q
المصدر الذي نشأ عنه القانون هو الذي يُكسبه صفة الإلزام، ولولا ذلك لما كانت الدولة هيئة ذات سيادة، ولو ادعت أية إرادة أنها تضمن قدرًا من الطاعة مماثلًا لذلك القدر الذي تنعم به الدولة؛ لأصبحت هذه الإرادة ذات سيادة مثل الدولة تمامًا. وفي مثل هذا المجتمع إما أن...

لا يمكن أن يختلف القانون عن إرادة الدولة؛ لأنه بمجرد أن تخلع على القانون صفة السيادة؛ لا بد وأن يتخذ القانون شكلًا معينًا وهو الشكل الذي تكون الدولة على استعداد لتنفيذه، ولا يمكن أن تكون الدولة على استعداد لقبول أي قانون ما لم يتمشَّ مع إرادتها. ربما كان الأمر مفتقرًا إلى الحكمة ويشيع فيه الخطأ، ولكنه قانون لأن الدولة هي التي تضعه وتقوم بتنفيذه.

والواقع أن المصدر الذي نشأ عنه القانون هو الذي يُكسبه صفة الإلزام، ولولا ذلك لما كانت الدولة هيئة ذات سيادة، ولو ادعت أية إرادة أنها تضمن قدرًا من الطاعة مماثلًا لذلك القدر الذي تنعم به الدولة؛ لأصبحت هذه الإرادة ذات سيادة مثل الدولة تمامًا. وفي مثل هذا المجتمع إما أن تزول السيادة تمامًا، وفي هذه الحال لن يكون للدولة كيان، وإما تنسب السيادة إلى تلك الهيئة - إن كانت هناك أية هيئة - التي لها الحق في الفصل في المنازعات التي تنشب حول مسألة تضارب السيادات، ولكن مثل هذه الهيئة لا بد وأن تصبح دولة؛ لما لها من حق الفصل في المنازعات؛ لأنه في هذه الحال سينطبق عليها تعريفنا للدولة؛ لأنها هيئة لا تفرض عليها أية سلطة ملزمة عليا، وهذه هي - على الأقل - نظرة المشرِّع الكلاسيكي لمشكلة القانون.

ويجب علينا ألا نحمِّل هذه النظرة معنى أكبر من المعنى التي توحي به، فهي نظرة مجردة تقوم لأغراض معينة واضحة بفصل القانون عن العدل، وتجعل من القانون الحد النهائي لمجموعة الإرادات التي لا يمكن التعدي عليها. والواقع أن المشرع في هذه الحال يسير في تحليله من الوجهة الرسمية البحثة، فهو يستثني من نطاق بحثه جميعَ الاعتبارات المتعلقة بما هو صحيح من الناحية الأخلاقية وما هو ضروري من الناحية الاجتماعية، ويقصر عبارة القانون على كل ما يصدر من إرادة منبثقة عن مصدر هذه السيادة. وهو - باعتباره مشرعًا - يرى أن المشكلة الوحيدة تتلخص فيما إذا كان صاحب السيادة قد وافق على هذا التصرف الذي لا يُعتبر تصرفًا شرعيًّا أو أنه لم يوافق عليه. ولذلك يرى ميتلاند أن أية مشكلة أخرى عدا ذلك لا تعتبر مشكلة تشريعية، فهي خارجة عن نطاق عمل المشرِّع.

ورب قائل يقول: إن العقل البشري أصبح يمقت الآن التشريع المجرد الذي يتمسك بأهداب الشكلية؛ لأن هذا اللون من التشريع يذكرنا بالجهود التي كانت تُبذل في العصور الوسطى للمطابقة بين القانون وبين الإرادة الإلهية، ويذكرنا بنظرة الرواقيين إلى القانون باعتباره صوت العقل الكامل، وبعبارة أولبيان الشهيرة التي تجعل من القانون العام الذي يختص بالفصل بين ما هو صحيح وما هو خطأ في السلوك الإنساني. ويرفض العقل أيضًا الفكرة التي تذهب إلى أن السلطة ذات السيادة تقف من وراء القانون؛ وذلك لأنه في هذه الحالة يجب النظر إلى كل قانون مهما بلغت حماقته، ومهما خالف المنطق، ومهما كان يستحق الاحتكار على أنه قانون حقيقي، وأن أحدًا ليس له الحق في الجأر بالشكوى من الظلم الذي ينطوي عليه هذا القانون. وهذا ما قاله المشرع الجيزتوي كاترين، ويسود الشعور الآن بأن القانون لا بد لكي يصبح قانونًا من أن يتفق مع شيء أكثر قوة من إرادة إحدى السلطات التي لا تقيم مطالبتها (بمراعاة الأفراد والهيئات الأخرى لها) على السلطة الملزمة التي تحت تصرفها.

وهناك ردَّان على هذا الرأي، فأي نقد في نظرية القانون البحتة يعتبر محاولة لتغيير فروضها القانونية بسبب الكراهية التي ترجع إلى النتائج التي تؤدي إليها هذه الفروض. وطبيعي أن ذلك إجراء منهجي غير كافٍ، وربما يفضل أي فرد أن يعدل عن اتباع نظرية إقليدس، بيد أن هذا التفضيل لا يدخل أي تغيير على أن إقليدس نظام قائم. ونجد أن وجهات نظر كاترين مثلًا تكون نظرية عن حقيقة الدولة بقدر ما هي تعريف للأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها. فهي تعتبر مقياسًا لتقدير ما تقوم به الدولة من أعمال، وما من شكٍّ في أننا نجد وراءها تاريخ فكرة القانون الطبيعي والبحث عن إمكانيات العدالة الشاملة، والوصول إلى هذا الهدف هو مقياس ما تقوم به من عمل مُرضٍ، بيد أنها تثير بعض المسائل التي ليست من اختصاص أحد من المحلفين؛ وذلك من الناحية الشكلية المحضة، وأن أي مجهود يُبذل لترجمة القانون في حيز العدالة يخرجه من نطاق نظرية القانون البحتة، ويدخله في ميدان الفلسفة السياسية؛ ولذلك وجب عليه أن ينظر في مسائل القيمة، ولكن الإجابة على ذلك لا يمكن معرفتها من الناحية الشكلية للقانون.

لذلك؛ وبناء على هذه النظرية نجد أن فلسفة الدولة لا تتمشى مع المشاكل التي يهتم بها المحلفون ويُولونها اهتمامهم، بيد أنها تستمد من هذا الميدان، مجموعة من الحقائق يجب عليها أن تستمر لتقويم الفروض القانونية المستمدة من علم الأخلاق لا من القانون، وهناك نجد المستوى الذي نقيس به كل العلاقات الاجتماعية. وطبيعي أن قواعد علم الأخلاق يجب أن تقوم على الخبرة التي نعرفها، أما عن أفكار الحياة الصالحة ومقاييس القيمة فيجب أن يحصل عليها الأفراد عن الطريق الاجتماعي. هؤلاء الأفراد الذين يعيشون في العالم الذي نعرفه، ولا تكاد أسس القيمة التي تؤدي عملها في اليوتوبيا (المدنية الفاضلة)؛ إلا أن تعالج معالجة جدية في عالم اليوم، ولكن لن نستفيد كثيرًا من أن مطابقة إرادتنا مع إرادة الله هي أساس العمل الصحيح في ميدان السياسة، ومعنى ذلك أنه يجب استبعاد مسألة هذا الإله الذي يجب أن تُرد إليه المسائل المتصلة بالقدم للإدارة المعترف له بها.

ولقد انهار الكومنولث المسيحي في العصور الوسطى؛ لأن تطبيق قواعد القيمة أثار عدة تفسيرات مختلفة في حدود ما إذا كان الأفراد على استعداد لقتل بعضهم البعض.

إنني أرى أنه يجب على الدولة أن تهدف إلى تحقيق رغبات مواطنيها على قدر مستطاعها وبأقصى ما يمكنها. واستنادًا إلى هذا الهدف يمكننا أن نستنبط الرغبات المتباينة التي نتبينها في المجتمعات التي نعلم عنها الشيء الكثير. ويمكننا أيضًا أن نتوصل إلى أن سبب عدم تحقيق بعض الرغبات هو أن الدولة تصل إلى غايتها بالنتائج التي يمكن أن تحققها.

فلا شك في أن أثينا القديمة مثلًا - كانت غاصَّةً بالعبيد الذين كانوا يؤمنون بأن وضعهم الاجتماعي لا يتفق مع مبادئ العدالة، ولكن يجب أن نفهم في نفس الوقت، بناء على ما بلغنا من المعلومات، أن دولة أثينا القديمة كانت ترى أن اعتمادها على العبيد كأساس لحضارتها هو أفضل سبيل يؤدي إلى الهدف الذي كانت تسعى إليه؛ لذلك أرسلت الدولة اللأثينية أسس سلطتها الإجبارية على قواعد نظام العبيد.

وينطبق هذا الكلام أيضًا على ألمانيا في عهد هتلر؛ إذ حرمت الحكومة اليهود من حقوق المواطنة مستندة إلى أنه لا يمكن أن تحقق الدولة أهدافها دون اتخاذ هذا الإجراء. والواقع أن الذين يمارسون سيادة الدولة يقيسون أغراض الدولة دائمًا بمعيار الخير الذين يقبلون على الذود عنه، ولا بد أن يكون دفاعهم عن هذا المعيار قائمًا على أساس المنطق والعقل. فلو قام دفاعهم على الوحي والإلهام أو على القوة لما أصبح له أي معنى في نظر أولئك الذين ينبذون فكرة الوحي والإلهام، ولا نكره أولئك الذين يؤمنون بأن القوة لا يمكن أن تؤدي وحدها إلى الحكم الصحيح.

ولو كان هذا صحيحًا يمكننا طبعًا أن نتوصل إلى أن يجب على الدولة أن تهدف إلى إرضاء رغبات جميع المواطنين على قدم المساواة؛ إلا إذا كان في إمكان الدولة أن تدلل بالحجة والبرهان على أن الخير بالنسبة للبعض هو في عدم معاملتهم معاملة متساوية. وعلى هذا الأساس أقام أرسطو حجته حينما دافع عن نظام العبيد عند الإغريق.

لأنه عمل يثبت أن بعض الناس عبيد بطبيعتهم؛ لأنه يدلل على أن نظام العبيد هو أفضل وسيلة تمكن العبيد من تحقيق رغباتهم في الحياة إلى أقصى حد ممكن. ويمكننا أن نعمم هذا الرأي فنقول: إنه يجب أن تسود المساواة في تحقيق رغبات الأفراد، وأن الاستثناء من قاعدة المساواة لا يمكن تبريره إلا بالدليل والمنطق على أنه عنصر ضروري من عناصر المساواة التي تهدف إليها الدولة.

وإذا لم تعمل الدولة على تبرير استثنائها فسيبدو التحيز ظاهرًا في أعمالها، كما أنها لو لم تفعل ذلك لاتضح أن الدولة لا تهدف إلى تحقيق رغبات جميع المواطنين إلى أقصى حد، وإنها تهدف لإرضاء رغبات أولئك الذين تمارس الدولة سلطتها بما هو في صالحهم. ولا بد أن يدلل أولئك الذين يمارسون إرادة الدولة والذين بأيديهم السلطة الإجبارية العليا باسم الدولة على أن إرضاء رغبات بعض المواطنين أكثر من غيرهم من شأنه تحقيق رغبات أكثر لباقي المواطنين. فحماية الدولة لنظام الملكية الفردية لوسائل الإنتاج القائم يجب أن تسفر عن تحقيق قدرٍ من رغبات الأشخاص الذين يؤثر فيهم هذا الإجراء أكثر من الرغبات التي يمكن أن تتحقق في ظل النظام البديل، مثل النظام الاشتراكي الذي تصبح فيه وسائل الإنتاج ملكًا للدولة. وإذا أمكن حدوث ذلك لأمكن تبرير التفرقة في المعاملة من حيث تحقيق رغبات الأفراد.

ويجدر بنا في هذا المجال أن نلاحظ أنه يجب على الدولة - عند تفرقتها في المعاملة - أن تقنع من شملهم الاستثناء بمزايا هذا الإجراء، فلا يمكن الاكتفاء بآراء أصحاب العبيد بما لهذا النظام من مزايا في دفاعهم عنه، ولا يكفي للدفاع عن نظام الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أن نستند إلى اعتقاد مالكي وسائل الإنتاج في أن هذا النظام يحقق أكبر فائدة للذين لا يملكون وسائل الإنتاج، فرأي هتلر فيما يتعلق بالمكان الذي يجب أن يقيم فيه اليهود في ألمانيا لا يرضى عنه اليهود، بل لعله من الصواب أيضًا أن نقول: إن المحامين والأطباء والمدرسين - في ترحيبهم بموقف هتلر - قد يكونون صادقين في حكمهم على سياسة هتلر. ولا نزاع في أنه لم تثبُت قط صحة مبدأ عدم المساواة؛ وذلك لأن مؤيدي هذا المبدأ هم الأشخاص الذين ينتفعون من ورائه؛ لذلك يجب أن ندخل في اعتبارنا أن أحكامنا في جميع الأمور المتصلة بتكوين المجتمع مبنية على اعتبارات شخصية؛ لأننا قبل إصدار هذه الأحكام نتأثر بما نعتقد أنه سينشأ عنها. ويجب أن ندخل في اعتبارنا هذه الحقيقة إذا أردنا أن تكون أحكامنا موضوعية.

ولقد صاغ هويهاوس هذه النظرية صياغة جيدة حين قال: «إنه إغراء ظاهر للتغلب على موضوع الصواب والخطأ عن طريق تنبؤات يمكن الثقة بها، وهي في الحقيقة تعتمد على ما تتكهن به الآراء أكثر من اعتمادها على السبب والمسبب.»

إن التاريخ قد كتب بفُتات من التنبؤات التي رآها الأفراد الذين ضللتهم الاستنتاجات التي استخلصوها من خبرتهم الشخصية في سبيل تقدم الحضارة وازدهارها. ولقد ذكر ماكولي لمجلس العموم أن حق التصويت العام (الانتخاب) سيزعزع دعائم المجتمع، وأصر ناسو الكبير على القول بأن القيود القانونية لساعات العمل لا تتعارض مع رخاء الصناعة البريطانية، وإننا جميعًا أسرى التجارب التي نمر بها، فهي تجبرنا دون وعي على مطابقة ما نتكهن به مع الحقيقة التي لا مفر منها، وأن نصف مآسي التغيير الاجتماعي تنبثق من عدم قدرتنا على إقناع أنفسنا بأننا ربما كنا على خطأ.

وقصارى القول أن من العسير تتبع النظرية العلمية في «السبب والمسبب» في الشئون الإنسانية، كما نتبعها مثلًا في النواحي المادية؛ لأننا عندما نحكم على الشئون الإنسانية ينبغي أن ندخل في الاعتبار العواطف والأهواء. وإننا لا نستطيع أن نحرر أنفسنا منها، فهي تؤثر في اختيارنا للفروض القانونية التي تعتمد عليها استنتاجاتنا، حتى عندما نعتقد أننا كنا نحللها تحليلًا موضوعيًّا، فالحقائق تلونها البيئة التي تعتبر جزءًا منها؛ ولذلك فإن الموضوعية التي نجدها في الطبيعة أو الكيميا لا نجدها مثلًا في هذا العالم.

وربما نسعى جميعًا بكل ما أوتينا من قوة للتمسك بالفارق بين الحقائق والأهداف التي نوافق عليها، بيد أن الصورة هنا ليست كاملة، ولكن تتفاوت درجة التحيز أو التحامل، بالرغم من وجودها دائمًا، وتظهر بوضوح؛ لأن هذا العالم ما هو إلا نسيج واحد متصل غير منفصل، وحيث إننا لا نستطيع مطلقًا أن نعزل (كما هي الحال في ميدان الطبيعة) العوامل بمثل هذه الطريقة التي يمكن بها أن نجعل بين السبب والمسبب علاقة مطلقة أو علاقة بحتة. وربما لا يجد المرء أنه من الضروري النظر في الأهداف التي من أجلها تطالب الدولة مواطنيها بطاعتها.

* مقتطف من كتاب (الدولة نظريًّا وعمليًّا) لمؤلفه هارولد ج. لاسكي

اضف تعليق