q
فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية مبذولة على الكل غير مضنون بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها لا يمكن أن يتجلى فيها شيء من الحقائق، فلا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل...

الأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتضح لها جلية الحال اتضاحا، كيف والقلوب كالأواني فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبه وأنسه، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "لولا أن الشياطين يحومون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض"، فبقدر ما تتطهر القلوب عن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحق الأول (1) وتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها"، فإن التعرض لها إنما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الردية، فكل إقبال على طاعة وإعراض عن سيئة يوجب جلاء ونورا للقلب يستعد به لإفاضة علم يقيني، ولذا قال سبحانه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت الآية: 69.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"، فالقلب إذا صفى عن الكدورات الطبيعية بالكلية يظهر له من المزايا الإلهية والإفاضات الرحمانية ما لا يمكن لأعاظم العلماء كما قال سيد الرسل: "إن لي مع الله حالات لا يحتملها ملك مقرب ولا نبي مرسل".

وكل سالك إلى الله إنما يعرف من الألطاف الإلهية والنفحات الغيبية ما ظهر له على قدر استعداده، وأما ما فوقه فلا يحيط بحقيقته علما لكن قد يصدق به إيمانا بالغيب كما إنا نؤمن بالنبوة وخواصها ونصدق بوجودها ولا نعرف حقيقتهما كما لا يعرف الجنين حال الطفل والطفل حال المميز والمسير من العوام حال العلماء والعلماء حال الأنبياء والأولياء.

فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية مبذولة على الكل غير مضنون بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها لا يمكن أن يتجلى فيها شيء من الحقائق، فلا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضاد ذلك.

ثم ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره هو العلم الحقيقي النوراني الذي لا يقبل الشك وله غاية الظهور والانجلاء لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقة الربانية، وهو المراد بقوله (ع): "إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين (ع) بقوله: "أن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه" (إلى أن قال): "قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره، وقطع غماره (2)، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الجبال بأمتنها فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس".

وفي كلام آخر له (ع) "قد أحيي قلبه وأمات نفسه، حتى دق جليله (3) ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وتثبت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى به".

وقال (ع) في وصف الراسخين من العلماء: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى".

وبالجملة ما لم يحصل للقلب التزكية لم يحصل له هذا القسم من المعرفة إذ العلم الحقيقي عبادة القلب وقربة السر، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الظاهر إلا بعد تطهيره من النجاسة الظاهرة فكذلك لا تصح عبادة الباطن إلا بعد تطهيره من النجاسة الباطنية التي هي رذائل الأخلاق وخبائث الصفات، كيف وفيضان أنوار العلوم على القلوب إنما هو بواسطة الملائكة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" فإذا كان بيت القلب مشحونا بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة لم تدخل فيه الملائكة القادسة والحكم بثبوت النجاسة الظاهرة للمشترك، مع كونه مغسول الثوب نظيف البدن، إنما هو لسراية نجاسته الباطنية، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم "بني الدين على النظافة" يتناول زوال النجاستين. وما ورد من أن الطهور نصف الإيمان المراد به طهارة الباطن عن خبائث الأخلاق، وكان النصف الآخر تحليته بشرائف الصفات وعمارته بوظائف الطاعات.

وبما ذكر ظهر أن العلم الذي يحصل من طريق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحق اسم اليقين الحقيقي الذي يحصل للنفوس الصافية، فما يظنه كثير من أهل التعلق بقاذورات الدنيا أنهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه خلاف الواقع، لأن اليقين الحقيقي يلزمه "روح" ونور وبهجة وسرور، وعدم الالتفات إلى ما سوى الله، والاستغراق في أبحر عظمة الله، وليس شيء من ذلك حاصلا لهم، فما ظنوه يقينا إما تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات.

والسر في ذلك أن منشأ العلم ومناطه هو التجرد كما بين في مقامه، فكلما تزداد النفس تجردا إيمانا ويقينا، ولا ريب في أنه ما لم ترتفع عنها أستار السيئات وحجب الخطيئات لم يحصل لها التجرد الذي هو مناط حقيقة اليقين فلا بد من المجاهدة العظيمة في التزكية والتحلية حتى تنفتح أبواب الهداية وتنضح سبل المعرفة كما قال سبحانه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

....................................
(1) المراد من الحق الأول عون الله تبارك وتعالى فكما أن الحق صفة له كذلك الأول فهو صفة بعد صفة.
(2) غمرة الشيء شدته ومزدحمة جمعه غمرات وغمار وغمر ومنه غمرات الموت أي مكارهه وشدائده.
(3) الجليل: الكبير في الحجم.

اضف تعليق