ان الاعتماد على مورد واحد يفرض ملازمة ريعية تجعل من الدورة الاقتصادية قلقة ومتقلبة وبعيدة عن سمة الاستقرار، وان الخطر الحقيقي لهذا التقلب هو ربط اقتصاد البلد بتقلبات السوق سواءً داخلياً من خلال العوامل الداخلية العديدة مثل زيادة السكان بمقابل ثبات الطاقة الإنتاجية، او التقلبات...

إن النظرة الموضوعية المبنية على المعطيات الواقعية، تؤكد على وجود علاقة طردية بين حجم ايرادات الدولة وحجم الانفاق الحكومي، وإن هذا الانفاق هو الراسم للحدود المالية والاقتصادية للدولة، وان الرؤيا المباشرة تشير الى ضرورة تعظيم هذه الايرادات، لغرض المضي بالعملية التنموية وعلى كافة المجالات الاقتصادية.

لكن الواقع الذي يعيشه البلد يفرض امراً مغايراً لهذه البديهة التقليدية، كون العراق يعتمد في ايراداته على الجانب الريعي النفطي كمصدر رئيسي ووحيد لرفد موازناته العمومية في العقود الأخيرة.

اذ يشكل النفط ما يقارب 65% من الناتج المحلي الاجمالي، وترفد ايراداته موازنة الدولة بما يقارب من 90% من قيمتها، مهملاً بذلك باقي قطاعات الدولة سواء كانت زراعية او صناعية او تحويلية او خدمية، وهذا ما يطلق عليه في الادبيات الاقتصادية النهج الريعي، وعلى مثل هذا البلد الدولة الريعية.

ان هذا التوجه قادنا إلى دائرة مغلقة مبنية على ثلاث محاور رئيسية، الاول هو الاعتماد على الريع النفطي في تمويل الانفاق الحكومي، والثاني هو اهمال باقي القطاعات الانتاجية والزراعية والتحويلية وغيرها، والثالث هو النمو السكاني المتزايد والمؤدي الى زيادة الاعتماد على الريع مرة اخر.

لقد اطال الاقتصاديون البحث والتنظير والدراسة لوضع الاسس النظرية للخروج من هذه الدائرة وكسر طوق التلازم الريعي، وخرجوا بالعديد من الافكار والنظريات وكان احد هذه الاساليب هو التنوع الاقتصادي والذي عرفه الاستاذ حامد عبدالحسين الجبوري بأنه "عمليه تنويع هيكل الانتاج بخلق وتطوير قطاعات مولدة للدخل تعمل على دعم واسناد القطاع الرئيسي في الاقتصاد بحيث ينخفض الاعتماد الكلي على الايرادات الريعية".

ان الاعتماد على مورد واحد يفرض ملازمة ريعية تجعل من الدورة الاقتصادية قلقة ومتقلبة وبعيدة عن سمة الاستقرار، وان الخطر الحقيقي لهذا التقلب هو ربط اقتصاد البلد بتقلبات السوق سواءً داخلياً من خلال العوامل الداخلية العديدة مثل زيادة السكان بمقابل ثبات الطاقة الإنتاجية، او التقلبات الخارجية المتمثلة بتقلبات اسعار النفط عالميا نتيجة العرض والطلب او زيادة الانتاج العالمي وغيرها، وان مثل هذه التقلبات حاصلة لا محالة في كل فترة زمنية، لذا فإن تعرض الاقتصاد المحلي لهذه الهزات هي مساله وقت لا غير، وان الدرع الحصين من هذه الازمات هو التنوع الاقتصادي، بما يوفر من مرونة للتكييف مع تغيرات الظروف وتقلباتها، اذ يعمل على تحقيق جملة من الاهداف الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية والسياسية.

فعلى المستوى الاقتصادي يهدف التنوع الى تعدد طرق ووسائل الدخل القومي، والتركيز على بناء قطاع خاص متكامل يأخذ على عاتقه القيام بالعملية التنموية من خلال المشاركة الحقيقية مع قطاعات الدولة ووضع حد لسلسلة المشاريع العامة والاعمال التي لم تجني الدولة منها سوى الخسارة سواءً على مستوى الارباح او على مستوى رفد السوق بالمنتج المحلي الذي لم يبقى منه سوى الاطلال والانتقال بالبلد الى اقتصاد السوق حتى يمكن تلافي وتعويض ما يمكن ان تؤديه الازمات في حاله إذا كان المصدر وحيد.

ان التنوع المنشود يعمل بأكثر من آلية ويترك اكثر من اثر فبالإضافة للأثر الاقتصادي فان تنشيط انتاج السلع والخدمات يعمل بدوره الى تشغيل العمالة، وتوظيفها في عمليه الانتاج، وعلى خلاف الانتاج النفطي الذي يوصف انه كثيف راس المال لا يستوعب سوى 1% من الايد العاملة فعلى سبيل المثال فإن شركة نفط الجنوب التي تعتبر عملاقة الانتاج النفطي العراقي وترفد خزينة الدولة بمليارات الدولارات سنويا لاتشغل سوى 35 الف من الايد العاملة في وقت الذي تجاوز عدد العمال والموظفين العراقيين في باقي قطاعات الدولة 3.5 مليون مابين موظف وعامل، في الوقت الذي فيه باقي قطعات الانتاج وخصوصا الانتاج الزراعي والصناعي تعمل على توظيف اكبر عدد ممكن من الايد العاملة قد يتجاوز هذا الرقم بعشرات الاضعاف، وبما يضمن انحسار ظاهرة البطالة ومعالجتها، الامر الذي ينعكس ايجابيا في تحقيق الاهداف الاجتماعية للتنمية، بل إنه قد يكون احد الاسباب الرئيسية لتحقيق الاستقرار الامني المنشود، من خلال توفير فرص عمل للشباب تبعدهم عن التطرف وتحرم الجماعات الإرهابية من الولوج الى عقولهم باستغلال العوز المادي الذي يخلفه انتشار البطالة بين الفئات العمرية.

ان البديل عن التنوع الاقتصادي هو التركيز على الريع النفطي وهذا بحد ذاته هو خلل في هيكلية الميزان التجاري العراقي اذ ان تصدير سلعة واحدة والاعتماد الكامل عليها في تلبية المتطلبات المحلية يعتبر استنزاف للثروات الطبيعية اكثر منه تبادل تجاري، وان اثارها السلبية قد تلقي بتبعاتها على الاجيال القادمة من خلال استنزاف هذه الموارد الطبيعية، وحرمان الاجيال القادمة من التمتع بهبات الطبيعة من جهة، وتوريثهم اعباء اقتصادية، تتمثل بتضخم مصروفات الدولة في مقابل محدودية الموارد التي سبق ان تم استنزافها قد يصعب عليهم معالجتها والتعامل معها بإيجابية من جهة أخرى.

وفي خضم هذه الاشكاليات الاقتصادية والاجتماعية يبرز دور التنوع الاقتصادي، في خلق واقع السياسي متوازن وبعيد عن التبعية السياسية للخارج، اذ ان الاعتماد على النفط كمصدر وحيد لواردات الدولة، وترك الباب مفتوح امام الاستيراد ليجتاح الاسواق المحلية، كنتيجة حتمية لضعف القطاعات الصناعية والزراعية والإنتاجية وباقي القطاعات مع غياب القطاع الخاص كعامل اساسي للتنمية الصناعية، يجعل البلاد رهينة بالأهواء والمصالح الخارجية، فإن اي قرار بمنع تصدير سلعة ما الى العراق يدخل البلد في دوامة من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، قد تشكل ورقة ضغط بيد القوى الخارجية تستخدم لتطويع المواقف الوطنية للصالح الخارجي، وان عدم الاستقلال الاقتصادي سيؤدي الى خانة التبعية السياسية بالإضافة الى التبعية الاقتصادية.

وعلى ماتقدم فان البلد الذي يملك التنوع الاقتصادي يستطيع تجنب او التقليل من الاثار الجانبية للازمات الاقتصادية الداخلية والخارجية، وتحقيق التوازن الاجتماعي بين ابناء الجيل الواحد والاجيال القادمة، وبما يضمن العدالة في توزيع الموارد الطبيعية، وان هذه العوامل المتضافرة تعد روافد رئيسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.

ان ضرورة التنوع الاقتصادي يفرض نفسه كضرورة يصعب تجاهلها، وان الافرازات الاقتصادية والدولية الاخيرة والمتمثلة بالانهيار الاخير لأسعار النفط وعلى المستوى العالمي في عام 2014 وما تبعها من ازمة مالية جعل من تحقيق هذا الهدف اولوية قصوى، ولتحقيق هذه الاهداف هناك عدة عوامل يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار كمدخل رئيسي لهذا التنوع المنشود، واذكر منها:

1. العمل على ايجاد نقطة التقاء سياسي تتفق عليها كل الجهات اللاعبة في المشهد السياسي العراقي والاتفاق على تغليب الصالح العام على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة والتأسيس لبيئة عمل سليمة.

2. الضرب بيد من حديد على أذرع الفساد المالي والإداري وتأسيس لبيئة عمل مغايرة للواقع البيروقراطي الذي اجتاح كل مؤسسات الدولة.

3. العمل على اصدار حزمة من التشريعات والقوانين المالية والادارية والمصرفية الجالبة للاستثمار الاجنبي.

4. دعم القطاع الخاص للقيام بمسؤوليته في تحريك عجلة البناء للتأسيس لبيئة عمل سليمة بمشاركة القطاع العام او بصورة منفردة.

5. تأسيس الصندوق السيادي كداعم حقيقي للواقع الاقتصادي يوضع فيه جزء من عائدات تصدير النفط يعمل كدرع رصين في وقت الازمات ويضمن عدالة التوزيع للأجيال القادمة.

* باحث اقتصادي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق