الاقتصاد الذي يوجد لدينا يدمّر صحتنا ورفاهيتنا فلقد أطلق العنان للإبداع البشري، وخلق الثروة المالية، وانتشل المليارات من الناس من براثن الفقر ولكنه أضر كذلك بالأنظمة البيئية وفاقم عدم المساواة الاجتماعية خلال السنة الأولى من أزمة كوفيد تم خسارة أكثر من 114 مليون وظيفة والأكثر غنى بالعالم أغنى بمقدار 5 تريليون...
بقلم: رينزو جينتو

مانيلا- في بداية جائحة كوفيد-19، نسج المحللون والنقاد الرؤى عن كيف ستعيد الأزمة تشكيل الاقتصاد العالمي وبشّر كثيرون بفرصة حدوث تحول في أنظمتنا المالية وسلاسل التوريد وأساليب العمل ولقد كانت الرسالة بشكل عام هي ان المستقبل ما بعد الجائحة سوف يكون أكثر خضرة وصحة وعدالة.

الآن وبعد سنتين تقريبا من بدء الجائحة، تلاشت الاثارة حول انشاء "وضع اعتيادي جديد" من الناحية الاقتصادية فبخلاف بعض الاغلاقات ولبس الكمامات في بعض الأحيان، فلقد رجع العالم الى حد كبير الى الوضع السابق. لقد كان يتم مرارا وتكرارا وصف المعركة ضد الجائحة بإنها "حرب" ولكن لم تحصل تغيرات جذرية تشبه الحشد أيام الحرب بل على العكس من ذلك كانت الاستجابة العالمية للجائحة تتوافق مع المعايير الاقتصادية لفترة ما قبل الجائحة وعلى الرغم من الدعوات العاجلة لتوفير اللقاح للناس والدعوات المتكررة للمساواة في توزيع اللقاحات، فإن أحكام السوق هيمنت على توزيع اللقاحات واستمرت الصناعة الدوائية في عملها بدون أي إصلاحات.

بالمثل، يستمر صناع السياسات في التصرف وكأن العالم ليس مشتعلًا على حد تعبير غريتا ثونبرج. لقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التقرير الأخير الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بأنه "إشارة الخطر الحمراء للبشرية" ومع ذلك فإن المساهمات المحددة وطنيا الحالية للبلدان بموجب الإطار الذي تم وضعه من قبل اتفاقية باريس للمناخ سنة 2015 تعتبر غير كافية لتحقيق هدف اتفاقية باريس في الحد من ارتفاع درجات الحرارة عالميا بحيث لا تزيد عن 1،5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة.

ان مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (مؤتمر الأطراف 26) الذي يجري حاليا في غلاسكو هو الرافعة الأقرب المتاحة حاليا فيما يتعلق بالسياسات، لكن نظام المناخ العالمي يحتاج ان نتجاوز الالتزامات الطوعية من اجل تخفيض الانبعاثات وان يتم الوفاء بوعد الدول الغنية لتوفير المساعدة المالية للناس الأكثر فقرا وضعفا على مستوى العالم.

انا لست اقتصاديا، بل انا طبيب مختص في مجال جديد اسمه "صحة الكوكب" والذي يركّز على الروابط بين رفاهية وصحة البشر والكوكب. ان الفرضية الأساسية لصحة الكوكب واضحة ومباشرة وهي تتمثل في أن حماية وتحسين صحتنا تتطلب التصدي للأسباب الكامنة لأمراض البشر والضرر في النظام البيئي بشكل متزامن.

ان الاقتصاد الذي يوجد لدينا اليوم يدمّر صحتنا ورفاهيتنا فلقد أطلق العنان للإبداع البشري، وخلق الثروة المالية، وانتشل المليارات من الناس من براثن الفقر ولكنه أضر كذلك بالأنظمة البيئية وفاقم عدم المساواة الاجتماعية علما أنه خلال السنة الأولى من أزمة كوفيد-19 تم خسارة أكثر من 114 مليون وظيفة بينما أصبح الناس الأكثر غنى بالعالم أغنى بمقدار 5 تريليون امريكي مقارنة بالفترة التي سبقت الجائحة. ان اقتصادنا الحالي بمساهمته في تسريع التغير المناخي وخسارة التنوع البيئي يعرّض للخطر قدرة الأجيال المستقبلية على البقاء والازدهار وأنا كطبيب مختص في صحة الكوكب أرى ان علاج هذا المرض هو اقتصادي وليس طبي.

لقد شهدنا خلال الجائحة زيادة دراماتيكية في استخدام مستلزمات الحماية الشخصية -كمامات ودروع الوجه والقفازات والرداء الذي يشبه ما يرتديه رواد الفضاء -ولكن حتى نحصل على تعافي حقيقي فنحن بحاجة أيضا الى نوع مختلف من مستلزمات الحماية الشخصية يتمثل في اقتصاد يرتكز على البشر والكوكب ونظرا لإن التغير المناخي والاشكال الأخرى من الضرر البيئي تزيد من احتمالية وقوع الجوائح المستقبلية فإن هذا النوع من مستلزمات الحماية الشخصية لن يحررنا من هذه الازمة فقط. أن الهدف الذي وضعته اللجنة المستقلة للتأهب والاستجابة التابعة لمنظمة الصحة العالمية –جعل كوفيد-19 آخر جائحة من نوعها- يعتمد على ذلك.

ان اقتصاد يرتكز على البشر والكوكب هو اقتصاد يسعى لتحقيق صحة ورفاهية كوكب الأرض برمته. ان مثل هذا الاقتصاد لديه احترام عميق لحدود الكوكب مثل حد درجة الحرارة المنصوص عليه في اتفاقية باريس. ان مثل هذا الاقتصاد يعمل على تلبية الاحتياجات اليومية الأساسية لجميع الناس -على سبيل المثال من خلال أنظمة الرعاية الصحية العالمية والسياسات الاجتماعية لإعادة التوزيع. ان مقاييس النجاح لمثل هذا النوع من مستلزمات الحماية الشخصية ليس الناتج المحلي الإجمالي او نصيب الفرد من الدخل بل قدرة الأطفال على النمو للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة أو استعادة الأنواع المهددة بالانقراض.

تم بالفعل اقتراح مثال على مثل هذا النوع من معدات الحماية الشخصية من قبل كيت راوورث وعلى عكس النموذج الاقتصادي الحالي مع منحنيات العرض والطلب غير المحدودة، فإن اقتصاد الدونات لراوورث يتصور "مساحة آمنة وعادلة للبشرية" لا تتجاوز حدود الكوكب ولا تقصّر في تلبية احتياجات المجتمع الأساسية.

لقد التزمت مدينة أمستردام في وقت مبكر من الجائحة بتبني اقتصاد الدونات كنموذج اقتصادي لمرحلة ما بعد الجائحة ومنذ ذلك الحين قامت المدينة بتطبيق مشاريع وسياسات تتراوح من الاستخدام الدائري للمواد في تشييد المباني إلى إصلاحات صناعة الأزياء المحلية. ان التحدي التالي هو تطبيق هذا النموذج على البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لضمان تلبية احتياجات مجتمعهم دون تجاوز حدود الكوكب.

لقد دخلنا "العقد الحاسم". لقد بقيت تسع سنوات قبل أن نصل للمواعيد النهائية التي حددتها اتفاقية باريس وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة ويجب علينا استخدام هذه الفترة الحاسمة لتصميم اقتصاد يرتكز بحق على أساس البشر والكوكب. يلعب مجتمع صحة الكوكب المتنامي دورًا مهمًا في إيجاد بديل يساعدنا في التغلب على الجائحة وتحقيق الأهداف التي وضعناها لأنفسنا كحضارة في نهاية المطاف.

* رينزو جينتو، كبير علماء صحة الكواكب في مركز صنواي لصحة الكواكب في ماليزيا، هو المدير الافتتاحي لبرنامج الصحة العالمية والكواكب في كلية الطب بمركز سانت لوك الطبي في الفلبين.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق