الفرد نوبل – عبقرية علمية فذة، يرتبط اسمه في المقام الأول باختراع الديناميت ومتفجرات اخرى فتاكة، وان كان له عدد كبير من الإختراعات المهمة الأخرى، التي لا علاقة لها بالإنتاج الحربي، ولكن اسم نوبل يقترن ايضا في اذهان المعاصرين وعلى نحو راسخ بجوائز نوبل العالمية ذات المكانة الرفيعة، والتي تأسست بناءاً على وصيته الشهيرة. ولا يعرف سوى عدد ضئيل من الناس كيف طرأت فكرة هذه الجوائز في ذهن نوبل، ذلك لأن حياته ظلت الى عهد قريب تكتنفها الاسرار ويلفها الغموض.

ورغم ان اختراعاته المثيرة قد جلبت له مجداً عريضاً وثروةً طائلةً، فقد كشفت الدراسات التي أجريت مؤخرا، انه ظل الى اخر يوم في حياته يعاني من الوحدة والعزلة، وسنحاول في الفقرات اللاحقة القاء الضوء على حياته المليئة بالإنجازات العلمية الباهرة من جهة والحزن والاحباط واليأس من جهة اخرى، أضافة الى تصحيح بعض الآراء الخاطئة الشائعة عن أسباب قيامه بتخصيص ثروته الطائلة في سبيل التقدم العلمي والثقافي وتوطيد السلام في العالم، هذه الاراء، التي لا تمت الى الحقيقة بصلة، من قبيل الرأي السطحي القائل ان نوبل قد شعر بالندم للنتائج المرعبة التي ترتبت على اختراعاته العلمية، فقرر التكفير عن (ذنوبه) بتأسيس الجوائز المعروفة باسمه، ان الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، فقد أقدم الفرد نوبل على هذه الخطوة بعد معاناة طويلة على امتداد سنوات عديدة وجاءت كمحصلة طبيعية لفلسفته ونظرته الى الحياة واِلى مستقبل الجنس البشري.

المليونير الحزين

في ربيع العام 1876م نشرت احدى صحف فينا اعلاناً مثيراً بمقاييس ذلك العصر: "رجل كهل، مثقف وثري يقيم في باريس ويتقن عدة لغات اوربية، يبحث عن إِمراة في منتصف العمر للعمل بصفة سكرتيرة ومديرة منزل، وقد استجابت لهذا الاعلان سيدة نمساوية أرستقراطية جذابة تبلغ من العمر (33) عاما ¸هي "بيرتا كينسكي"، التي كانت في ذلك الوقت مضطرة للعمل كمديرة منزل لكسب قوتها.

ربما أحست برتا بين السطور مدى الوحدة التي يعاني منها هذا السيد الكهل، وتبين ان الشخص الذي نشر الاعلان كان صادقا تماما، فقد كان ثريا ومثقفا فعلاً، ويتقن عدة لغات اوربية، وإِن كان من الصعب وصف رجل في الثالثة والاربعين من عمره بالكهل. وحين التقيا في باريس ادركت بيرتا انه يبحث عن ما هو أكثر من مجرد سكرتيرة، ربما عن زوجة، ومما يؤسف له ان بيرتا كانت تحب رجلاً آخر، وقالت ذلك لنوبل بصراحة، عندما سألها ان كان قلبها خاليا. وبعد اسبوع واحد من مباشرتها العمل عادت الى فيينا ولكنها لم تستطع ابدًا ان تنسى الباريسي الكئيب، الذي كان من المحتمل أن تقترن به، لو شاءت ذلك وظلت صورة نوبل عالقة بذهنها: رجل لبق ومتواضع الى حد يكاد ان يكون تدميراً للذات، متقلب المزاج بشكل حاد وفجائي – من الانبهار الشديد الى الحزن العميق او اليأس.

لم يكن نوبل يشبه الاخرين من معارفها، وظلا صديقين طوال حياته وحتى لحظة وفاته، التي واجهها -بعد عشرين عاما من لقائهما فى باريس- وحيدا في فيلته بايطاليا، كانت الفيلا في البداية تسمى " العش " وهي كلمة توحي بوجود زوجين، وحينئذ اطلق على الفيلا اسم "نوبل". وعلى هذا النحو لم يتزوج ابدا، وأصبحت بيرتا التي لقبت فيما بعد بــ "البارونة فون زوتنر" كاتبة معروفة وداعية ناشطة في حركة السلام الاوربية، وربما كان ذلك احد الاسباب التي دفعت نوبل الى تخصيص جائزة للسلام، علاوة على الجوائز المكرسة للإنجازات العلمية والادبية، والتي تمنح سنويا تنفيذا لوصيته.

في العام 1905م منحت جائزة السلام الى بيرتا، التي وصفت نوبل بأنه: (رجل قصير القامة، له لحية سوداء ناعمة وملامح وجه دقيقة، وعيناه الزرقاوان تلمعان بحيوية تحت حاجبين كثيفتين عندما كان في عنفوان شبابه، وبمضي الزمن اصبح تعبير وجهه ذاهلا، ويكاد يكون حالما. لم يكن يحب قط، الوقوف أمام عدسات المصورين، ويتجنب لقاء الصحفيين ويبتعد عن الاضواء ويحافظ دوما على مسافة بينه وبين شركائه ومرؤوسيه، وبفضل اختراعاته الخطيرة، إِستطاع ان يجمع ثروة طائلة، كانت تعتبر من أكبر الثروات خلال القرن التاسع عشر، هذه الثروة أصبحت أساس الجوائز الشهيرة التي أسسها. كان نوبل انسانا مجاملا ومرهف الحس، ومحل اعجاب كل من عرفه تقريبا. وكانت امه شديدة التعلق به. ولكن شيئا ما في قرارة نفسه كان يجعل حياته مليئة بالمرارة والاسى، ويبعث على عدم الرضا عن نفسه، حيث لم يعرف الهدوء في حياته قط، وليس أدل على ذلك من السيرة الذاتية المقتضبة التي كتبها نوبل:

- الفرد نوبل: كان على الطبيب الذي أشرف على ولادته ان ينهي وجوده رحمةً به.

- فضائله الرئيسية: عدم تكوين أسرة، رداءة هضم الطعام.

- امنيته الوحيدة: ان لا يدفن حيا.

- الحوادث المهمة في حياته: لا توجد.

لم تكن حياة الفرد نوبل تافهة على الاطلاق، كما تبدو من هذه السطور الطافحة بالتهكم واليأس، بل انها كانت في الواقع محاطة بالدفء والحنان من قبل الاقارب وحافلةً بالانجازات العلمية، التي أتاحت له جمع ثروة ضخمة ونيل شهرة مدوية. ولكن من طبع اي عبقري ان لا يرضى عن نفسه ابدا، اما الانسان النرجسي فعلى العكس من ذلك يتبجح بفضائله الموهومة ويكيل المديح لنفسه ان لم يجد احدا يفعل ذلك نيابة عنه.

عائلة نوبل

في العام 1827م اقترن عمانوئيل نوبل (1801 – 1872م) بكارولين اندرييتا السيل (1803-1889م) وانجبا اربعة اولاد: روبرت (1829م) لودفيك (1831م) والفرد (21-10- 1831م واخيرا اميل (1842م).

كان عمانوئيل نوبل مخترعاً موهوباً ورجلاً طموحاً ومغامراً، وحياته مليئة بالإنجازات العلمية والاختراعات المدوية والكوارث، اما كارولين اندرييتا السيل، فقد كانت امرأة قوية العزيمة ومرفأ العائلة في الاوقات العصيبة والشدائد.

وحين أفلس عمانوئيل في السويد، قررت هذه السيدة المكافحة فتح حانوت صغير لبيع المواد الغذائية مما ساعد على توفير الحد الادنى من متطلبات الحياة للعائلة، وأراد عمانوئيل نوبل ان يجرب حظه في بلد اخر، فسافر الى فنلندا في العام 1837م ولكنه لم يلق النجاح، فشد الرحال في العام 1842م الى بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية، حيث نجح في اقامة وتشغيل مصنع لإنتاج المكائن البخارية وانواع اخرى من المعدات. وكان اهم نجاح حققه في روسيا هو توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية لتجهيز الجيش الروسي بأنواع الاسلحة والأعتدة، ولكن القدر تدخل هذ المرة ايضا، فقد انتهت حرب القرم (1853-1856م) بين روسيا والدولة العثمانية بانتصار روسيا، وبذلك انتفت الحاجة الى السلاح الذي كان يورده عمانوئيل نوبل، وقامت وزارة الدفاع القيصيرية بالغاء العقد الموقع معه، واضطر عمانوئيل للعودة الى السويد. وهنا في ستوكهولم انهمك بحماس شديد في اجراء التجارب ودراسة امكانية الاستخدام الستراتيجي للنتورجلسيرين وكانت هذ المادة قد اكتشفت قبل ذلك ب (14) عاما، ولكن لم يتم الاستخدام العملي لها.

نشأ الفرد نوبل طفلا عليلا يعاني من آلاّم في العمود الفقري وامراض أخرى، ولك ذلك لم يمنعه من إظهار موهبة فائقة في سن مبكرة لتعلم اللغات الاجنبية. وقد تلقى تعليما ممتازاً على ايدي أساتذة متخصصين في بطرسبورغ ثم واصل دراسته لمدة سنتين (1850-1852م) في كل من فرنسا وايطاليا. وقام بجولة في عدة دول اوربية منها المانيا، كما زار الولايات المتحدة الأميركية، واكتسب خبرة عملية واسعة. وعلى الرغم من اعتلال صحته فقد كان دؤوباً محباً للعمل، وكان والده عمانوئيل نوبل يسميه (الفرد اللبيب الدؤوب). ومع مضي الزمن أصبح يقدر العمل أكثر فأكثر، حيث كان يقول:" إن العمل يجعل كل شيء رائعا ". كان يكره الدعة والخمول والكسل ويدرك على نحو عميق بأن كل ما ينجزه الانسان هو بفضل العمل الواعي الموجة نحو تحقيق غاية معينة وهدف محدد لذلك كان يخطط لكل خطوة يخطوها ويعرف ما يريد بالضبط.

الشاب اليافع أدرك ان الحياة ليست عملاً فقط، وأحس بذلك بقوة في باريس على وجه الخصوص. وعرف (الفرد) سعادة الحب في هذه المدينة، ولم يدم حبه طويلا. الذكرى الوحيدة عن هذا الحب هي قصيدة قصيرة، فقد كان نوبل في مقتبل حياته يكتب الروايات والمسرحيات ويجرب الشعر، ومن المحتمل انه كان سينعم بمباهج ومرارة الحياة الزوجية، ولكن حبيبته ماتت فجأة وتركت لوعة في نفس الفرد، فقرر العدول نهائيا عن فكرة الزواج والعزوف عن مباهج الدنيا ليكرس حياته للأهداف النبيلة.

انجازات وكوارث

في خمسينات القرن التاسع عشر تدرب وعمل (الفرد) في مصنع والده في سان بطرسبورغ مع اخويه لودفيك وروبرت، لقد ظل الشبان الثلاثة في روسيا لبعض الوقت حتى بعد عودة والدهم الى السويد. ولقد كُلّف الفرد – بسبب معرفته اللغتين الانجليزية والفرنسية- بمهمة في كل من انجلترا وفرنسا، مهمة حساسة كتب لها الفشل مسبقا وهي الحصول على قرض مالي.

وفي هذ الفترة تقريبا اخذ (الفرد) يبدي اهتماما بعلم الكيمياء حيث تمكن من تسجيل براءة اختراع لأول مرة في عام 1857م وشرع بإجراء التجارب بالاشتراك مع والده على مادة النتروجلسرين، وكان النجاح حليفهما او على وجه الدقة حليف الفرد نوبل، الذي بذل جهوداً مضنية وطويلة لإثبات ان الاختراع يعود اليه وليس لوالده، لقد كانت القوة التدميرية للنتروجلليسرين معروفة قبل ذلك ولكن لم يتمكن احد من تحقيق استخدامها العملي.

ان توصل الفرد نوبل الى اختراع كبسولة التفجير، التي يمكن بواسطتها احداث تفجير في حاوية مملؤة بالنتروجلسيرين السائل كان على جانب عظيم من الاهمية. وقرر الفرد اشراك شقيقه الاصغر اميل –وكان مايزال تلميذا في المدرسة الثانوية– في هذه التجارب وتمكن الشقيقان من انتاج عدد محدود من هذ الكبسولات في مختبر صغير قرب مدينة ستوكهولم.

كان ذلك في عام 1863م، وكانت هذه التجارب محفوفة بالمخاطر العظيمة ولكنهما واصلا عملهما دون كلل. وبعد عام واحد وفي ساعة مبكرة من الصباح عندما كان الفرد في رحلة عمل خارج ستوكهولم ووالده مايزال يتناول طعام الافطار، حدث انفجار هائل في المختبر ادى في الحال الى وفاة أميل وأربعة أشخاص اخرين، ولكن الفرد كان واثقا من النجاح ولم تثبط هذه الكارثة عزيمته ولم يتخل عن مشاريع اقامة مصانع في وطنه السويد وفي المانيا. وكان بعيد النظر سواء خلال الفترة الحرجة او في السنوات اللاحقة، عندما أنشأ مصانع في بلدان اوربا واميركا، حيث تخلى عن حقوق براءة الاختراع لقاء مشاركته في ارباح المصانع المقامة في داخل وخارج وطنه، كان الانفجار في ستوكهولم بداية لسلسلة طويلة من الكوارث المفجعة، التي كانت كافية – على ما يعتقد – للإقلاع عن فكرة انتاج النتروجلسرين على نطاق صناعي قبل ان يبدأ مثل هذا الانتاج فعلا، ان خزن ونقل النتروجلسرين كان أخطر مما كان يتصوره الفرد نوبل نفسه، ففي عام 1866م تناثرت في الهواء قرب سواحل بنما باخرة محملة بالنتروجليسرين وأدى الحادث الى مقتل (74) شخصا وبعد أقل من شهر واحد قتل (14) شخصا في انفجار مخزن في سان فرانسسكو ودمر انفجار هامبورغ المصنع الذي أقامه الفرد نوبل بعد مرور عام واحد فقط من الانتاج فيه. وحدثت انفجارات مماثلة في كل من نيويورك وسدني.

وعاد الفرد نوبل الى المختبر لإيجاد حل يضمن نقل وتداول واستخدام النتروجليسرين بشكل اّمن. كان يبحث عن مادة صلبة على شكل مسحوق او الياف تمتص النتروجليسرين مما يزيل قابلية هذه المادة للانفجار تلقائيا. واخيرا استقر رأيه على مادة تسمى (Kiese Lgur)، التي تكون مع النتروجليسرين مادة أقل خطورة في التداول. وأطلق نوبل على هذه المادة الجديدة اسم (ديناميت) وهي كلمة مشتقة من (ديناميك) اليونانية وتعني القوة. وعلى الفور تحولت مادة الديناميت الى اوسع المواد المتفجرة انتشارا في العالم، وأقام نوبل وشركاؤه المصانع في كل من النرويج، فنلندة، فرنسا، ايطاليا، النمسا، اسبانيا، الولايات المتحدة الامريكية، وبكلمة مختصرة في كل مكان يستخدم فيه المهندسون التفجير في حفر المناجم وشق الانفاق وكانت الارباح هائلة. فعلى سبيل المثال لا الحصر دفعت شركة (بريتش ديناميت) الى المساهمين وبضمنهم الفريد نوبل أرباحا سنوية تتراوح ما بين 12% - 20% طوال (10) سنوات.

وارتفع انتاج الديناميت من 11 طن عام 1867م الى 3120 طن عام 1874م. وكان تسجيل واستصدار شهادات براءات الاختراع وابرام عقود المصانع الجديدة يستنزف الكثير من وقت الفريد نوبل، ولكنه كان مهتما اكثر من اي شيء آخر بتجاربه المختبرية، كان رجل الافكار الجديدة ويبدو سعيدا حينما ينهمك في اجراء التجارب فقط ولا يغادر المختبر الا في وقت متأخر من الليل، وكان يقول "اذا طرأت في ذهني الف فكرة خلال عام واحد، وتبين ان فكرة واحدة فقط من هذه الافكار ذات قيمة أكون راضيا ".

ولكن الواقع يثبت ان نتائج أعماله كنت مثمرة اكثر من ذلك بكثير، حيث بلغ عدد الاختراعات التي توصل اليها خلال حياته (355) اختراعاً.

وبعد فترة قصيرة توصل الى مادة متفجرة أقوى سماها (الجيلاتين المتفجر). وفي الثمانينات حصل على براءة اختراع مسحوق بدون دخان وتهافتت الجيوش الاوربية لشراء هذه المادة الجديدة، ان اهتماماته العلمية كانت اوسع من نطاق المواد المتفجرة. كان يقوم بتجارب كثيرة لإيجاد بدائل صناعية للحرير والجلد والمطاط وتجارب في مجالات اخرى.

نوبل المواطن العالمي

كان نوبل بطبعه وبحكم الضرورة مواطنا عالميا، ويتقن ست لغات اوربية اساسية، كان يحس كأنه في وطنه وبيته في معظم العواصم الاوربية، ففي بداية حياته العملية كان يقطن في هامبورغ، ثم عاش فترة طويلة في فيلا انيقة في باريس. وفي اواخر حياته اقتنى فيلا كبيرة في إيطاليا وسكن فيها، كان دائم التنقل بين مدن اوربا في رحلات تتعلق بعمله، وكذلك للمعالجة في المصحات. وأمضى الصيف الاخير من حياته في بيته في فيركبورن بالسويد، وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو اسم (المليونير المتشرد). وحين تقدم به العمر، كان نوبل يشكو من الثمن الغالي الذي اضطر لدفعه ثمنا لحياته في التنقل الدائم، قال ذات مرة " انا أجدف بلا مقود أو بوصلة، بقايا سفينة محطمة في عرض البحر".

وفي رسالة الى خطيبته كتب نوبل يقول: " لم أكوّن أسرة. هذا المرفأ الحياتي الذي لا يقدر بثمن وليس لي اصدقاء يمكن ان احبهم، ولا اعداء يمكن ان أكرههم "، كان نوبل يهوى سباق الخيل، ولكنه كان جد معتدل في مراهاناته، لم يكن يطيق التدخين والكحول ولعب القمار وكان أشبه بالناسك في عاداته.

كان يحاول دائما ان يستقبل ضيوفه بسخاء منقطع النظير. قال احد معارفه عن الولائم التي كانت تقام في بيت نوبل " انها مآدب كبيرة تتيح لك أوسع الفرص لاختيار الاطباق وأنواع الخمور، كان أبو الديناميت لا يطيق الضوضاء، لذا فان عجلات عربته كانت مغطاة بالمطاط كي لا تحدث أي قرقعة."

نوبل العصامي كان يعتمد على نفسه في كل شيء، وينشد الاستقلال في آرائه ووجهات نظره، التي كانت تختلف عما هو تقليدي او سائد، كان ينظر نظرة شك وريبة الى كافة انواع الحكومات في اوربا وامريكا، وحين تقرأ مؤلفاته العديدة يبدو لك انساناً يحاول ان يخفي اوهامه، متوقعا ما هو أسوأ ويأمل - برغم لك – في مستقبل افضل، أما الموضوع الذي كان يشغل باله طوال حياته فهو بحثه المتواصل عن الحب ولكن دون جدوى. وبوسع عالم النفس ان يفترض ان أمه قد حجبت عنه النسوة الأخريات، كان الفريد وأمه أندرييتا متعلقين ببعضهما، وليس أدل على ذلك ان نوبل كان يحرص أشد الحرص ان يحضر الى السويد سنويا في يوم ميلاد أمه، وحين توفيت كان عمره (56) سنة. وحسب قول نوبل: " كانت تحبني على نحو يعجز عنه الناس هذه الايام، حيث ان الحياة الصاخبة تعمى كل الاحاسيس " ويتسم موقف نوبل تجاه المرأة بشيء من التناقض فقد كان مسحورا ومبهورا بالنساء، وفي الوقت ذاته ينفر منهن. وهو الذي كتب عن المرأة يقول: " الجنس اللطيف ولكن المفزع "، وبرغم خجله المعهود فقد كان دائما مهتما بالنساء.

ملك الموت

أتيحت لألفريد فرصة نادرة ليقرأ نبأ وفاته وهو حي يرزق. حدث ذلك عندما توفى شقيقه لودفيك، الذي جمع ثروة كبيرة من استخراج النفط من الحقول الغنية قرب مدينة باكو الأذربيجانية، وقد التبس الامر على الصحفي الفرنسي الذي كتب مرثية للفقيد، وظن ان المتوفي هو الفريد نوبل وأطلق عليه الصحفي اسم " ملك الموت ". ويعتقد البعض ان هذا التنبؤ المشؤوم قد عزز الى حد كبير ميل الفريد نوبل نحو مناهضة الحروب عن طريق النضال السلمي، فقد أخذ يبدي اهتماما كبيرا بقضايا السلام العالمي، وعلى مدى سنوات طويلة دافع نوبل عن اختراعاته امام نفسه وامام المجتمع.

لقد كان طوال حياته مناهضا للحرب ووصفها بانها "أكبر وأفظع جريمة" ولكنه في الوقت نفسه كان يؤكد ان الضحايا الانسانية حتمية عند استخدام اي نوع من المتفجرات حتى لو كان ذلك من أجل هدف نبيل.

ولقد أيد اسهام (بيرتا فون زوتنر) في حركة السلام الاوربية برغم انه كتب اليها يقول "ان مصانعي تقرب نهاية المعارك على نحو أسرع من مؤتمراتكم، ومن المحتمل جدا انه في اليوم الذي تظهر فيه امكانية لدى جيشين متقاتلين في افناء كل منهما الاّخر خلال ثوان معدودة، فأن كل الامم المتحضرة تدير ظهرها للحرب."

في العام 1891 غادر نوبل فرنسا الى ايطاليا بسبب سخط الفرنسين العارم واحتجاجهم ضد قيامه ببيع المسحوق عديم الدخان الى البلدان الاخرى، وفي إيطاليا، واصل تجاربه على الالياف الصناعية والمواد المتفجرة في فيلته الواقعة قرب ساحل البحر في سان ريمو، رغم أصابته بمرض القلب، وفي عدد من رسائله الموجهة الى معارفه تنبأ نوبل بموته ورسم صورة قاتمة للحظة وفاته: (بين خدم غرباء حين لا يكون في جواره انسان قريب وحميم) وفي أكتوبر 1896 أصيب بنزيف في الدماغ وخلال ثلاثة ايام لم يكن يستطيع الكلام الا بصعوبة شديدة وباللغة السويدية التي لم يكن احد من خدمه يفهمها، وفي العاشر من كانون الاول من العام 1896 وجده احد الخدم وقد فارق الحياة.

وصية الفريد نوبل

ربما كانت وصية الفرد نوبل اشهر وصية في التاريخ فهي وصية فريدة، ويمكن اعتبارها أهم اختراع توصل اليه حيث لم يسبق لأحد ان كرس امواله الطائلة لغرض نبيل، هو تطوير العلم العالمي وتوطيد السلام وتكريم الادباء.

في العام 1895 أي قبل وفاته بعام واحد قام الفرد نوبل ودون الاستعانة بالمحامين بكتابة وصيته.

كان يعتقد ان الثروة الموروثة تؤدي الى زيادة العاطلين والكسالى ولهذا لم يخصص في وصيته سوى جزء صغير من ثروته، لأقاربه وللمقربين منه، أما بقية المبلغ فقد اوصى بإيداعه في البنك وتخصيص أرباحه السنوية كجوائز تمنح كل عام لاولئك الاشخاص الذين قدموا خلال العام المنصرم أفضل الخدمات للإنسانية. وتوزع جوائز نوبل – حسب الوصية – على خمسة حقول هي (الفيزياء، الكيمياء، الطب أو الفسلجة،، الآداب، السلام). وفي عام 1968 الجهات المانحة للجوائز تخصيص جائزة سادسة في حقل الإقتصاد بناء على إقتراح بنك السويد لمناسبة مرور (300) سنة على تأسيسه.

ان طريقة اختيار المرشحين ومنح الجوائز تختلف قليلا عما جاء في وصية نوبل، حيث تمنح الجوائز ليس للأعمال المنجزة خلال العام المنصرم، بل تلك المنجزة في الاعوام السابقة، اذا ظهرت اهميتها فيما بعد. وهذا امر مريح للجهات المانحة والمجتمع الدولي، حيث تتيح هذه الطريقة حرية أوسع في اختيار الابحاث والانجازات الاكثر أهمية خلال فترة زمنية مفتوحة.

نشرت الوصية لأول مرة في أوائل كانون الثاني العام 1897 وأثارت ردود فعل متباينة في السويد والدول الاوربية الاخرى، سرعان ما تحولت الى ضجة حقيقية، فقد اتهمه القوميون السويديون بأنه قد خذل ابناء جلدته، في حين أكد نوبل في وصيته بان تمنح الجوائز لأكثر الناس جدارة واستحقاقاً بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والحدود الجغرافية.

استمرت الضجة التي أثارتها هذه الوصية، طوال فترة المحاكمات الطويلة بصددها، والتي شهدت مشادات حادة بين الاطراف المتنازعة (الجهات المانحة للجوائز وأقارب نوبل) حيث زعم البعض ان الوصية غامضة وغير قانونية، في حين زعم البعض الاخر بأنه لا يحق لنوبل ان يتصرف بثروته على هذا النحو، ولم تهدأ الضجة التي أثارتها الوصية الا بعد حوالي أربع سنوات. وبحلول عام 1900 كانت كافة الاجراءات التحضيرية لعملية اختبار الفائزين الاوائل قد استكملت، وقد تحددت اسماؤهم بعد ذلك بعام واحد.

كان نوبل مالكا للعديد من الشركات ومساهماً في شركات صناعية اخرى، وذاع صيته في الاوساط العلمية وبين رجال الاعمال والمال والسياسة في اوربا، ولكن شهرته العالمية الحقيقية جاءت مع اختراعه الاهم وهو وصيته، ولكن هذه الوصية لم تكن تنفذ لولا جهود راغنر سولمان - معاونه وسكرتيره وأحد أثنين أوكل اليهما نوبل تنفيذ وصيته. وعلى أية حال فقد حسمت المحاكم امر الوصية وتحقق حلم نوبل بإنشاء صندوق لتمويل الجوائز المسماة باسمه. وتولى سولمان رئاسة الصندوق اعتبارا من 1901.

وصندوق التمويل هذا، منظمة غير حكومية ومستقلة، تتلخص مهمتها الاساسية في تمويل الجوائز وضمان حقوق الجهات المانحة لها، واخيرا اعداد اجراءات واحتفالات تسليم الجوائز للفائزين.

ان الجوائز تعكس ميول نوبل نفسه: العلوم التطبيقية، الادب، السلم، كما تعكس نزعته الكوسموبوليتية، ان السمعة الممتازة لهذه الجوائز ربما تفسر بان الجوائز تعبر أصدق تعبير عن افكار نوبل النبيلة واهدافه واحلامه في الوصول الى "مجتمع عالمي يسوده الانسجام الذي لم يخلق بعد، ولكنه سوف يتحقق حتما، كما يقول المؤرخ المعروف دونالد فلمنغ.

عملية الترشيح والاختيار لجوائز نوبل

تبدأ عملية الترشيح للجوائز في خريف كل عام. حيث تقوم لجان نوبل المتخصصة بتوجيه رسائل الى مئات العلماء والى الحائزين على جوائز نوبل في السنوات السابقة، والى المراكز العلمية المتخصصة في شتى انحاء العالم تطلب منهم ترشيح الاسماء لجوائز العام المقبل، وتوجد (6) لجان لجوائز نوبل ثلاث منها في حقول الفيزياء والكيمياء والاقتصاد لدى الاكاديمية الملكية السويدية للعلوم ولجنة واحدة للطب والفسلجة لدى معهد كارولينا وأخرى للأدب في الاكاديمية السويدية، وثالثة للسلام في البرلمان النرويجي، تتكون كل لجنة من (5) أشخاص تعينهم الجهة المختصة، ولكن من حق اللجان الاستعانة بخبراء مستقلين من ذوي الكفاءة العالية في مجالات تخصصاتهم.

وفي شهر شباط تباشر لجان نوبل بدراسة وتحليل الترشيحات الواردة أليها. وتعقد لهذا الغرض جلسات عديدة ومطولة، ولكن يمنع منعا باتا ًتسجيل محاضرها. وتعد اللجان تقارير مسهبة عن أبرز المرشحين وترفع توصياتها الى المراجع المعنية للبت في الاختيار النهائي.

وتعلن أسماء الفائزين في يوم ميلاد الفرد نوبل، المصادف للحادي والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر، ولا تعلن أسماء المرشحين الذين لم يقع عليهم الاختيار. وتتسم أعمال اللجان في مراحلها الأساسية بالسرية التامة، ويتم تقليد الجوائز للفائزين في يوم وفاة نوبل، المصادف للعاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر. ويجرى تسليم جائزة السلام في العاصمة النرويجية أوسلو بحضور ملك النرويج أو من ينوب عنه من أفراد العائلة المالكة.

أما بقية الجوائز، فأنها تسلم الى الفائزين بها من قبل ملك السويد في قاعة الحفلات للفيلارمونيا السويدية في أجواء احتفالية مهيبة.

الانتقادات الموجهة الى لجان جوائز نوبل

تعرضت لجان جوائز نوبل –منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا– الى انتقادات لاذعة، واسعة النطاق. وفي مقدمة الانتقادات الموجهة الى هذه اللجان، أنها تمنح الجوائز لشخصيات أدبية وعلمية بارزة، خلفوا إنجازاتهم الرئيسية ورائهم. وكما قال "برنارد شو" الحائز على جائزة الآداب لعام 1925 م، ان الجائزة بمثابة طوق النجاة يرمى للسابح المهدد بالغرق بعد وصوله الى الشاطئ بسلام، في حين أن نوبل ذكر في وصيته بوضوح، ان الهدف من منح الجوائز هو مد يد العون الى صفوة الموهوبين الواعدين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق