إسلاميات - الإمام الشيرازي

شهادات الشيخ فاضل الصفار عن الامام الشيرازي: ليس هناك عدو في قائمته وإنما الكل أصدقاء

مقتطفات من حوار مطول غير منشور مع الشيخ فاضل الصفار حول الامام الشيرازي الراحل (قدس سره)

المقدمة

ليس أقدر من التلميذ على تقديم صورة قلمية لمعلمه، خاصة اذا لازمه لفترات طويلة في قاعة الدرس وخارجها، وحضر معه نشاطاته الاجتماعية او الثقافية، وتلمس عن قرب همومه وما يشغل تفكيره، واطلع عن كثب على سلوكه وطريقة عيشه، التي تتوزع بين المأكل والملبس والتعامل مع الاخرين، وحالات الفرح والحزن..

تأخذ تلك الصورة اسماءا واشكالا متعددة تبعا لنوع الكتابة او الحديث فيها.. فهي قد تكون مذكرات او سيرة ذاتية او شهادات، والمذكرات هي ذلك النوع من أنواع الكتابة التاريخية وثيق الصلة بالسيرة الذاتية، والفرق بين السيرة الذاتية والمذكرات هو أن الأولى تروي قصة حياة الكاتب وتسجل خبراته ومنجزاته في المقام الأول، على حين تعنى الأخرى (أي المذكرات)، قبل كل شيء، بوصف الأحداث وتعليلها، وبخاصة تلك التي لعب فيها كاتب المذكرات دورا أو تلك التي عايشها أو شهدها من قريب أو بعيد، ومن هنا وقوعها في منزلة متوسطة بين (موضوعية) التاريخ و(ذاتية) السيرة الذاتية.

الشهادات هي الحديث عن الاخرين، من واقع القرب منهم، ونقل احداث عاشوها وعاصروها وكانوا شهودا عليها وعلى تطورها، وهي أيضا نقل تقوم به الذاكرة لملامح من تاريخ قريب فيه الكثير من فعل الأشخاص وحركتهم في واقعهم المعيش.

وهناك ضرورة للتمييز بين الشهادات والمذكرات، فالشهادات هي أكثـر تعبيرا من المذكرات، لأن المذكرات كما يرى المؤرخون والمهتمون بالتدوين التاريخي، تخضع لاستراتيجية الخطاب الحذر، وأغلب المذكرات هي في الحقيقة شهادات فقدت البعض من أصالتها، لأن المذكرات لا يكتبها إلا صاحبها.

ان سير الشخصيات العامة والمشهورة التي تسجل الخفي من تجاربهم وترصد المواقف في المحطات المهمة في حياتهم، تعتبر مصدرا ثريا ومهما للتعرف على البيئة التي نشأوا فيها والأجواء التي عاشوا في مناخاتها والأفكار والمفاهيم السائدة في عصرهم. وهذا النوع من «الوثائق والشهادات» يتيح للأجيال المتعاقبة الاطلاع على تجارب أصحابها والتعرف على نظرتهم للحياة ومواقفهم من الأحداث ومدى تأثير المبادئ والقيم على مسيرة الإنسان وحكمه على الأشياء والمواقف والأحداث.

في الأوراق القادمة، يقدم آية الله الشيخ فاضل الصفار شهادته على فترة تاريخية طويلة نسبيا تمتد لاكثر من ستة عشر عاما، كان فيها قريبا من المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) بدءا من كربلاء، مكان الولادة والتعرف على الامام الراحل، مرورا بايران، محطة الهجرة القسرية في عهد النظام السابق في العراق.

ما سجله الشيخ الصفار من لقطات بقيت في ذاكرته ، يساهم من خلالها في محاولة ابراز الصورة الحقيقية لبعض الشخصيات والاحداث التي ارتبطت بالامام الراحل (قدس سره)، وهو في مساهمته يحاول ان يكون محايدا في توصيف بعض تلك الشخصيات بقدر الإمكان ، وبذلك فأنه تنحى جانبا عند التعرض للتحليل النفسي والاجتماعي ، تاركا الأمر الى المختصين في هذا المجال للتعمق في تحليل تلك الشخصيات التي مرت في حياة الامام الشيرازي الراحل.

في هذه الأوراق، كثيرا ما يأخذ الشيخ الصفار المبادرة في حديثه، دون انتظار توجيه سؤال محدد، وربما يعود ذلك لتزاحم الذكريات التي تريد الخروج من ذاكرته، ولا يستطيع أحيانا ملاحقتها.. ومع اعترافه بان هذه الشهادة التي يقدمها عن الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) ضرورية ومهمة، الا انه يعتقد انها جاءت متأخرة نوعا ما، لان الكثير من الاحداث والوقائع والشخصيات جرى ما جرى عليها في الذاكرة من نسيان واضمحلال..

شهادة الشيخ الصفار جرت على سبع جلسات متقاربة في تواريخها من العام 2005 ، وفي مكان جغرافي واحد، هو مدينة قم في ايران.

في هذه الشهادة للشيخ فاضل الصفار، عدة عناوين رئيسية واخرى فرعية، فرضتها طبيعة الاحداث والذكريات التي يرويها الصفار، دون التقيد بمرحلة زمنية تسبق الاخرى، مع اسئلة هي اقرب الى المداخلات او الاستفزاز لإخراج المزيد من الذاكرة المتخمة بالوجوه والتفاصيل.

أهم عوامل النجاح في شخصية الإمام الراحل

1ـ الإخلاص

إن عوامل النجاح في شخصية الامام الراحل (قدس سره) كثيرة ومتعددة، وفي تصوري أن واحدة منها ولعله أهمها هو: الإخلاص في العمل، وقد لاحظته ولمسته كثيراً في شخصية الامام الراحل، فمثلاً: لم يكن يحب أن تتسمى الأشياء أو تنتهي باسمه مثل الحسينيات او المساجد او المؤسسات، فكل عمل كان يعمله يريد به وجه الله، ويدعو إلى أن يسمى هذا العمل أو هذه المؤسسة بأسماء رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، فالإمام الراحل، يكاد يكون المرجع الأكثر إيماناً ـ بحسب ما لاحظناه ـ بالعمل المؤسسي ضمن اطار العمل المرجعي على مختلف جوانبه.

ولا نبالغ إذا قلنا: إن مئات المؤسسات التي أسسها خلال تصديه للمرجعية، وعلى الرغم من فقره، وحاجته، لم يكن يجمع الأموال الكثيرة التي تصل عنده، مع أنه كانت له مرجعية كبيرة وواسعة وتصل اليه مبالغ طائلة، ولكن مع ذلك توفاه الله وعليه ديون كثيرة على شكل قروض وما أشبه، ولم يملك الامام الراحل شبراً من الأرض، فأين كانت تذهب تلك الاموال؟

لقد كان ينفقها على بناء المؤسسات في جميع أنحاء العالم، وأنت قلّما تجد أرضاً، أو منطقة في العالم سواء في العالم الإسلامي، أو العالم الأوروبي، التي يمكن أن تقام فيها مؤسسة إلا وكان للامام الشيرازي فيها واحدة أو أكثر، ولكن لم نجد ولا حتى مؤسسة واحدة أو حتى مدرسة واحدة باسمه، بل كلها بأسماء الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أو بأسماء ذراريهم أو أسماء العلماء الماضين.

حتى إن بعض الأخوة كانوا قد قاموا بتأسيس مؤسسة واحتاروا بتسميتها بأي من أسماء المعصومين (عليهم السلام)، فأسماءهم كلها قد اختيرت للمؤسسات، فقاموا يبحثون عن أسماء أبناء الأئمة (عليهم السلام)، وأصحابهم (رضوان الله عليهم)، وكان الامام الراحل يعلل هذا الموضوع ـ وكنت أسمع منه ذلك ـ فيقول: نحن كل مؤسساتنا، وأعمالنا يجب أن نسميها باسم أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم الباقون، ونحن زائلون، وكان يقول: تسجيل المؤسسة بأسمائهم المباركة هو الذي يبقى، وأما نحن فنذهب وننقضي، نحن عندنا دور نؤديه ونذهب وينتهي هذا الدور، وهم الذين يبقون.

وهذا الشعور والمنهج وتلك الطريقة قلما تجده عند أهل الشأن وأهل العلم، وهو ليس عملاً قبيحا أو مستهجنا أن مرجعاً لو أسس مؤسسة وسميت باسمه، وهذا يمكن أن يكون ضمن السياق الطبيعي والعقلائي، ولكن إذا لاحظناه من جانب الإخلاص ـ إخلاص العمل وصفاء النية ـ نراه عملاً في كمال التفاني وكمال الإخلاص، بأن لا يحب الإنسان أن يكون شيء بإسمه.

ولقد رأيت أن بعض الأعلام جمعوا بعض محاضرات الامام الراحل أو بعض آرائه وكتبوها في كتبهم، وفي بعض الموارد رأيت بعض الأشخاص يأتي إليه ويطلب منه أن يكون كتاب الفه الامام الراحل باسمه، فيقول له: لا مانع عندي اجعله باسمك، وهذا في الحقيقة نوع من الإخلاص، و من شأن العمل الناشئ من الإخلاص أن يدوم ويستمر، فهذا العامل الأول.

2ـ المثابرة في العمل:

أما العامل الثاني فهو: المثابرة والجد والاجتهاد الكبير في العمل. فالامام الشيرازي (قدس سره) إلى آخر عمره ـ كما هو عهدي به ـ لم يكن عنده نظام متعارف عليه للنوم، وإنما كان الأصل عنده اليقظة والعمل، والنوم هو الاستثناء عند التعب من العمل فقط، أي إذا لم يطاوعه جسمه للعمل كان يخلد إلى النوم، وقد كان في مدة مديدة من عمره ـ والذي أعرفه وعايشته فيه ـ لا ينام في اليوم أكثر من أربع ساعات، مع أن الساعات الأربع ـ خصوصاً بالنسبة لرجل في مثل عمره الشريف وحركته الدؤوبة، وما لاقاه في هذا العمر، وبالنسبة إلى مجهوده الكبير الذي يبذله، وإلى تعبه ـ قليل جداً.

فالعمل نقطة أساسية في التطور، وطالما كان يدعو إلى هذه القاعدة، وفي كتبه كثيراً ما تلاحظ هذه المفردة مستخدمة: (كثرة العمل)، و(كثرة الجهد)، وكان يوصينا ويوصي كل الأصدقاء والتلاميذ الذين كانوا مرتبطين به بالمثابرة في العمل حيث كان يقول: اقتدوا بأصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لأنهم كانوا يعملون كثيراً، وأنتم أيضاً اعملوا كثيراً، وإذا تساءل شخص مثلاً: سيدنا والنوم..؟ يقول: وراءك نوم طويل، ويكرر قوله: وراءك نوم طويل، أخِّر نومك إلى القبر، وكثيراً ما كان يستشهد بهذا القول. هذه المثابرة أيضاً نقطة أساسية وركيزة مهمة من ركائز وعوامل نجاح الامام الراحل.

3ـ منهجية الامام الشيرازي بالعمل

وهي ايضا نقطة مهمة جداً في تصوري، إن منهجيته في العمل كانت تعتمد على الجذب لا على الدَّفع، وهذه نقطة تحتاج إلى شرح مطول، ولكن كفكرة نحن نطرحها بشكل مختصر.

يؤمن الامام الراحل بأنه ليس هناك عدو في قائمته، وإنما الكل أصدقاء، لذلك كان مبناه هو التَحَمُّل والمداراة لمختلف شرائح الناس، مع أن شخصاً في موقعه كمرجع تقليد ومصدر للقرار ولإدارة شؤون المجتمع المسلم، عادة ما يبتلى بأناس خُصماء ألداء، وما أظن أن أحداً من المعاصرين كالامام الراحل ابتلي بالخصومات وبالمخاصمات بهذا القدر، حتى إن بعض الناس لم يكونوا خصوماً له فقط، بل كانوا محاربين له طيلة أربعين سنة من أعمارهم التي عاصروه فيها، لقد وظفوها لمحاربته، وحتى أن الكثير من الشخصيات التي تحضرني الآن كأسماء، وكعناوين، وفي الأساليب التي كانوا يحاربون بها الامام الراحل، ما حارب صداما بهذا الشكل وذلك الاصرار، ولا حارب نظاماً ظالماً بقدر ما حارب الامام الشيرازي بتلك الشراسة، ابتداءً من التّهم والتلفيق إلى قطع أي وسيلة ارتباط، أو وسيلة اتصال ، وكانوا يتعمدون إذا رأوا شخصاً له شأن واعتبار وعنده ارتباط به أن يصرفوا عليه الكثير من الوقت الجهد والمال لأجل حرفه عن ارتباطه، وقطع علاقته بالامام الراحل.

هناك الكثير من هذه الامثلة والشواهد، وفي الحقيقة لست الآن في وارد استعراض هذه المسألة بالتفصيل، ولكن مع ذلك لم أسمع منه كلمة واحدة ضد أحد من خصومه، وكثيراً ما كانوا يأتون ويسألون سماحته عن فلان وعن فلان وينقلون له أخباراً سيئة، وهو يذكرهم دائماً بالخير. هذه السياسة لا تجدها إلا عند أناس اقتدوا بالأنبياء؛ لأن الأنبياء هم الذين عرفوا الحق، وعرفوا الحقيقة، ورأوا نور الله.

 توفر الامام الراحل على هذه الطاقة من التحمل، وامتلك هذا القلب الواسع الكبير. أما بعض الناس المغرر بهم فقد كانوا يأتون اليه ليؤذوه ويتجاسروا عليه، حتى إن البعض وصل به عدم (الخوف من الله) إلى حد أنه اتهمه بأشياء يخجل الإنسان أن يعبّر عنها، ونسبوا إليه أشياء لا تقال حتى لإنسان عادي، ولكنهم نسبوها إليه ظلماً وعدواناً.

أذكر مرة أن جماعة جاءت إليه وكانوا يحرضون عليه، وقيل لهم: احذروا من أن تتأثروا به لأن أخلاقه عالية جداً فلا يخدعكم، ولا يغركم بأخلاقه، فجاؤوا ودخلوا عليه حتى يروه عن قرب؛ لأنهم سمعوا عنه كثيراً، والامام الراحل كان من دأبه أنه إذا أتى إليه زائر يحترمه كثيراً بغض النظر عن مكانته، فيستقبله بكل رحابة صدر وبشاشة وترحيب، ويقدم له هدية، وكان من ضمن الأشياء التي كان يهديها عادة الكتب، وفي إحدى المرات دخل عنده جماعة من الشباب ـ من المغرر بهم ـ وجلسوا عنده، لقد احترمهم، وسألهم عن أحوالهم وأخبارهم؛ إذ كان من دأبه أن يسأل عن اسم الشخص وعنوانه، ومن أي بلد هو؟ وهل هو متزوج أو أعزب؟ وماذا يعمل؟ وما أشبه من هذه التفاصيل لأجل أن يتعرف عليه أولاً ثم يوجهه ويرشده ثانياً. ومن اللطائف أنه لا ينساها، فهذا الشخص الذي يسأله الآن وبعد سنتين أو ثلاث سنوات، عندما يدخل عليه ربما كان يتذكر كل التفاصيل التي سمعها منه في الجلسة الأولى، فيكاد أن يكون ذهنه حاسوبياً ـ ان صح التعبير ـ في هذه المسألة، فهو ـ وكعادته ـ احترم هؤلاء الشباب وقدّم لهم الشاي، ومن ثم أوصى الموظف الذي يقوم بشؤونه أن يأتي لهم بمجموعة من الكتب قدَّمها لهم، ولكن واحداً منهم كان صلفاً فأخذ الكتب ورماها في وجه الامام الراحل وقال له: أنت تريد خداعنا بهذه الكتب، فما رد عليه بشيء سوى بابتسامة ارتسمت على وجهه المبارك، وكأن لسان حاله يقول كما قال الله العظيم في كتابه الكريم: ({ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } أو كما كان يقول جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم): (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) .

واذكر شخصا كان واحدا من كبار المحاربين للامام الراحل - وهذه الواقعة أنقلها بواسطة من نقلها، وهو شخص محل ثقة كبيرة ـ كان هذا الرجل يتتبع أخبار الامام الراحل وأعماله ومشاريعه، وأينما يجد ما يرتبط به من قريب أو بعيد إلا ويقوم بقطعه، ولم يتردد من جر المسألة إلى أي سلطة ظالمة لأجل إيذاءه أو تلامذته فيرمونهم السجن، هذا الرجل لم يكن عنده تورع ومانع عن ذلك كله، فتصوروا اي مرحلة وصل فيها العداء والمحاربة، اذ لم يكن عنده مانع من الاستعانة بكل وسيلة ظالمة أو سبيل باطل.

وكان هناك شخص من أصدقاء الامام الراحل، وهو في نفس الوقت صديق لذاك الرجل أيضاً، وكان من الناس المنصفين، وعنده شأن ووجاهة واحترام، فنقل قائلاً: كنت جالساً عنده ـ الشخص المناوئ للامام الراحل ـ وجاء اسم السيد الشيرازي، فبدأ حملته بمهاجمته ـ أي لا يمل من الحديث ضده فقلت له: أنا أعرفك منذ سنوات طوال وانت تحاربه، فهل رأيته عن قرب، أو جالسته، أو حادثته؟

قال: لا!! فقلت: لماذا تحاربه إذاً؟!

قال: يكفيني أن أدري هو ماذا!! فقلت له: ما هو رأيك أن ارتب لك لقاء معه، حيث نذهب أنا وإياك اليه وندخل عليه، ونجلس عنده، وأنت بعد اللقاء اعمل برأيك، وانظر ماذا تريد أن تفعل فافعله، تريد أن تستمر في محاربته، أو أن تتركه وشأنه. أنت حاربت وتحارب السيد الشيرازي كل هذه السنوات الطوال فاحتمل احتمالاً فقط أنك تعصي الله، وتغتاب، وتتهم، وتبهت، فبالنتيجة السيد الشيرازي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن عائلة محترمة، لا يخفى تاريخها عن أنظار الناس، فهو ليس شخصية أتت من المجهول، بل هو معروف وأنت تحاربه. ضع هذا الاحتمال في بالك.. أنا أرتب لك موعداً معه واجلس معه، ومن ثم قرر قرارك. يقول هذا الراوي: قال لي: لا أنا لست مستعداً أن أفعل هذا الشيء، فقلت له: لماذا؟ قال: أنا أخاف أن أدخل على السيد ويسحرني بأخلاقه.!!

هذا اللون من الإصرار على الحرب والمعاداة والمناكدة في الحقيقة عجيب جداً، ومع ذلك أنا شخصياً لم أسمع كلاما من الامام الراحل ضد هذا الرجل، والامام الراحل كان يعلم بما يعمله، ويعرف كثيراً عنه، حتى إن بعضهم من كان يضغط على مقلدي الامام الراحل ويحاولون التأثير فيهم حتى يعدلوا عن تقليده .

مزايا وفضائل

من المزايا المهمة التي تمتع بها الامام الشيرازي (أعلى الله مقامه) هي خروجه عن الدائرة الإسلامية في الدعوة إلى الإسلام، باعتبار أنه لم يكن يعتبر نفسه مرجعاً دينياً فقط، بل داعية ومصلحاً كبيراً، وليست المرجعية عنده لها موضوعية، وإنما المرجعية في نظره (طريقية) لأنها طريق إلى خدمة الإسلام، وإلى نشر تعاليمه في جميع أنحاء العالم، لذلك هو:

أولاً: لم يحصر نفسه في الدائرة الشيعية التي هو مرجع من مراجعها، بل كانت بعض الأنشطة والكتابات والمناقشات والحوارات التي يقوم بها تشمل غير الشيعة الإمامية من عامة المسلمين، وفي هذا كلام مفصَّل حول علاقاته بالدروز والزيديين في اليمن، والعلويين في تركيا، وعلاقاته مع أبناء السنّة أيضاً والأنشطة التي كان يمارسها في هذا المجال كثيرة ومتنوعة.

بل انه كانت له أطروحة نظرية واستراتيجية لتغيير العالم الغربي ودعوته إلى الإسلام، وهذه كانت نقطة أساسية في المرجعية الشيعية يكاد ينفرد بها الامام الشيرازي، حيث لم نعثر في تاريخ المسلمين على مرجع تقليد بنى طريقة عمل على هذا الأساس، وكانت له في هذا السبيل عدة خطوات، ومن هذه الخطوات كتب كتابين يُعدان من أهم كتب السيد في هذا المجال؛ الكتاب الأول هو: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) وهو أطروحته لتغيير العالم كله على ضوء قيم الإسلام ومبادئه، وهذا الموضوع واضح من عنوان الكتاب، ولا شك أن هذه البنود الأربعة: )الإيمان، الحرية، الرفاه، السلام( هي من أهم الغايات في الشريعة الإسلامية التي تدعو الناس إليها.

وفي هذا الكتاب وجّه الامام الراحل النقد للسياسة الغربية في العالم عموماً باعتبارها المسيطرة على الوضع العام، أي الوضع الدولي، فبَّين نقاط الضعف فيها، وبَيَّن السياسة الجديدة التي ينبغي أن يمضي عليها العالم، وهذا الكتاب في الحقيقة هو كتاب غني جداً في الأفكار والتصورات حول هذه القضايا العالمية.

وأما الكتاب الثاني فهو: (الغرب يتغير) وفي هذا الكتاب كان الامام الراحل يتصور ـ وهذا ما سمعته منه في أواخر عمره الشريف أي قبل أن نفارقه بسنوات ـ بأن الغرب على الرغم مما فيه من بعض الأساليب الديمقراطية، أو الديمقراطية النسبية، فهو لم يكن يعتقد بأن الديمقراطية الغربية ديمقراطية حقيقية بكل معنى الكلمة وإنما فيها شيء من آليات الديمقراطية، فكان في هذا الكتاب وفي المحاضرات والحوارات الخاصَّة أيضاً يقول هذا الشيء: لابُدَّ من تغيير الطريقة الغربية في الديمقراطية ولابُدَّ من تقويم الديمقراطية الغربية، وهذا التعبير أدق من التعبير الأول؛ باعتبار أن هذه الديمقراطية تحمل في طياتها الكثير من التناقضات؛ سواء في طريقة الانتخاب، أو في الرجال الذين تأتي بهم إلى السلطة، وسواء في السياسة الخارجية، أو في السياسة الداخلية، وكان عنده إشكالات أساسية على هذا الموضوع، وكان يطمح إلى تقريب الديمقراطية أكثر إلى الإسلام أو رفع مستواها الأخلاقي والإنساني أكثر وأكثر عبر مزاوجتها بمبادئ الإسلام.

ثانيا: المسألة الأخرى التي كان يدعو لها الامام الراحل، وكتبها في عدة موارد من كتبه وذكرها في محاضراته هي: إن الممارسة الغربية للديمقراطية لابد أن تتطور؛ لأنه انكشف زيف هذه الأساليب، فغير معقول أن البشرية ترتفع وترتقي إنسانياً، ولكن من حيث أساليب السياسة تبقى متخلفة، وقد وضع الامام الراحل تغيير العالم الغربي خطة تتكون من عدة مسائل عملية، أشير إلى المهم منها:

1 ـ دعا إلى تكوين منظمة عالمية للدفاع عن حقوق المظلومين: ودعوته إلى تكوين هذه المنظمة العالمية هو لأجل نصرة المظلومين، وجمع الطاقات الخيِّرة في العالم، الطاقات الإنسانية المسلمة وغير المسلمة، جمعها وصَبَّها في تجاه تغيير العالم نحو الإسلام، ونحو المبادئ الإنسانية، وأسس لهذه المسألة، ووضع اللبنات الأساسية والأولية لهذا المشروع العالمي.

ولكن ما يؤسف له أن العالم الإسلامي ما زال متأخراً عن التفكير في مثل هذه الاستراتيجيات وفي العمل لإنجاح مثل هذا المشروع، وربما بمرور الزمن يأتي مَنْ يتبنى هذه المشاريع ويعتمد هذه الخطوة، وسيصل العالم الإسلامي والإنساني في يوم ما إلى نتيجة: أنه لا يمكن تغيير العالم إلا بالتماسك والتوحد بين القوى الخيرة، والتنسيق بينها إسلامية كانت أو غير إسلامية.

2 ـ تعلم اللغات لإبلاغ الرسالة: الشيء الثاني الذي كان يدعو إليه الامام الراحل (أعلى الله مقامه) بعض أصدقائه الوكلاء والمبلغين، ومن المحاضرين هو تكثيف الجهود لإلقاء كلماتهم ومحاضراتهم باللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية، وقد تأسست لجنة لمتابعة هذا الهدف، وقامت بترجمة الكتب وبعضها كتبه الفكرية منها في هذا المجال من أجل أن تبدأ الحركة نحو تغيير العالم الغربي، وقد دعا إلى هذا في عدة محاضرات بل إن أحد الأصدقاء قال: في آخر ليلة أو آخر يومين من حياته بعث إلي يطلبني وكنت في مدينة أخرى، وحضرت عنده وقال: هناك عدة أهداف كنت رسمتها، وأطمح إلى تحقيقها، وربما لم أوفق لإنجاحها، ولكن ربما مَنْ سيأتي بعدي من بعض الأصحاب أو المؤمنين المصلحين يأخذون بهذه الأفكار ويعملون عليها، وربما الامام الراحل كان يجد في هذا الشخص المخاطب هذه القابلية والاستعداد فقال له: ماذا تقصدون سيدنا؟ قال: يلزم علينا السعي لتغيير ثلاث دوائر:

أولاً: يلزم تقوية الفكر الشيعي، وفكر أهل البيت (عليهم السلام) بين أفراد الطائفة الحقة، ليكونوا أكثر ثباتاً ورسوخاً في إيمانهم وسيرهم وعملهم.

ثانياً: أن نحاور أبناء السنّة وندعوهم إلى التشيع وندخلهم في ولاية علي والأئمة من ولده (عليهم السلام).

ثالثاً: ندعو الكفار وأهل الكتاب من النصارى واليهود إلى الإسلام، ويلزم رسم خطة في هذا المجال، وأنا لم أوفق لتحقيق هذا الهدف، ولو كان الأجل يمهلني لسعيت في هذا المجال. ولكن الأجل كان أسرع من هذا الطموح والأمل.

هذا مضافاً إلى حركة الامام الراحل العالمية، حيث لو ذهبنا إلى العالم الغربي قلما نجد مدينة من المدن المهمة في العالم الغربي، إلا وقد أسس فيها مؤسسة ما، فهدفه ليس فقط جمع المسلمين، وإنما كان هدفه أن تتحول هذه المؤسسة إلى مؤسسة متينة واسعة ومتجددة في المجتمع الغربي من أجل تغييره، وفعلاً كان (قدس سره) يدعو بعض وكلائه وبعض أصحابه إلى التحرك على غير المسلمين من أجل إدخالهم في الإسلام، وإقناعهم بمبدأ الحوارات البناءة في هذا المجال.

وهنا أتذكر خاطرة عن الامام الراحل بالنسبة إلى إسرائيل، هذه الدولة الصهيونية، ولا شك أنه لم يكن يدعو إلى الصلح مع إسرائيل، وكان يعتقد بأن إسرائيل زائلة، ولابد في يوم من الأيام أنها هذه الدولة المصطنعة ستزول، وهذا التحليل لموضوع الدولة الصهيونية ناشئ من كونها دويلة مزروعة عنوة وبالقسوة بين أعدائها، حيث يقول: من غير المعقول أن هناك دولة يمكن أن تبقى ويحيطها خصومها من كل جانب وهم المسلمون، ولكن المشكلة أن بقاء هذه الدويلة ناشئ من سببين:

الأول: الدعم الغربي لها وبعض الديمقراطية التي تتمتع بها الحياة السياسية في الدولة الصهيونية.

الثاني: الضعف السياسي الذي يعيشه المسلمون باعتبار أن الحكومات الإسلامية أكثرها حكومات مستبدة، قامعة للصوت الحر، ومانعة للفكر من الانتشار، وداخلة في ضمن معادلات دولية مع الدول الكبرى من أجل الحفاظ على إسرائيل، والدخول في مشروع ما يسمى بعملية السلام أو إلى الصلح معها؛ فلذلك ألّف كتاباً في هذا المجال عنوانه: (الصلح مع اليهود استسلام لإسلام). وعنوان الكتاب ينم عن خلاصة الفكرة التي كان يدعو إليها، وكان يدعو الغرب والمفكرين الغربيين في كتبه، وحواراته التي يجريها، إلى سحب اليد عن هذه الدولة؛ لأنها لا يمكن لها أن تدوم، في الوقت الذي تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في العالم وليس في المنطقة فقط.

وهذا الكلام يمثل موقفاً وتحركا مهما من قبل السيد الراحل، حيث إن المنطقة إذا يراد لها أن تكون مستقرة سياسياً وأمنياً، لابد من رفع بؤر التوتر منها، وأولها هذه الدويلة المصطنعة، والمسلمون ثقتهم مهزوزة بالسياسة الغربية بسبب وجود هذه الدويلة، لأنهم يرون أن هناك تناقضاً في السياسة الدولية التي يقودها الغرب، فمن جهة يدعمون إسرائيل ويقوونها ويمدونها بالسلاح، فتشن إسرائيل عدواناً متواصلاً على المسلمين بشكل وبآخر، ومن جهة ثانية يدعون المسلمين إلى المصالحة معها.

ولو كان الغرب يسمع هذا الكلام ويطبقه، ففي تصوري أن المليارات من الأموال ما كانت تذهب هدراً وعبثاً، وما كان هناك الحاجة إلى تجييش آلاف من الجنود وجلبها إلى المنطقة، وما كانت تذهب مئات الآلاف من الضحايا من هذا العالم، وما كانت تحصل مثل هذه الزعزعة وعدم الاستقرار في العالم نتيجة لهذا الموضوع وهذا الانحراف السياسي الدولي.

لم يكن الامام الراحل يضع أو يصنع حواجز بينه وبين الناس، وهذه نقطة امتياز كبيرة جداً له ـ لأن الغالب في الشخصيات المهمة وجود الحواجز بينهم وبين عموم الناس ـ ففي أي وقت كنت تدخل عليه كان يستقبلك، ومهما يكن مستوى الشخص الزائر له والداخل عليه، سواء كان من البسطاء أو من المهمين، أو من الأثرياء، بسهولة يمكنه أن يصل اليه ويلتقي به شخصياً.

لم يكن يضع حاجزاً بينه وبين الناس؛ لذلك حصل على محبة خاصة بينهم، وهذه كانت من العلامات المميزة في علاقات الامام الراحل، فهو بمقدار ما ابتلي بخصوم ألداء ـ كما تكلمت عنه في كلام سابق ـ حصل على محبين أوفياء جداً، فمحبه محب شديد، ومبغضه ـ بعضهم ـ مبغض شديد، مُحبوه تحملوا الكثير لأجل الإيمان به، فمنهم من تعرض للسجون، والتشريد والتهجير والقتل والفقر والجوع وغير ذلك. ارجعوا الى الجماعة الذين كانوا يقلدونه ويرتبطون به، وانظروا ماذا كان يحصل لهم؟ وماذا كانت حياتهم؟ انه لم يرض في مرجعيته بالراحة، بل يعتمد على الجهاد، فالذي يتبعه ليس أمامه إلا الجهاد، وليس أي شيء آخر، فكما قلت في موضع سابق من هذا الحوار، الرجل حارب ثلاثة أنظمة كبرى في المنطقة، وحارب الاستعمار بأشكاله، وكان عنده ممارسات ونشاطات لتغيير الوضع الدولي بشكل عام، وهذا أمر كبير، ومن الطبيعي أن أتباعه ومقلديه في أي مكان يعيشون فيه يكونون محاربين، فلا تقبل بهم تلك الأنظمة.

وفي نفس الوقت نرى أنه عندما توفى، لم يكن يملك شبراً من الأرض، بل مات مديوناً ديناً كبيراً، وكذلك الحال مع بعض أولاده الكرام حيث يجري نفس الشيء، وكذلك بعض تلاميذه، فلا تجد تلاميذه الملتزمين بفكره ومنهجه بلا نشاط، بل قد لا تجد فيهم الثري الذي يرفل بالمال، وحتى الثري فيهم ترى عنده مؤسسة يخدم فيها الأيتام، أو يخدم فيها المجتمع، فلا يوجد ما يعتبرونه منافع شخصية لهم أو إلى أولادهم أو إلى أتباعهم، وهذه قضية مهمة، فلذلك لا يملك المقلد إلا أن يحبه حباً كبيراً.

كثيرٌ من هؤلاء المقلدين قدموا لأجل الامام الراحل تضحيات كبيرة، ـ بسبب الضغوطات التي تمارسها بعض الحكومات عليه وبعض الجهات المنافسة له، وهذا حصل بالفعل كثيرا، فعلى الرغم من الخوف والإرهاب، ما تخلى عنه أصحابه، وبقي قوياً، وبقي متماسكاً إلى آخر فترة من عمره الشريف، والسر في ذلك هو أسلوبه في العمل، فهو أسلوب يُشعر الإنسان إذا كان صغيراً فهو والده في الحقيقة، وليس فقط هو مرجعه، بل هو كأبيه، ويأخذ من الامام الراحل العطف والمحبة والحنان والفكر والتوجيه والهداية أكثر مما يأخذه من أبيه، فكيف بالشخص الذي هو وأمه وأبوه ينهلون من هذا النمير العذب؟، وهذه حالة قلمَّا تجدها في شخصية كبيرة مثله، وقد شاهدت أناساً صغاراً في السن يدخلون عليه فيقوم لهم إجلالاً واحتراماً، ويحدثهم، ويمازحهم، ويهدي لهم الكتب وما أشبه.

انت وابنه سواء

فالعلاقة بينه وبين مقلديه والناس الاخرين علاقة حب في الحقيقة، فالامام الراحل كان يعشق الناس ويحبهم بكامل اخلاصه، ولا يحبهم لأجل مصلحة، بل يحبهم لأجل أنهم بشر، لأجل أنهم مؤمنون، لأجل أنهم أصدقاء، وقد لا تجد أنه يفرِّق بينك وبين ابنه، فأنت وابنه سواء، فلا يشعرك بالفرق، ولعل الفرق في قلبه موجود لكنه لا يشعرك به، خصوصاً لمن عاشره عن قرب، فقد عايشته أكثر مما عايشه بعض أقربائه وربما أولاده، فقد عايشته فكراً، وعايشته روحاً، وعايشته سيرةً، ويمكن بعض أولاده كانوا بعيدين عنه وغير موجودين بقربه بسبب بعض الظروف التي ألجأتهم إلى الهجرة، وربما بعضهم كانوا صغاراً في السن.

فأنت عندما تتعامل مع الامام الراحل ـ سواء كنت مقلداً عادياً أو وكيلاً، أو في أي مستوى من المستويات ـ لا تشعر بان بينك وبينه بأي حاجز أو فرق، وهذه صفة مهمة، وهي من الأشياء التي أخذها من سيرة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حيث قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ) فكان دائماً رحيماً عطوفاً، وفي أي وقت تدخل عليه يستقبلك بكل رحابة صدر.

والحديث في هذا طويل جداً، فالامام الراحل، ابتلي بخصوم ألداء، وكسب أصدقاء أشداء، أشداء في حبه وفي اتّباعه، وتعرضوا إلى كثير من الضغوطات وما تخلوا عنه، بل يفتخرون بأنهم من أتباعه والمتأثرين بأفكاره.

* هذه المقتطفات هي من حوار كامل كان قد اجري مع سماحة اية الله الشيخ فاضل الصفار في العام 2006 سيصدر بكتاب خاص ضمن مشروع ثقافي كبير تقوم به مؤسسة احياء تراث الامام الراحل اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) مع مجموعة أخرى من الحوارات لعدد من الشخصيات التي عاصرته في حياته ورافقته في بلدان المهجر.

اضف تعليق