تحرّك الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين سريعًا للتكيّف مع استعادة الحكومة العراقيّة المركزيّة لكركوك والأراضي المتنازع عليها من خلال استعمال القوّات العراقيّة، وذلك في سعيه إلى الحدّ من أيّ نتائج عرضيّة مع إيران في العراق وروسيا.

كان بوتين يعوّل على حكومة إقليم كردستان العراق لتوسيع نفوذ روسيا في المنطقة وأصولها في مجال الطّاقة. فشركة الطّاقة الرّوسيّة روسنفت قامت باستثمارات بحدود 4 مليارات دولار في قطاع الطّاقة بالمنطقة. لكن ما لم يعوّل عليه بوتين كان قيام رئيس كردستان العراق مسعود بارزاني، وعلى الرّغم من التّحذيرات التي وجّهتها جميع الأطراف، بالمضيّ قدمًا بالاستفتاء الكارثي على الاستقلال الذي أدّى إلى استرجاع الحكومة العراقيّة المركزيّة كركوك والأراضي المتنازع عليها في ما وصفه جنكيز جندار بأسوأ انتكاسة للأكراد العراقيّين منذ العام 1975، عندما خسر الحزب الدّيمقراطي الكردستاني دعم إيران ودمّرته قوّات صدام حسين.

ورد في عمود "الأسبوع في نشرة" يوم 1 تشرين الأوّل/أكتوبر: مع اتّساع الأزمة بشأن الاستفتاء العراقي، أنّ بوتين محاصر في العراق، مع وجود أمور كثيرة على المحكّ بالنّسبة إليه، لكنّ الخيارات لم تنفد أمامه. وأشرنا إلى أنّه "إذا أخطأ في شمال العراق بالاعتماد على بارزاني الذي يزداد ضعفًا، قد ينتهي به المطاف مكشوفًا وفي موقف دفاعي في كلّ من سوريا والعراق، وعلى خلاف مع إيران وتركيا، وهذا أسوأ ما قد يحصل. أو يمكنه التّحوّل ببراعة نحو التراصف بين إيران وتركيا الذي يكتسب زخمًا وقوّة، نائيًا بنفسه بتروٍّ عن الاعتماد على بارزاني، وفاتحًا محادثات مع بغداد لمواصلة السّعي وراء مصالح روسيا في مجال الطّاقة بشمال العراق".

وبالفعل حوّلت روسيا تركيزها إلى بغداد، وإلى التّراصف بين إيران وتركيا، بهدف مواكبة الأحداث. ويبدو أنّ العراق وروسيا على وشك التّوصّل إلى اتفاقيّة من شأنها توسيع العلاقات الاقتصاديّة والأمنيّة الثنائيّة، بما في ذلك مبيعات الأسلحة المحتملة، وستحاول روسيا في إطارها، من منظور الطّاقة، الحدّ من ظهورها في الشّمال وإيضاح أنّها مستعدّة لإبرام صفقات النّفط والغاز مع بغداد. وإنّ العراق، في إشارة إلى بداية فصل جديد في صناعة النّفط العراقية، دعا بالفعل شركة بي بي إلى تطوير حقول النّفط المسترجعة حول كركوك. هذا وعلّقت شركة شيفرون العمليّات في كردستان العراق.

حرص بوتين على تصميم عمليّة ضبط علاقاته مع العراق بغية عدم إلحاق الضّرر بعلاقاته مع إيران. وليس مفاجئًا أن يكون الكرملين قد أعلن، مع تكشّف الأزمة العراقيّة، عن أنّ بوتين سيزور طهران في 1 تشرين الثاني/نوفمبر لعقد قمّة ثلاثيّة مع الرّئيس الإيراني حسن روحاني والرّئيس الاذربيجاني إلهام علييف؛ لكن نعتقد أنّ المحادثات المهمّة ستركّز على العراق وسوريا.

كتبنا في شهر آب/أغسطس أنّ التّراصف النّاشئ بين تركيا وإيران سيختبر "حدود تأثير موسكو ومداه بين اللاعبين الإقليميّين"، وأنّ بوتين، بخاصّة في ظلّ غياب أيّ تحسّن في العلاقات الأميركيّة الرّوسيّة، سيسعى إلى التّأقلم والعمل عبر هذا المحور. وفي العراق، حيث يبقى النفوذ الرّوسي ضعيفًا حتّى الآن، لم يكن أمامه خيار آخر.

يعزّز بوتين علاقاته أيضًا مع كلّ من إسرائيل وإيران لتفادي أيّ نزاع في سوريا. كتب ماكسيم سوخوف أنّ إيران كانت ترد على رأس جدول أعمال وزير الدّفاع الرّوسي سيرغي شويغو في خلال اجتماعاته في إسرائيل يومي 16 و17 تشرين الأوّل/أكتوبر. "قدّم شويغو بعض المعلومات حول الطّريقة التي ستعمل بها مناطق خفض التّصعيد الأربع في سوريا. تعارض إسرائيل فكرة وجود إيران كأحد الوسطاء في العمليّة، لكنّ روسيا مصمّمة على الحفاظ على الإطار الحالي."

يفيد بن كاسبيت بأنّ إطلاق سوريا صاروخًا مضادًا للطّائرات يوم 16 تشرين الأوّل/أكتوبر، يوم وصول شويغو إلى إسرائيل، ربّما يشكّل حافزًا من أجل "إعادة تحديد" قواعد الاشتباك الخاصّة بإسرائيل في سوريا. وكتب كاسبيت أنّه "في سياق المحادثات مع شويغو، طرأ أيضًا موضوع النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا وجرت مناقشته بالتّفصيل. وبحسب المصادر، قال ليبرمان إنّ إسرائيل لن تقبل وجودًا إيرانيًا على حدودها. وهذا ذريعة للحرب وخطّ أحمر واضح المعالم. وقد قال نتنياهو الأمر عينه للجنرال الرّوسي".

ويضيف سوخوف بقوله إنّ "دعم روسيا لحزب الله ورد أيضًا على جدول أعمال الطّرفين، مع افتراض أن يكون الرّوس قد طمأنوا الإسرائيليّين إلى أنّ تعاملاتهم مع المجموعة لا تتخطّى التّخطيط الموجَّه لبعض العمليّات في سوريا، وأنّ موسكو لا تزوّدها بالأسلحة. ... نظرًا إلى دور إسرائيل في المنطقة، وقدرتها العسكريّة واستعدادها لاستعمال هذه الأخيرة، من الضّروري أن يواصل بوتين المستوى الحالي من التّواصل مع نتنياهو للحرص على أنّ يبقى وجود روسيا الخاصّ محصّنًا ضدّ أيّ اعتداءات إسرائيليّة".

ويختتم سوخوف بقوله إنّه "في الوقت عينه، طهران عاقدة العزم على توسيع وجودها وتعزيزه. لكنّ موسكو لا ترى هذا الوضع كمعركتها الخاصّة وتعمل على تفادي التّعقيدات المحتملة لأن ينتهي بها المطاف على أحد الجانبين. كانت إسرائيل وفيّة للوجود العسكري الرّوسي – وهي تدرك مكاسبها الخاصّة منه – وكانت إيران مهمّة لروسيا على الأرض في سوريا. لكنّ أهداف روسيا في سوريا لا تتمحور في النّهاية حول إسرائيل أو إيران. وتتنبّه موسكو من محاولة كلّ فريق استعمال وجود روسيا ضدّ الآخر".

وفيما تحاول روسيا التكيّف مع الوضع الإقليمي المتغيّر بعد كركوك، يبدو أنّ حكومة ترامب تسير في الاتّجاه المعاكس بسبب مقاربة المجموع الصّفري التي تتبنّاها إزاء إيران.

إنّ رؤية مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هربرت ماكماستر لـ"عراق مستقرّ غير متحالف مع إيران" في 19 تشرين الأوّل/أكتوبر، كما أفادت لورا روزن، يبدو تطلّعًا أكثر منه واقعًا، وقد يمنع واشنطن من الخروج بالتّحليل والاستراتيجيّة الذّكيّين اللازمين لمجاراة إيران، والآن روسيا، في العراق.

مضى وقت طبعًا لم يكن فيه العراق متحالفًا مع إيران، لكنّ الولايات المتّحدة أنهت تلك الحقبة بإزالة صدام حسين في العام 2003. جرت بعدها الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة في العام 2010 حيث فازت الكتلة التي يقودها أياد علاوي بأكثريّة الأصوات، وعلاوي هو قومي علماني عارض النفوذ الإيراني في العراق. إلا أنّ إيران فاقت الأميركيّين براعة، بمن في ذلك قائد فيلق القدس في الحرس الثّوري الإيراني قاسم سليماني الذي حرص على ألا يوافق البرلمان العراقي على اتّفاقيّة وضع القوّات الأميركية. طلبت الولايات المتّحدة من علاوي في نهاية المطاف أن يتخلّى عن النّزاع السّياسي، وشغل نوري المالكي منصب رئيس الوزراء، وهو سياسي أكثر طائفيّة في سلام مع إيران.

عندما استولى تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش) على مساحات شاسعة من الأراضي العراقيّة في العام 2014، كانت إيران متواجدة لمدّ يد العون، تمامًا كالولايات المتّحدة، ليس فقط في بغداد، بل أيضًا في كردستان العراق. وإنّ وحدات الحشد الشّعبي الهائلة – التي تدعم إيران جزءًا منها ويتحالف جزء آخر مع القادة الدّينيّين وقادة الميليشيات العراقيّين – أثبتت جدارتها، إلى جانب قوّات الأمن الاتّحاديّة العراقيّة، في المعركة ضدّ داعش منذ العام 2014. ربّما تكون بعض أجندات وحدات الحشد الشعبي طائفيّة أكثر منها وطنيّة، لكن، وكما قد يفوت البعض نظرًا إلى المبالغة في مهاجمة إيران في واشنطن هذه الأيّام، وحدات الحشد الشّعبي هي عراقيّة وليست إيرانيّة، وتحظى بقدر كبير من الاحترام والنفوذ.

أمّا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فبدوره هو قومي عراقي حقّق للتوّ فوزًا ساحقًا بنظر معظم العراقيّين العرب باستعادته كركوك ومعظم الأراضي المتنازع عليها بدون إراقة كبيرة للدّماء. وهو يتكلّم بلغة الدّستور العراقي والمصالحة، وليس بلغة تصفية الحسابات العرقيّة.

بالنّظر إلى النّتيجة، قد يتساءل المرء ما إذا كان العبادي سيوافق على أنّ تدخّل إيران "يخرّب العراق"، كما يزعم ماكماستر، أم يساعد الحكومة العراقيّة في جهودها لاستعادة السّيادة. هناك، أو ربّما يجب أن يكون هناك، "اختلاف في الموقف الأميركي" كما كتبت روزن. فالولايات المتّحدة، كإيران، عارضت الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق للأسباب عينها تقريبًا؛ وأرادت الولايات المتّحدة تفادي التصعيد العسكري الكبير في كركوك، الأمر الذي نجح العبادي، بمساعدة إيران، في تحقيقه.

بعض الاختلاف والواقعيّة قد يخدمان الموقف الأميركي أكثر من حديث الإدارة الحالي المبتذل بشأن كون كلّ تحرّك إيراني بدون استثناء تهديدًا للسّلام الإقليمي والعالمي (أو هذا ما يبدو في هذه الأيّام). العبادي ليس وكيلاً لإيران، لكنّ مصالحه تتمثّل بالحفاظ على علاقة صداقة بنّاءة بجارة نافذة وقويّة. وقد عادت تلك العلاقة بثمارها الأسبوع الماضي. يعلم العبادي أيضًا أنّه بحاجة إلى الولايات المتّحدة، بما في ذلك لمواجهة التّجاوزات الإيرانيّة. كان الدّعم العسكري الأميركي حاسمًا أكثر من الدّعم الإيراني في استعادة بلاده من داعش. وستكون واشنطن وليس طهران أساسيّة للمساعدة على التوسّط لمصالحة مع المجتمع السّني الذي ما زال محرومًا من حقوقه في العراق؛ فإيران لا تتمتّع بمصداقيّة في هذا المجال. وإنّ جهود الولايات المتّحدة للمساعدة على مصالحة العراق والسّعوديّة، كما تفيد روزن، هي خطوات عملاقة نحو تحقيق الاستقرار ما بعد الحرب.

لكنّ العبادي لا مصلحة له في تحويل العراق إلى ساحة معركة بين الولايات المتّحدة وإيران، ويجب ألا يغيب ذلك عن ذهن واشنطن. فمقاربة المجموع الصّفري إزاء إيران في العراق ستعود بالخسارة على كلّ من الولايات المتّحدة والعراق، وتسمح لموسكو وطهران بتحقيق ربح مفاجئ.

http://www.al-monitor.com/

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق