصرتها وانهاكها سياسيا واقتصاديا وعسكريا. روسيا تنظر "بعين العطف" والاستجابة لطلب بغداد دعمها بمعدات عسكرية متطورة، احجمت الولايات المتحدة عن تزويدها مرارا قبل ذلك، واعتبرت قرار تركيا "غير شرعي."

في الشق الآخر من الغزو، تبين للشعب العراقي بمختلف قواه هشاشة الامدادات العسكرية الاميركية، والتي دفعت اثمانها سلفا دون ان تستكمل تسلمها، واعاد المطالب بالتوجه عسكريا نحو موسكو. تجلت ايضا في تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على دعم بلاده الثابت لسيادة ووحدة العراق.

وزير الدفاع الاميركي، آشتون كارتر، في زيارته الاخيرة لبغداد سعى لتسويق سياسة واشنطن بارسال "قوة قتالية استكشافية" متواضعة للعراق مما حدى برئيس الوزراء العراقي المقرب من واشنطن، حيدر العبادي، رفض العرض وعدم حاجة بلاده "لقوات عسكرية اجنبية على اراضيه."

في هذا السياق ينبغي ايضا الاخذ بعين الاعتبار الدور الايراني النافذ في المجتمع العراقي وبعض اركان الحكومة، وما سيترتب عليه من تعزيز الرفض للقوات الاميركية والتركية على السواء.

الانقلاب على سياسة "صفر مشاكل"

تتميز السياسة التركية بقدرتها الفذة على استيلاد العداوات الاقليمية والدولية، والتي لا ينقصها ملفات مفتوحة مع اليونان، العضو في حلف الناتو، وارمينيا المجاورة، فضلا عن تجدد عدائها لإيران المقبلة على انفراد دولي شامل في علاقاتها وانهاء العقوبات الدولية المفروضة عليها، بعد اسابيع قليلة.

موسكو ردت على الاستفزازات التركية، المدعومة اميركيا كما يرجح، بتعزيز تواجدها العسكري في اراضي ارمينيا وارسالها مروحيات قتالية وطائرات اخرى حديثة للمرابطة في قاعدة عسكرية قريبة من العاصمة يريفان؛ وتنوي تدعيمها باسلحة ومعدات اضافية قبل نهاية العام الجاري. يشار الى ان موسكو لديها قاعدة عسكرية قريبة من الحدود التركية الارمينية المشتركة، بالقرب من مدينة غيومري.

استفزازات تركيا نالت جارتها في ايران وتهديدها "بتعرض علاقات الصداقة التقليدية المشتركة الى ضرر كبير،" ان هي استمرت في دعمها الدولة السورية وخصوم انقرة الآخرين.

يجمع الاستراتيجيون في الطرف الاميركي على ان حلف الناتو لن يدخل في حرب مباشرة مع الاطراف الاقليمية لأجل تركيا، التي لا تتعرض لتهديد حقيقي لأراضيها. ويشير هؤلاء ونظرائهم في الجانب العسكري الى سعي واشنطن للضغط على تركيا "تهدئة اجواء التوتر" مع روسيا، في اعقاب اسقاطها القاذفة الروسية.

ويبقى السؤال عائما ما الذي يدفع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان التمادي في تصريحاته المعادية وتصرفاته العدوانية التي ستستثير ردات فعل حتمية، عاجلا ام آجلا. ان كان رهانه ينحصر على دعم حلف الناتو لتركيا "تحت اي ظرف،" فربما يتعين عليه اعادة قراءة الخرائط الدولية، ويتوصل الى مخرج من الازمة المتجددة الذي وضع نفسه بداخلها، غير آبه ربما بما ستؤول اليه التطورات الاقليمية والتغيرات الجارية على موازين القوى، لا سيما في سوريا.

على الطرف المقابل، يصبح مبررا التساؤل حول الخيارات المتاحة للإدارة الاميركية الراهنة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار مطالبة عدد من القوى السياسية في العراق بإلغاء الاتفاقية الأمنية "المُذِلّة" مع الولايات المتحدة بعد اخفاقها الالتزام بالدفاع عن أمن وسيادة العراق "والسماح" لتركيا بغزو الاراضي العراقية. دخول موسكو من البوابة العراقية الواسعة أمر لا ينبغي ان يثير ارتياحا كبيرا في الاوساط الاميركية، وهي المسكونة دوما بمحاصرة وتهميش روسيا.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق