بينما تواجه اقتصادات الأسواق الناشئة تحديات مماثلة، بما في ذلك معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض قيمة العملة، فإنها تتمتع في عموم الأمر بآفاق نمو أفضل من الاقتصادات المتقدمة. مع ذلك، سوف يعمل الطلب الضعيف في مختلف أنحاء العالم والظروف المالية الأكثر إحكاما على زيادة الضغوط المفروضة على الاقتصادات النامية...
بقلم: إسوار براساد

إيثاكا ــ لقد نَـفَـدَ زخم التعافي الذي شهده العالم بعد جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). يُـظـهِـر آخر تحديث لمؤشرات بروكنجز/فايننشال تايمز لتتبع التعافي الاقتصادي العالمي (TIGER) أن زخم النمو تدهور بشكل ملحوظ في مختلف أنحاء العالم في الأشهر الأخيرة، ومعه تدهورت مؤشرات الأسواق المالية والثقة. ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي وسط حالة متنامية من انعدام اليقين والمخاطر المتعاظمة، أصبحت العديد من البلدان إما على وشك الانهيار أو انهارت صراحة.

بعض الجراح جلبها أصحابها على أنفسهم. فقد تسببت استراتيجية خفض الإصابات بعدوى كوفيد إلى الصِـفر في الصين، و"الميزانية المصغرة" المتهورة في المملكة المتحدة، في زيادة صعوبة استجابة صناع السياسات لارتباكات سلاسل التوريد المستمرة والحرب المطولة في أوكرانيا. كما يعمل التضخم المرتفع المستمر في مختلف أنحاء العالم، والتدابير التي اتخذتها البنوك المركزية لكبح جماحه، على تثبيط النشاط الاقتصادي، وإضعاف ثقة الأسر والشركات، وتعكير صفو الأسواق المالية.

في اقتصادات متقدمة كبرى مثل منطقة اليورو، واليابان، والمملكة المتحدة، تسببت الاستجابات السياسية المتكاسلة الفاترة في تعقيد ومضاعفة التأثيرات المترتبة على صدمات خارجية، مما أدى إلى انحراف مسارات النمو. نتيجة لهذا، تواجه بلدان عديدة متقدمة التحديات التي اتسمت بها لمدة طويلة فترات من الضغوط الاقتصادية والمالية في اقتصادات الأسواق الناشئة: الانخفاض الحاد في قيمة العملة (مقابل الدولار الأميركي)، وارتفاع عائدات السندات الحكومية، وإجهاد الموارد المالية العامة، واشتداد قيود السياسات.

من جانبه، يعج الاقتصاد الأميركي بإشارات متضاربة. على الجانب الإيجابي، لا يزال الطلب الاستهلاكي قويا، كما استمر تشغيل العمالة في النمو بوتيرة صحية معقولة. في الوقت ذاته، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي هزيلا في حين يظل التضخم مرتفعا بكل المقاييس، مما يترك لبنك الاحتياطي الفيدرالي أقل فرصة لاختيار أي شيء غير المزيد من رفع أسعار الفائدة، على الرغم من الظروف المالية المتزايدة الإحكام نتيجة للدولار القوي وانخفاض أسعار الأصول.

في أوروبا، تغذي ارتباكات إمدادات الطاقة التضخم وتقيد النمو، مما يؤجج المخاوف من نقص الطاقة في الشتاء ويقوض ثقة القطاع الخاص. ويُـعَـد الهبوط الشديد الذي طرأ مؤخرا على قيمة الجنيه الإسترليني رمزا للتحديات العديدة التي تواجه اقتصاد المملكة المتحدة، بما في ذلك الظروف الخارجية المعاكسة. وفي العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، قد تتسبب السياسات الشعبوية في زيادة مخاطر انعدام الاستقرار الضريبي والمالي.

اليابان هي الدولة الوحيدة بين الاقتصادات المتقدمة الرئيسية التي تتمتع بِـتَـرَف الإبقاء على سياسة نقدية متساهلة، بفضل معدل التضخم المنخفض لديها. وهذا من الممكن أن يساعدها في الحفاظ على نمو مستقر وإن كان منخفضا، حيث لم يخلف انخفاض قيمة الين السريع أي تأثير سلبي يُـذكَر حتى الآن.

بينما تواجه اقتصادات الأسواق الناشئة تحديات مماثلة، بما في ذلك معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض قيمة العملة، فإنها تتمتع في عموم الأمر بآفاق نمو أفضل من الاقتصادات المتقدمة. مع ذلك، سوف يعمل الطلب الضعيف في مختلف أنحاء العالم والظروف المالية الأكثر إحكاما على زيادة الضغوط المفروضة على الاقتصادات النامية التي تعاني من عجز في الحساب الجاري. ولكن باستثناء حالات قليلة مثل تركيا، وسريلانكا، وفنزويلا ــ حيث عَـجَّـلَ تفشي سوء الإدارة الاقتصادية بانهيار العملة ــ لا يبدو أن أغلب الاقتصادات الناشئة تتجه نحو أزمة ميزان المدفوعات.

مع ذلك، تواجه الصين مجموعة كبيرة من المشكلات الناتجة عن التزام الحكومة الصارم بسياسة خفض الإصابات بكوفيد-19 إلى الصفر، فضلا عن قطاع العقارات المتعثر، والضغوط غير المحتملة التي يفرضها النظام المالي. وبرغم أن التضخم لا يزال تحت السيطرة، فقد تسبب انخفاض قيمة الرنمينبي مقابل الدولار الأميركي في الحد من قدرة بنك الشعب الصيني على خفض أسعار الفائدة. نفذت الحكومة وبنك الشعب الصيني العديد من تدابير التحفيز المالي والنقدي، لكنها خلفت تأثيرا محدودا على الاستهلاك الشخصي والاستثمار. من المرجح أيضا أن يكون نمو الصادرات مقيدا بسبب ضعف الطلب العالمي.

من ناحية أخرى، يظل اقتصاد الهند يشكل نقطة مضيئة. فمن المرجح أن تسجل الهند نموا قويا هذا العام وفي عام 2023 مع ارتفاع الصادرات بسبب انخفاض قيمة الروبية والتأثيرات المفيدة المترتبة على الإصلاحات التي جرى تنفيذها في السنوات الأخيرة. لكن كفاح بنك الاحتياطي الهندي المتواصل لكبح جماح التضخم كان عاملا مقيدا.

في ذات الوقت، تضرر الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضتها القوى الغربية منذ غزت روسيا أوكرانيا، برغم أن ارتفاع عائدات التصدير وضعف الواردات عملا على تخفيف الضربة من خلال تعزيز قوة الروبل. وكان أداء عملات أميركا اللاتينية طيبا بدرجة مدهشة هذا العام، لكن البرازيل والعديد من البلدان الأخرى في المنطقة تواجه بيئة سياسية عصيبة، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف الطلب المحلي والنمو، ودفع المستثمرين الأجانب إلى الفرار، وتفاقم حالة عدم الاستقرار الاقتصادي.

لم تَـعُـد الحكومات والبنوك المركزية تتمتع بترف السعي إلى تحقيق هدف استقرار النمو والتعويض عن الصدمات السلبية بالاستعانة بالحوافز المالية والنقدية غير المقيدة. في أقل تقدير، يتعين على الحكومات أن تتجنب التدابير المالية الرديئة التوجيه وغير ذلك من السياسات الشعبوية غير المفيدة، وأن تبذل قصارى جهدها للتغلب على اختناقات العرض، وأن تدعم البنوك المركزية في سعيها الحثيث لاستعادة استقرار الأسعار. الواقع أن أي استجابة سياسية غير فَـعّـالة من شأنها أن تعرض للخطر أولئك الأشد تضررا من زيادات أسعار الغذاء والطاقة: الاقتصادات الأكثر فقرا في العالم والأسر الأشد فقرا في كل بلد.

مع توفر حيز ضئيل للمناورة، يتعين على صناع السياسيات أن يعكفوا على تنسيق تدابير مالية ونقدية للتخفيف من الضغوط التضخمية في الأمد القريب والتركيز على الإصلاحات الكفيلة بتحسين النمو في الأمد البعيد. بالإضافة إلى تخفيف القيود المرتبطة بالمعروض من العمالة والقيود التجارية، يتعين عليهم أن يعملوا على خلق الحوافز للاستثمار في التكنولوجيات الخضراء وغير ذلك من أشكال البنية الأساسية. هذه التدابير شديدة الأهمية لدعم طلب القطاع الخاص والثقة في الأمد القريب وإعادة تثبيت توقعات التضخم.

ساهم آريان خانا في كتابة هذا العمود.

* إسوار براساد، أستاذ الاقتصاد بجامعة كورنيل، وزميل أقدم في معهد بروكينغز. وهو مؤلف كتاب "الحصول على العملة: صعود الرنمينبي"، وكتاب مستقبل النقود: كيف تعمل الثورة الرقمية على تغيير العملات والتمويل.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق