الحكم الرشيد: هو عملية تأسيس أيديولوجي سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي ومعرفي، ينتج عنه تأصيل لنظام حكم سليم، يتجه بمصالح المجتمع وأهدافه نحو التحقق، وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار، يتشكل من جرائها بناء مجتمع صالح يتجه نحو الفضيلة والكمال بأسس ثابتة، يشترك في صناعة هذا الوضع السياسي والفكري كل من الحاكم والمحكوم بعلاقة تكاملية.

لقد اولى الامام علي بن ابي طالب (ع) مشروع تأسيس الحكم الرشيد أهمية بالغة في فلسفة الحكم، واتضحت معالم هذا المشروع بشكل واضح وجلي في عهده (ع) الى مالك الاشتر، عندما ولاه حكم مصر، وأول ملامح هذا المشروع وتجلياته الإيديولوجية تتضح في برنامجه (ع) المتضمن اعادة اصلاح منظومة الشعب المصري (استصلاح اهلها)، (جباية خراجها)، (عمارة أرضها)، (جهاد عدوها)، كأن الامام علي بن ابي طالب (ع) في هذه الرباعية يعطي البناء المعرفي الفردي والمجتمعي والسياسي أهميته البالغة في عملية التأسيس لفلسفة الحكم الرشيد، بل تمثل البنية المعرفية للمجتمع أولوية بالنسبة له، كما ويشترط في عملية البناء الفكري هذه ضرورة الاهتمام بالجوانب الاخرى الكفيلة بتعميق فلسفة الحكم الرشيد واهمها الجانب الاقتصادي، والجوانب الاجتماعية والخدمية، فضلا عن الجوانب العسكرية.

وحرص الامام عليه السلام ان يعالج المنظومة الاخلاقية والمعرفية والفكرية الاجتماعية العامة (للمجتمع العام)، ويٌقرن صلاحها بصلاح ذات الوالي وسلامة منظومته المعرفية والاخلاقية بل يعتبر الاولى مقومة للثانية، وفي علم الاجتماع السياسي الحديث، يسمى هذا الطرح (التكامل المنهجي)، وفي مصادر اخرى (التكامل المعرفي)، او (التكامل الأيديولوجي) الذي لابد منـه في أي عمل اصلاحــي.

يأتي ذلك التأصيل في اشارة منه (ع) الى ضرورة الشروع بتأصيل حالة الانسجام بين الفلسفة الفردية (ثقافة الفرد)، و(الفلسفة الجمعية)، و(الفلسفة السياسية للحاكم) ويعتبر هذه الثلاثية (فرد – مجتمع – حاكم) من الضرورات الأساسية التي لابد منها لتأسيس او تشكيل مبدأ الانسجام والتكامل المعرفي العام.

ويمثل مبدأ التكامل المعرفي والأيديولوجي، المحور الأساس لمشروع الحكم الرشيد، لأنه يفرض صيغة التفاهمات بين الحاكم والمحكوم، وعندما يحل التفاهم والتكامل المعرفي والفكري محل التناحر والتشظي، فانه حتما سوف يتجه المجتمع الى تطبيق سياسة اصلاحية بإمكانها تغيير الواقع الذي يعيشه أي مجتمع من المجتمعات، بل سوف يكون المجتمع مهيأ لتطبيق الفلسفة الرشيدة.

ويؤكد (ع) في عهده الى مالك الاشتر على ضرورة مراعاة التقسيمات الاجتماعية التي يتكون منها او يتشكل من خلال التقائها المجتمع، بحيث يتضمن هذا التقسيم مراعاة دقيقة للحقوق والواجبات لكل فئة اجتماعية فالجند والولاة واهل الدواوين والمواطنين (العامة) واهل الرأي والمشورة والفقراء والمساكين، والخاصة من الوزراء وغيرهم من التقسيمات الاجتماعية، لها برنامجها التكميلي لمشروع الحكم الرشيد فلكل فئة من هذه الفئات منظومة اخلاقية وفكرية ومعرفية يشترط وجودها، وهذه المنظومة هي التي تؤهله لكي يتولى مهام مجتمعية يصل من خلالها الى تحقيق الرشد الاجتماعي والفكري والسياسي العام، فيضع عليه السلام برنامجا او منظومة اخلاقية للجند على سبيل المثال مشترطا تحقق عدة شروط في صاحب هذه الوظيفة، وعندما استقرئنا الشروط لم نجد تحققها في الوقت الراهن، حتى في ارقى جيوش العالم النظامية التي شهدها ويشهدها العالم الحديث والمعاصر، فيضع الخلق القويم واحترام المواطن، والشكيمة امام الاقوياء والمتنفذين، واللين والعطف امام المظلومين والمضطهدين والضعفاء، واعتبر هذه الشروط اساسيات اخلاقية وطبيعية لتولي هذه الوظيفة.

وكذلك الامر لباقي وظائف الدولة وحتى طريقة اختيار المستشارين منظمة ومعقدة للغاية لأنه يعتبرهم قرائن للحاكم تنعكس رؤيتهم على اخلاقيات الحاكم وسلوكه، وبالتالي تتحول الى سلوك سياسي عام يصدر من الحاكم فاشترط في المستشار عدد من الشروط اهمها ان لا يكون جبانا ولا بخيلا، بل اشترط ان يكون المستشار والرفيق شجاعا كريما رحوما بالناس، حتى مرافقة الامير للناس اشترط عليه ان يرافق ذوي الاحساب والانساب واهل البيوتات الحسنة الذين يتخذهم الناس قدوة وفريضة لهم اذا أصابتهم مظلمة او ألمت بهم المصائب لانهم اهل الصعاب الذين تنصقل بصفاتهم واخلاقهم نفسية الحاكم وصفاته واخلاقه.

كما يشترط على الحاكم ان يؤسس لعملية البناء المعرفي للمجتمع العام، ويؤسس عليه السلام الى ضرورة مساندة الافكار التي من شأنها أن تزيد تماسك المجتمع، وتحد من عملية تشظيته وتناحره بين بعضه البعض.

ومن اهم الارشادات التي وجهها الامام علي (ع) الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر قضية معايشة حياة العامة والنظر بأمورهم صغيرها وكبيرها، وينهاه عن العزلة عن امور الناس ومعايشهم وحياتهم، لان ذلك يعتبره شكلا من اشكال الحكم الفاسد الذي يؤول بأمر صاحبه الى الزوال، اي يؤدي الى فساد الحكم والتعجيل بأمر الحاكم ودولته الى السقوط، كما وتتسبب هذه السياسة وفق نظرية الامام الى تراكم مشاكل الناس وهمومهم مما يؤدي الى حقد العامة – ورضا الخاصة، ويعتبر عليه السلام حقد العامة – ورضا الخاصة شكلا آخر من أشكال الحكومات الفاسدة لان الخاصة لا ترضى الا بالاستئثار بمصالح العامة فيحدث (الانعزال) بين الطبقة الحاكمة، والطبقة المحكومة فتحل الفوضى والتناحر بديلا للاستقرار والتكامل.

ان أجمل مبدأ من مبادئ الحكم الرشيد الذي تتضح معالمه في عهد الامام علي (ع) الى مالك الاشتر هو مبدأ التكامل، بمعنى ادق ان عملية التنمية والبناء والتغيير عبر الحكم الرشيد، عملية مشتركة تبدأ وكأنها ثقافة فردية من الضروري أن يتحلى بها الجميع (الحاكم والمحكوم)، (الخواص والعوام)، (الغني والفقير) بمعنى أدق أن يتحقق الرشد وكأنه فلسفة اجتماعية توجه سلوك المواطن أينما كان موقعه، وكيفما كانت فئته ومستواه بحيث يكون المجتمع متهيئاً لاستيعاب الرشد على كافة المستويات، وهذا تأصيل قديم لمفهوم حديث يسميه علماء الاجتماع السياسي (المواطنة الواعية) الذي يفهم من خلاله كل عنصر من عناصر البناء السياسي دوره في المشروع العام المراد تطبيقه على المجتمع لينتقل المجتمع من حالة الجهل والرذلة الى حالة الرشد والوعي والفضيلة.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق