تناولت الصحافة مشكلة الكهرباء كثيرا واتخذتها الاحزاب موضوعا للتنافس السياسي، لكن بلغة الشكوى والتبرير والتحريض على حساب فهم الموضوع بلغته وسبل العلاج ضمن الامكانات الاقتصادية والفرص الموضوعية للإصلاح.

ولقد تراكم أثر نمو السكان مع التحول نحو استخدام المزيد من الكهرباء في طراز المعيشة وانظمة الاتصالات والمعلومات ليرتفع الطلب نحو مستويات لم تنجح وزارة الكهرباء في مجاراتها. وان تجربة الاستثمار في توليد ونقل وتوزيع الكهرباء وتكاليف هذه العمليات بحاجة ماسة الى مراجعة جادة.

ونقدم في الآتي بعض المؤشرات الاولية للمهتمين في الموضوع:

كان متوسط توليد الكهرباء للفرد في العالم، عام 2015، تقريبا 3.29 ميغاواط ساعة، وفي العراق 2.64 ميغاواط ساعة عام 2014 ما يعادل 80 بالمائة من المتوسط العالمي وذلك للعراق عدا كردستان. وتتفاوت الدول في استهلاك الكهرباء وتوليدها تبعا لمستويات الدخل وبنية الانتاج. وعلى سبيل المثال متوسط توليد الكهرباء للفرد في السويد 17.55 ميغاواط ساعة للفرد يعادل 533 بالمائة من المتوسط العالمي، بينما في الهند 1.02 ميغاواط ساعة بنسبة 31 بالمائة من المتوسط العالمي. وعادة يتباطأ نمو الكهرباء، توليدا واستهلاكا، في الدول المتقدمة ويتسارع في الدول النامية، بحسب معدلات نموها الاقتصادي، على مسار لحاقها بالدول المتطورة.

ولذلك نجد معدل نمو مجموع الكهرباء المولدة في الولايات المتحدة والسويد قريبا من الصفر بين عامي 2005 و2015 وسالبا في اليابان لنفس الفترة. بينما في الصين والهند كانت معدلات النمو السنوية المركبة للكهرباء المولدة 8.8 بالمائة و6.6 بالمائة على التوالي لنفس الفترة. والصين تجاوزت المتوسط العالمي للفرد في الكهرباء بنسبة 26 بالمائة، واصبحت الدولة الاولى لإنتاج الكهرباء في العالم لكنها لازالت ادنى من ثلث مستوى الاستهلاك الامريكي للفرد.

وفي المنطقة تركيا وايران قريبة من المتوسط العالمي، بينما السعودية والامارات 334 بالمائة و392 بالمائة من المتوسط العالمي للفرد وانجزتا نموا سنويا في مجموع الكهرباء المولدة 6.4 بالمائة و7.4 بالمائة لفترة المقارنة آنفة الذكر.

كانت الكهرباء المجهزة من وزارة الكهرباء في العراق 28.4 مليون ميغاواط ساعة عام 1990 اصبحت 35.6 مليون ميغاواط ساعة عام 2002 ثم 80.2 مليون ميغاواط ساعة عام 2014. ومعدلات النمو السنوية 1.9 بالمائة للفترة الاولى و7 بالمائة بين سنتي 2002 و2014. ومن المعروف ان التجهيز الرسمي للكهرباء أدني من الطلب بفارق جوهري حيث يمكن القول دون تردد ان مشكلة الكهرباء باقية. خاصة وان الطلب الحالي الذي يعجز انتاج وزارة الكهرباء عن مواجهته هو استهلاكي اساسا وللقطاع الاسري بصفة رئيسية. وعند نهوض انتاج الصناعة التحويلية، والنشاط السلعي عموما، سوف تتسع الفجوة الى مستويات مربكة، هذا اذا ما سلمنا ان عجز الكهرباء بذاته من معوقات التنمية.

وعند الرجوع الى عام 1990 نلاحظ ان 76 بالمائة من الكهرباء المولدة في العراق حرارية (بخارية)، و8 بالمائة منها فقط غازية والباقي كهرومائية، من مساقط السدود المرتبطة بنظام الري. وبقيت الكهرباء المولدة من المحطات البخارية الى الآن كما هي عام 1990 تقريبا. فبعد ان كانت 21.5 مليون ميغاواط ساعة انتكست عام 2006 الى 13.5 مليون ميغاواط ساعة لتستعيد قدرات عام 1990 تقريبا بحوالي 21.1 مليون ميغاواط ساعة.

اما التحسن الذي انجزته وزارة الكهرباء فمصدره وحدات التوليد الغازية التي نشرتها على اغلب المحافظات. وفي عام 2014 أصبح التوليد من الوحدات الغازية 37.3 مليون ميغاواط ساعة بنسبة 47 بالمائة من الكهرباء المجهزة، رسميا من وزارة الكهرباء، بينما انخفض المصدر البخاري الى 26 بالمائة، واضافت وزارة الكهرباء التوليد بالديزل وتشتري من مصادر خارجية ومحلية، ايضا، فتصل جميع المصادر من غير البخارية ووحدات الغاز الى 21.8 بالمائة من مجموع الكهرباء المجهزة.

الكهرباء في العراق الى مطلع خمسينات القرن الماضي كانت تجهز من مولدات الديزل وعلى المستوى المحلي واغلبها للإنارة وفي المدن. وانتقل العراق الى التوليد الحراري (البخاري) في سياق برنامج التنمية (الاعمار) وتمثل محطة الدورة باكورة التحول. وهو الاتجاه المنطقي والمنسجم مع معايير الكلفة/المنفعة للأمد البعيد، لأن التوليد البخاري يستفيد من وفورات الحجم الكبير، وهو اساس الشبكة الموحدة وطنيا طالما ان الاستهلاك على النطاق المحلي لا يستوعب عادة طاقة التوليد في المحطات الحرارية.

اما وحدات التوليد الغازية فهي صغيرة الحجم ويتطلب الامر انشاء العديد منها لكن فترة التشييد أقصر والمتطلبات التقنية ابسط، ولجأ العراق اليها عندما تعذر استدراج شركات رصينة وعالية القدرات في مثل الاوضاع التي عاشها العراق ولازالت لحد الآن. وقد تداخل سبب عزوف الشركات الكبرى عن دخول العراق بشروط اعتيادية مع رؤوس الاموال الضخمة التي يقتضيها التوليد البخاري وتقليص تخصيصات الاستثمار لإدامة الانفاق الجاري الضخم والذي يصعب كبحه سياسيا واجتماعيا.

تقدر وزارة الكهرباء الطلب 108 مليون ميغاواط ساعة عام 2014، في العراق خارج كردستان، ما يعني ان الكهرباء المجهز من الوزارة يعادل 74 بالمائة من ذلك الطلب. ولا يبدو هذا التقدير واقعي. وفي السنوات القريبة القادمة سيرتفع الطلب نتيجة استئناف الوضع الاعتيادي اضافة الى العوامل الاخرى مثل الدخل والسكان وأثر نمو القطاعات السلعية.

العراق يحتاج مراجعة دقيقة لمجريات الاستثمار في التوليد الحراري التي اخفقت او تعطلت، وكيف يستطيع استئناف الجهد الاستثماري على اسس اخرى. ومن المهم، بالتأكيد، التركيز على التكاليف، الرأسمالية والتشغيلية، وتحليل مصادر الكلفة الى مكوناتها واستنادا الى مقارنات دولية على أفضل وجه من جهة مصادر المعلومات واساليب التحليل.

والمقصود ليس المفهوم المالي للكلفة انما الاقتصادي وعلى المستوى الكلي، وفي هذا الاطار ينظر الى تكاليف الوقود بالأسعار الحقيقية وتكاليف التلوث بهدر الموارد ومتطلبات المعالجة. ولهذا الغرض ايضا تعاد قراءة وثائق استراتيجية الطاقة وما رسمت، تلك الوثائق، لقطاع الكهرباء في جانبي العرض والطلب، خاصة وانها بينت افضلية التوليد الحراري واستخدام الغاز لهذا الغرض على حساب النفط الخام، واوصت بالجمع بين مشاريع لتحلية المياه وتوليد الكهرباء بالغاز في البصرة. ان التحليل القويم للتكاليف يكشف عن اوجه القصور والتقصير الاداري واختراقات المصالح المغرضة.

ان وفرة مصادر الطاقة في العراق من النفط والغاز تقود الى مزايا للصناعات كثيفة الطاقة وهذا سبب آخر لتسريع الاستثمار في الكهرباء. والتطور التقني في مجالات الانتاج السلعي ارتبط بالتحول نحو الكهرباء، فضلا عن الاتمتة الالكترونية للكثير من انشطة الخدمات.

الكهرباء مُدخل اساسي لجميع الانشطة الاقتصادية ومن الضروري الوصول الى طاقات توليد بقدر معقول من الفائض يسمح بالمناورة والصيانة الدورية والتجديد. وكلفة الوحدة المجهزة من الكهرباء لها دور كبير في تعيين القدرات التنافسية الدولية للعراق وبالتالي مستقبل الاستيرادات والصادرات. هذا الى جانب متطلبات الرفاه الاسري، والخدمات العامة ومنها التعليم والصحة والادارة الحكومية.

من المفيد التخطيط للوصول بإنتاج الكهرباء في العراق من المستوى الحالي بحدود 80 مليون ميغاواط ساعة الى 450 مليون ميغاواط ساعة نهاية عام 2043. بتعبير آخر الانتقال من طاقة التوليد الحالية التي تقدر 9000 ميغاواط او اقل الى 50000 ميغاواط او اكثر. ويتطلب هذا الهدف موارد ضخمة تستثمر لبناء طاقات التوليد تلك، ويستفاد من البيانات المنشورة لدول اخرى ان الكلفة الرأسمالية للميغاواط من طاقة التوليد وكذلك الكلفة التشغيلية، بالمعدل، تتفاوت كثيرا بحسب التكنولوجيا ونوع الوقود، ووفورات الحجم لا يستهان بها اي ان الكلفة المخصومة لوحدة الطاقة او الوحدة المنتجة تنخفض مع زيادة حجم محطة التوليد.

وعلى سبيل المثال نشرت منظمة معلومات الطاقة الامريكية، في آب 2016، تكاليف مجموعة من محطات التوليد الجديدة، بالوقود الاحفوري، التي ستدخُل العمل عام 2022، وتلك التكاليف مخصومة لتكون بقيمة سنة الاساس 2015، ويلاحظ منها ان الكلفة الرأسمالية بالمعدل للميغاواط ساعة المنتج تتراوح بين 13 دولار الى 97 دولار لأقرب دولار، لكن الكلفة الكلية تفاوتت بين 57 دولار الى 140 دولار للميغاواط ساعة المنتج ويعود الفرق للكلفة التشغيلية بما فيها الوقود.

ولمجموعة اخرى تدخُل العمل عام 2040 تراوحت كلفة رأس المال للميغاواط ساعة المنتج بين 12 دولار الى 83 دولار، والكلفة الكلية للميغاواط ساعة المنتج بين 56 دولار الى 126 دولار. وفي كل الاحوال يبدو ان التكاليف الرأسمالية للهدف المقترح للعراق آنفا ضمن نطاق امكانيات التمويل. وبالطبع تختلف كلفة التشغيل في العراق حسب الاجور واسعار الوقود وخدمات الصيانة عنها في الدول الاخرى، لكن تكاليف رأس المال تتقارب. ولذا تمس الحاجة الى تدقيق تكاليف مشاريع التوليد مرات ومرات واخضاع تلك المشاريع لتحليل ثقة، وقبل ذلك التوصيف الدقيق للمحطات بدراسات مستقلة عن جهة التصميم وهذه وتلك باستقلال عن مصدر تجهيز المنظومات ومقاولات التنفيذ.

وايضا، وهذا مهم وفي غاية الاهمية، لا بد من اعادة الاعتبار للمقاربات المتخصصة، المنضبطة منهجيا، لتطوير قطاع الطاقة في العراق مع اشد العناية بالمضمون الاقتصادي ومبدأ الكلفة المنفعة على المستوى الكلي، وفي إطار اقتصاد التنمية والتصنيع بربط محكم.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017

www.fcdrs.com

اضف تعليق