q
أن يتذكر ما في القناعة من المدح والشرافة، وعز النفس وفضيلة الحرية، وما في الحرص من الذم والمهانة، وتحمل الذلة ومتابعة الشهوة. ويعرف أن من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن، فهو قليل العقل ناقص الإيمان. ثم يتذكر ما في جميع المال من الآفات الدنيوية والعقوبات الأخروية...

الحرص وهو معنى راتب (دائم ثابت) في النفس، باعث على جميع ما لا يحتاج إليه ولا يفيده من الأموال، من دون أن ينتهي إلى حد يكتفى به، وهو أقوى شعب حب الدنيا وأشهر أنواعه. ولا ريب في كونه ملكة مهلكة وصفة مضلة، بل بادية مظلمة الأرجاء والأطراف، وهاوية غير متناهية الأعماق والأكناف، من وقع فيها ضل وباد، ومن سقط فيها هلك وما عاد.

والتجربة والاعتبار والأخبار والآثار متظاهرة على أن الحريص لا ينتهي إلى حد يقف دونه، بل لا يزال يخوض في غمرات الدنيا إلى أن يغرق، وتطرحه أرض إلى أرض حتى يهلك. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى وراءهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". وقال (صلى الله عليه وآله): "منهومان لا يشبعان: منهوم العلم، ومنهوم المال". وقال (صلى الله عليه وآله): "يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل".

وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج، حتى تموت غما". وقال الصادق (عليه السلام): "إن فيما نزل به الوحي من السماء: لو أن لابن آدم واديين يسيلان ذهبا وفضة لابتغى لهما ثالثا. يا ابن آدم، إنما بطنك بحر من البحور وواد من الأودية، لا يملأه شيء إلا التراب". وقال بعض الأكابر: "من عجيب أمر الإنسان، إنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال".

ثم ما ورد من الأخبار في ذمه أكثر من أن تحصى، ولا حاجة إلى إيرادها لاشتهارها. وقال الباقر (عليه السلام): "رب حريص على أمر قد شقي به حين أتاه، ورب كاره لأمر قد سعد به حين أتاه". وأي خسران أشد من أن يسعى الإنسان في طلب به هلاكه؟ وأي تأمل في أن كلما يحرص عليه الإنسان من أموال الدنيا يكون مهلكا له؟!

القناعة ضد الحرص

القناعة وهي ملكة للنفس: توجب الاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة من المال، من دون سعي وتعب في طلب الزائد عنه، وهي صفة فاضلة يتوقف عليها كسب سائر الفضائل، وعدمها يؤدي بالعبدإلى مساوي الأخلاق والرذائل، وهي المظنة للوصول إلى المقصد، وأعظم الوسائل لتحصيل سعادة الأبد، إذ من قنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس، ويقتصر على أقله قدرا أو أخسه نوعا، ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره، ولا يشغل قلبه بالزائد عن ذلك، كان فارغ البال مجتمع الهم فيتمكن من الاشتغال بأمر الدين وسلوك طريق الآخرة، ومن فاتته القناعة وتدنس بالحرص والطمع وطول الأمل، وخاض في غمرات الدنيا، تفرق قلبه وتشتت أمره. فكيف يمكنه التشمر لتحصيل أمر الدين والوصول إلى درجات المتقين؟

ولذلك ورد في مدح القناعة ما ورد من الأخبار، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به وقال: "ما من أحد، من غني ولا فقير، إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتا في الدنيا". وقال (عليه السلام) -: "أيها الناس، أجملوا في الطلب، فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له في الدنيا، وأن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا وهي راغمة". وقال (صلى الله عليه وآله) "نفث روح القدس في روعى: إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقال (صلى الله عليه وآله): "كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قانعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا"، وفي الخبر القدسي "يا ابن آدم، لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، فإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك، فأنا إليك محسن".

وروي: "إن موسى سأل ربه تعالى، وقال: أي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم لما أعطيته". وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ابن آدم، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك"، وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): "إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم" التوبة، 56. وقال: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا" طه، 131.

فإن دخلك من ذلك شيء، فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنما كان قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف إذا وجده"، وقال: "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس". وقال الصادق (عليه السلام) "من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله عنه باليسير من العمل"، وقال: " مكتوب في التوراة: ابن آدم، كن كيف شئت كما تدين تدان، من رضي من الله بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤنته وزكت مكسبته وخرج من حد الفجور"، وقال: "إن الله عز وجل يقول: يحزن عبدي المؤمن إن قترت عليه، وذلك أقرب له مني، ويفرح عبدي المؤمن إن وسعت عليه، وذلك أبعد له مني"، وقال: " كلما ازداد العبد إيمانا ازداد ضيقا في معيشته". والأخبار الواردة في فضيلة القناعة أكثر من أن تحصى، وما أوردناه كاف لأهل البصيرة.

علاج الحرص

طريق المعالجة في إزالة الحرص وتحصيل القناعة: أن يتذكر أولا ما في القناعة من المدح والشرافة، وعز النفس وفضيلة الحرية، وما في الحرص من الذم والمهانة، وتحمل الذلة ومتابعة الشهوة. ويعرف أن من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن، فهو قليل العقل ناقص الإيمان. ثم يتذكر ما في جميع المال من الآفات الدنيوية والعقوبات الأخروية، ويكثر التأمل فيما مضى عليه عظماء الخلق وأعز أصنافهم، أعني الأنبياء والأوصياء ومن سار بسيرتهم من السلف الأتقياء، من صبرهم على القليل، وقناعتهم باليسير، وفيما يجري عليه الكفار... وأراذل الناس وأغنيائهم وأمثالهم، من التنعم وجمع المال الكثير. وبعد هذا التأمل لا أظنه يشك في أن الاقتداء بأعز الخلائق أحسن من الاقتداء بأراذلهم، بل المتأمل يعرف أن الحريص المتكالب على لذات الدنيا خارج عن أفق الإنسانية، وداخل في جريدة البهائم إذ الحرص على شهوات البطن والفرج من لوازم البهيمية وأحرص الناس على الشهوات لا يبلغ رتبة البهائم في ذلك.

فما من حريص على التنعم في البطن إلا والحمار أكثر أكلا منه، وما من حريص على الجماع إلا والخنزير أشد نزوا منه. فظهر أن الحريص في مرتبة الخنزير والحمار واليهود والهندو، والقانع لا يساهمه في الرتبة إلا الأنبياء والأولياء. وبعد التأمل في جميع ما ذكر، يتم العلاج العلمي، وبه تسهل إزالة الحرص واكتساب القناعة.

فليبادر إلى العلاج العملي، وهو العمل بالاقتصاد في أمر المعيشة، ليسد أبواب الخرج ما أمكن، ورد النفس إلى ما لا بد منه. فإن من كثر خرجه واتسع إنفاقه، لم تمكنه القناعة، فإن كان وحده، اكتفى بثوب خشن، ويقنع بأي طعام كان ويقلل من الأدام ما أمكنه، وهكذا الحال في سائر ما يضطر إليه ويوطن نفسه عليه. وإن كان له عيال رد كل واحد منهم إلى هذا القدر. وإذا بنى أمره على الاقتصاد، لم يحتاج إلى كثير جهد وإن كان معيلا. قال رسول (صلى الله عليه وآله) "ما عال من اقتصد". وقال (صلى الله عليه وآله): "ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغناء والفقر، والعدل في الرضا والغضب"، وقال: "التدبير نصف المعيشة". وقال: "من اقتصد أغناه الله، ومن بذر أفقره الله". وقال: "الاقتصاد، وحسن الصمت، والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءا من النبوة". وقال أمير المؤمنين عليه السلام "القصد مثراة والسرف متواة" (كلاهما بكسر الميم: اسم آلة من الثروة، والتوى بالمثناة بمعنى الهلاك والتلف).

وقال السجاد عليه السلام: "لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف، ويقدم منه الفضل لآخرته، فإن ذلك أبقى للنعمة، وأقرب إلى المزيد من الله تعالى، وأنفع في العافية". وقال الصادق عليه السلام: "إن القصد أمر يحبه الله، وإن السرف أمر يبغضه الله، حتى طرحك النواة، فإنها تصلح لشيء، وحتى صبك فضل شرابك".

وقال (عليه السلام) "ضمنت لمن أقصد ألا يفتقر"، وقال (عليه السلام): "إن السرف يورث الفقر، وإن القصد يورث الغناء" والأخبار في مدح الاقتصاد أكثر من أن تحصى.

ثم إذا تيسرت له المعيشة في الحال، فلا ينبغي أن يكون مضطربا لأجل الاستقبال، ويعتمد على فضل الله ووعده بأن الرزق الذي قدر له يأتيه وإن لم يكن حريصا ولا مضطربا لأجله ولا يعلم لنفسه مدخلا يأتي رزقه منه وقال الله تعالى:

"وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" هود، 6.

وقال: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب" الطلاق، 2 - 3.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب".

ثم ينبغي ألا ينظر إلى من هو فوقه، بل ينظر إلى من هو دونه في التنعم وفي مال الدنيا، فإن الشيطان يصرف نظره في أمر الدنيا إلى من هو فوقه ويقول: لم تفتر عن طلب الدنيا وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس ويصرف نظره في أمر الدين إلى من هو دونه، ويقول: لم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك ولا يخاف الله؟ قال أبو ذر (ره): " أوصاني خليلي رسول الله أن أنظر إلى من هو دوني، لا إلى من هو فوقي في الدنيا وقال (صلى الله عليه وآله): إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".

* مقتبس بتصرف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

اضف تعليق