إنسانيات - مجتمع

نحن و هم

في معرض بناء فكرة الدولة الحضارية الحديثة، قلت في المقال السابق: ولبناء هذه الفكرة سوف استعير نموذج جاك ميرلو بونتي المؤلف من عنصرين هما المستند العقلاني والبعد القيمي، فاما المعادل الموضوعي للاول فهو المركب الحضاري المؤلف من خمسة عناصر في مقدمتها الشعب الانسان، المجتمع، والوطن الأرض...

في معرض بناء فكرة الدولة الحضارية الحديثة، قلت في المقال السابق: ولبناء هذه الفكرة سوف استعير نموذج جاك ميرلو بونتي المؤلف من عنصرين هما "المستند العقلاني" و"البعد القيمي". فاما المعادل الموضوعي للاول فهو المركب الحضاري المؤلف من خمسة عناصر في مقدمتها الشعب (الانسان، المجتمع)، والوطن (الارض)؛ والمعادل الموضوعي للثاني هو منظومة القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري.

وسوف استعير الان تعريف "الايديولوجيا" لريمون ارون الوارد في كتابه "افيون المثقفين" (عام ١٩٥٥) حيث يرى ان الايديولوجيا هي منظومة تنطوي على نظام من القيم المقبولة، وتقترح اصلاحات ينبغي انجازها.

والذي يهمني هنا بقدر تعلق الامر بفكرة الدولة الحضارية الحديثة امران.

الاول: ان د ح ح هي "مقترح اصلاحي"؛ والثاني: منظومة القيم المقبولة.

نبدأ بكون د ح ح مقترح اصلاحي. الاصلاح بحد ذاته امر مرغوب به. والاصلاح في الحالة العراقية ضرورة يؤمن بها العراقيون. وهذا موقف جيد. لان عدم الرغبة بالاصلاح تعيق الاصلاح، في حين ان الرغبة به تشكل تسويغا وتبريرا وقاعدة لتوحيد وجهات النظر. وهذا ما تسعى الفكرة الى تحقيقه كما ذكرتُ في المقال السابق. وهذا على خلاف العناوين الاصلاحية الاخرى التي يقترحها اخرون. نكاد نتفق على ان بناء دولة في العراق، فضلا عن دولة حضارية حديثة، قد تعثر خلال المئة سنة الاخيرة، ولم تسفر كل التطورات سوى عن جمهورية عسكرية (١٩٥٨-١٩٦٨)، او حزبية دكتاتورية تؤله الحاكم (١٩٦٨-٢٠٠٣)، او سلطات محاصصية طائفية وعرقية وحزبية فاشلة (٢٠٠٣ الى الان). واما التظاهرات الاحتجاجية منذ تشرين الاول ٢٠١٩ فلم تقدم بديلا صالحا لبناء دولة حضارية حديثة رغم دعاوى مكافحة الفساد. ومن هنا تأتي فكرة د ح ح بوصفها مقترحا او مشروعا اصلاحيا يتغلغل الى عمق المشكلة التي يواجهها العراق وهي الخلل الحاد في المركب الحضاري والقيم الحافة به، او التخلف الحضاري.

والعبرة من هذا المشروع انه يملك القابلية على توحيد العراقيين ضمن دائرة اوسع قوامها الشعب والارض منظومة القيم الحضارية.

احدى مشكلات العراق هي ضعف وربما انعدام الاندماج المجتمعي فيه، ولذا فان اي مشروع سياسي يجب ان يكون من اهدافه حل هذه المشكلة وتحقيق الاندماج المجتمعي بطريقة سليمة وراسخة، علما ان المشاريع التي طرحت او تعاقبت لم تكن قادرة على ذلك، ان لم نقل العكس.

والنقطة الثالثة، اي منظومة القيم الحضارية، هي موضوع الكلام هنا.

كثيرا ما يسألني الناس ماهي الايديولوجية التي تنطلق منها وتقوم عليها الدولة الحضارية الحديثة: هل هي اسلامية ام علمانية، اشتراكية ام رأسمالية، الخ، وكنت دائما اقول في الجواب انها حضارية. والان اريد ان افصّل الجواب. واقول ان الايديولوجية التي تنطلق منها د ح ح هي منظومة القيم الحضارية العليا المحيطة بالمركب الحضاري. وهنا التفصيل.

القيم هي مؤشرات عليا واهداف للسلوك، حاكمة على الفرد والمجتمع والدولة. وهي تنصرف الى ثلاثة امور هي:

الامر الاول: ماهية القيم، وما تعنيه من حيث الجوهر كلمات مثل العدالة والحرية والمساواة وغير ذلك.

الامر الثاني: المصاديق الخارجية التي تنطبق عليها ماهيات القيم.

الامر الثالث: الادوات التنفيذية (اي التشريعات والقوانين) التي تتجسد فيها ماهيات القيم.

الامر الرابع: المقدمات العقلية او الفلسفية التي تجعل الانسان مؤمنا بماهيات القيم.

فاما الامر الاول فتكاد كل المجتمعات البشرية تصل الان الى مصفوفة قيم متفق عليها، ودليلي على ذلك ما توصلت الدول الاعضاء في الامم المتحدة في ٢٥ ايلول ٢٠١٥ في صياغة وثيقة التنمية المستدامة التي نصت على ١٧ هدفا رئيسيا تتفرع عنها ١٦٩ هدفا فرعيا. و يمكن ان تكون احدى الوثائق المهمة في بلورة وبناء منظومة القيم الخاصة بالدولة الحضارية الحديثة. وتشكل هذه ضمن مفردات الحضارة الانسانية بوصفها اطارا تاما مشتركا.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق