مع تفاقم أزمات الفساد المتلاحقة في بلدنا؛ أصبحت الشفافية حلم صعب المنال، فالفساد وما نتج عنه من مشاكل تعيق اليوم كل أمل حقيقي بعبور الازمة الاقتصادية والازمات الاخرى المرافقة لها، اصبح ظاهرة اجتماعية وسمة مهمة من سمات مجتمعنا فلدينا كل شيء ملموس ومحسوس يتناهبه الفساد، حتى الهواء في سماء المدينة، مشبع بالفساد، وما طرحته وزارة الكهرباء أخيراً من خلال متابعتها اليومية عن اكتشافها وجود اتفاق بين موظفين صغار وبين أصحاب المولدات الأهلية لإطفاء الكهرباء من اجل إجبار المواطنين على دفع الأجور لأصحاب المولدات " يؤشر لمرحلة خطيرة جداً تتمثل أن الجميع فاسدون، ولم يعد الفساد صفة لوزير او مدير عام أو عضو مجلس منتخب؛ بل أضحى متلازمة حتى للموظفين والعمال الصغار في سلم الدولة الوظيفي حتى تبدل الشغف في العمل الى الشغف في أخذ الرشى لتوفير الخدمة العامة التي يتقاضون رواتبهم عنها.

هيئات ودوائر مفتشين تعمل بكد من أجل أن نرفع من اسهم العراق في سوق الشفافية العالمي محاولين بشق الانفس السيطرة على مستنقعات البيروقراطية التي ولدها الفساد بفعل تحكمه بالكثير من الخدمات العامة المهمة والتي بدأت بتدمير معالم النظام الديمقراطي في البلد فالفساد ليس من ولد الازمة الاقتصادية التي يمر بها البلد اليوم بل هو الازمة بحد ذاتها فمنذ عام 2003 وحتى عامنا هذا هناك الآلاف من قضايا الفساد لم يتمكن أحد من حسامها أو انها تؤجل بين الحين والآخر للحصول على مآرب مختلفة قد يكون السبب في ان قضايا الفساد الحقيقي التي قصمت ظهر العراق الاقتصادي هي بيد فاسدين يحاولون الحصول على مكاسب مادية أو سياسية من ورائها.

ملفات يرهقنا إحصائها ولكن ذكراها لازالت معلقة في رؤوسنا كانت من أكثر الاسباب التي أدت الى تركيع العراق اقتصاديا وعسكرياً وحتى اجتماعياً، لم نتمكن من خلال الاعوام السابقة حينما كان النفط في اوج اسعاره أن من نشيد مشاريع عملاقة تسد جوع العراقيين على أقل تقدير، وحده العام 2012 كانت فيه وفرة مالية تقدر بـ 20 مليار دولار دورت للعام التالي واتلفت مثلما تتلف كل الموازنات بمشاريع وهمية ومتلكئة تتم بالتعاون بين موظفون حكوميون ومقاولون سيطروا بصورة شبه مطلقة على الواقع المالي في العراق.

القضاء على الفساد، بحاجة ماسة الى رجال اشداء حازمون يمتلكون ادوات مهمة أهمها القوة ويأتي بعدها المعرفة الكاملة بالقوانين وأنظمة الرقابة النوعية والتقييس بل أن كل من يريد أن يعمل في مجال القضاء على الفساد يجب أن توفر له الاستقلالية في العمل لان الحرب على الفساد لا تقل شراسة عن الحرب على الارهاب في العراق، فالفساد اشتد وأصبح قوة تساندها جيوش صغيرة متمرسة في القتال من أجل المليارات التي تمتد لها ايدي المفسدين بشراهة.

هيئة النزاهة العراقية احتفلت باليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يوافق التاسع من كانون الاول/ديسمبر من كل عام حيث شدد رئيسها السيد حسن الياسري في "دعوته بلدانَ العالم لأخذ دورها الحقيقيِّ في محاربة الفساد، وعدم توفير ملاذات آمنة لسُرَّاق أموال الشعوب كما دعا رئيس الهيئة بلدان العالم إلى أخذ دورها الحقيقيِّ في محاربة الفساد من خلال عدم السماح لأيِّ سارقٍ بالإقامةَ على أرضها، وإن كان حاملاً لأكثر من جنسيَّة، موضحاً أنَّ العراق عرض وجهة نظره في المحافل الدوليَّة بهذا الخصوص، وشدَّد على أهميَّـة أن لا يكون ازدواج الجنسية ذريعةً تتذرَّع بها البلدان لإيواء المحكومين بجرائم فساد".

على الرغم من جسامة التحدي الذي يواجه الهيأة في عملها في محيط فاسد بالكامل إلا إن ذلك لا يقلل من عزيمتها في مواجهة هذا المحيط والغوص في إعماقه بحثاً عن كنوز العراقيين التي سلبت طوال العقود الماضية بل أن أمامها ملفات فائقة الخطورة والحساسية عليها أن تمتلك الجرأة الكاملة والقوة اللازمة لفتحها بقوة القانون دون خوف أو وجل من القوى التي تسند الفاسدين مهما كانت انتماءاتهم العقائدية والحزبية وأن تتعامل بحرفية كاملة مع كل ملف وأن تكشف للعراقيين عنها بأسرع وقت ممكن، لأن العراقيين سيكسبون ثقتها وحينها سيكونوا خير عون للهيئة في عملها.

الحملة الدولية لكسر طوق الفساد تركز "على أثر الفساد في تفتيت أسس الديمقراطية وسيادة القانون، والتسبب في وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، وتشويه السوق وتآكل جودة الحياة، وتهيئة البيئة المناسبة لازدهار الجريمة المنظمة والإرهاب وغيرها من التهديدات التي تواجه الأمن البشري".

الفساد ليس سرقة أموال فقط على الرغم من أنه النتيجة النهائية والهدف الأهم له إلا أنه يمر مروراً عاصفاً ومدمراً على كل الاسس الاجتماعية والنفسية وجودة الحياة في المجتمع؛ الفساد هو الخراب بعينة وهو يقوض ملامح الدولة بيد خفية وبالتدريج حتى تصل الدولة الى مرحلة التدمير التام والانحطاط في كل القيم السامية التي طالما كانت أحد أهم سمات الموظف العراقي، اليوم أطاح الفساد بأبسط قيمنا في التعامل مع ابناء شعبنا من قبل الموظفين الحكوميين ممن يقدمون الخدمة العامة للشعب، فالمآسي التي نراها شاخصة اليوم كمآثر سلبية مؤلمة للفساد لا نعتقد أن الخلاص منها سيكون سهلاً يسيراً على السواعد النبيلة، بل أنها بحاجة الى جهد قد يمتد لسنوات عدة للخلاص من ربقته المؤلمة وسنوات أخرى لكسب ثقة العالم بقدرتنا على الوقوف بوجه الفساد بموجب أحكام وبنود الاتفاقية الاممية لمكافحة الفساد، التي وقع عليها العراق في العام 2007.

قيمة الفساد المالي في العراق منذ ام 2003 قد تقدر بمئات المليارات من الدولارات هي حصيلة موازنات لم يحسن التعامل بها لمصلحة الشعب، لذا فانها مسؤولية كبيرة ومرهقة يتوجب العمل عليها بدقة وفقاً للمعايير الدولية للإتفاقية الدولية من تدابير وقائية وأحكام منها المادة 8 الخاصة بإعتماد مدونات قواعد السلوك للموظفين الحكوميين واستخدام كافة بنودها في تسليم من انتهكوا حقوق العراقيين وحكم عليهم القضاء العراقي ممن استفاد من إزدواج الجنسية في الهرب من القضاء.

اليوم الدولي لمكافحة الفساد يجب يحظى بأهمية كبيرة ويجب علينا الاندماج مع العالم في هذا المجال والدخول في توأمة دوائرنا الرقابية مع مثيلاتها في دول العالم التي تربعت على أعلى هرم الشفافية بقدرتها على إستنباط وسائل جديدة لتطوير سبل مكافحة الفساد وكسر قيده فمستقبل الوطن مرهون دائماً بقدرتنا على المطاولة في الحرب على الفساد الذي طال علينا ليله.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق