عندما حطت قدماي أرض المملكة المتحدة عام 1990م، كان تعلم لغة أهل البلد واحدة من اهتمامات المهاجر وأساسيات العيش في مجتمع غريبة علينا لغته وعاداته، فكانت السيدة كاتيا (Katia) هي واحدة من معلمات اللغة الانكليزية لغير الناطقين بها في كلية هارو (Harrow College)، وكانت تفتخر بأنها ألمانية أجادت اللغة الانكليزية وأصبحت مدرسة لها، وكانت تمتاز بحرصها الشديد على تلقيننا أوليات اللغة في صف دراسي فيه ألوان من الجنسيات والأعمار ما بين شاب وكهل وكنت حينها في متوسط العمر، وتحرص بين الفينة والأخرى على كسر رتابة التدريس الصفي فتخلق لنا سفرات ورحلات عمل داخل البلدة التي أسكن فيها من أجل خلق مقدمات الإختلاط بالمجتمع الإنكليزي وحملنا على التحدث مع أفراده بالقدر الممكن، وفي إحدى الممرات بشرتنا بالسفر الى المتحف المحلي لبلدة هارو (Harrow Museum) التي اسكن فيها في شمال غرب لندن، وبالطبع تبادر الى ذهني أنني سأكون أمام متحف كبير يضم مقتنيات ولقىً وآثارا تاريخية ربما تفوق ما لدى متاحفنا العربية المعرضة بين فترة وأخرى للنهب والمتاجرة، ولكن المفاجأة أننا دخلنا منزلاً كبيراً آيلا للسقوط في بعض أركانه يضم مقتنيات صناعية وزراعية وتقنية ومنزلية قديمة للغاية مع مجموعة كبيرة من الصور عن حياة سكان المدينة.

انتهت الجولة في أقل من نصف ساعة، فليس هناك ما يشدنا نحن القادمون من الشرق الأوسط الى بيت قديم ومجموعات أدوات قديمة، ولكن بلدية البلدة مهتمة كثيرة بهذا المتحف المحلي وتسوق اليه الطلبة من مستويات عمرية مختلفة للإطلاع عليه وعلى مدار العام الدراسي، وأحد أهدافها في ذلك هو تذكير الأجيال المتوالدة في هذه البلدة بما كانت عليه الحياة في القرون الماضية وبخاصة في عهد الملكة فيكتوريا (Queen Victoria) في الفترة (1837- 1901م) وطبيعة الحياة التي كان يعيشها الأجداد.

مرَّ ربع قرن على أول زيارة للمتحف المحلي لبلدتنا هارو، ومازلت أتذكره كلما مررت في مدننا المقدسة في العراق وأنا أشاهد معول الهدم يطال معالم المدينة القديمة تحت طائلة توسعة المدينة، وكم وددت أن تعمل الحكومة المحلية في كل مدينة على بناء متحف محلي ليس أقل يجمع تراث هذه المدينة المقدسة أو تلك، قلتها من قبل وأكررها، لعل هناك من يحن على تراث بلدته، وربما يكون المسؤول بحاجة الى زيارة المتحف المحلي لبلدة هارو ليدرك أن البلدية لا تفرط بتاريخ المدينة وتحافظ على بيت قديم بمعدات عتيقة لأنه من بقايا عهد بعيد يحمل هويتها.

وكلما قرأت كتاباً أو دراسة عن مراقد الأئمة والأولياء والصالحين المتوزعة في تخوم الأرض وأطرافها، أتذكر تلك المعاول ومتمنيا في الوقت نفسه أن يتم جمع بقايا آثار المدينة في مكان مشهود للقاصي والداني يتذكر به الماضي القريب ويستذكر الأجداد ومساكنهم وأطلالهم، ولا يخلو الأمر من غيور وإن علا صراخ الحجارة العتيقة في بلدتنا القديمة.

وبين يدي الجزء الثامن من (تاريخ المراقد الحسين وأهل بيته وأنصاره) من تأليف المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 398 صفحة من القطع الوزيري، وهو وإن يسمعنا بين ثنايا الكتاب بعض أنين المدن القديمة، ولكنه يبشرنا في الوقت نفسه بإعمار هنا وإعمار هناك لآثار الإسلام مدعومة بعشرات الصور يبقي الأمة مشدودة الى عظمائها، وهو في طي الحديث عن مراقد ومقامات الذين اشتركوا في واقعة عاشوراء عام 61 للهجرة وما بعدها من رجال ونساء وأطفال تركوا أثراً هنا أو هناك.

متابع صبور

تعهد المحقق الكرباسي منذ أن أرسى قواعد موسوعته الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) عام 1987م أن يتابع كل ما يقع تحت يده من مراقد ومقامات وآثار على علاقة قريبة أو بعيدة بواقعة كربلاء، ولا يتوقف مركب البحث والتنقيب عند المصادر القديمة والمراجع الرصينة، فالعجلة متحركة تجاوزت في هذا الجزء والأجزاء الأخرى حاجز ما بين الجلدين والطيتين الى النزول الى الساحة ميدانيا والوقوف عند هذا المرقد وذاك المقام وملاحظة تطور العمارة الإسلامية منذ بروز شاخصه وحتى اليوم، وهي متابعة قلّ نظيرها في مثليات كتاب (تاريخ المراقد) الذي يعد أحد الأبواب الستين للموسوعة الحسينية، فمرة يحمل المؤلف نفسه الى حيث المرقد أو المقام أو الأثر الحسيني كما وقوفه بنفسه على مرقد إبراهيم بن مالك الأشتر ومتابعة أحواله قبل أن يتعرض للهدم أثناء الاحتلال الاميركي للعراق في الفترة (2003- 2011م) وأثناءه وبعده والسعي الحثيث لإعادة بنائه، أو أن يبعث بأحد المتعاونين معه في دائرة المعارف الحسينية، كما في مرقد خديجة بنت علي(ع) في الكوفة حيث فوضني للذهاب إليه والوقوف عليه ميدانيا وتثبيت ما رشيح من معلومات على الأرض في طي الكتاب.

فالحركة الميدانية في باب المراقد وفي غيره من الأبواب حسبما يتطلب العمل، أمر ألزم به المؤلف نفسه مهما كلفه ذلك، فليس من أهدافه التأليف المجرد عن التحقيق، وإلا فبإمكانه أن يكتب وهو في قلعة المواجهة مع الزمن والأقدار من أجل إنهاء هذه الموسوعة الكبيرة التي لا يبدو أنَّ لها قرارا وقاعاً.

قد يعتقد البضع من الناس أن التنقل الميداني بين الأضرحة والمقامات، يسهل على الكاتب تدبيج ما يريد تدبيجه، ولكن التجربة التي مرّ بها المحقق الكرباسي تكشف العكس، لأنه على خلاف الزائرين ينظر الى المرقد أو المقام بعيون أخرى لا يراها الإنسان العادي، وهذا ما يحمله مسؤولية أكبر في التقاط كل جزئية في جدار هذا المرقد أو أرضية ذاك المقام، وهو بذلك يوفر خزينا معرفيا لا يعوض، بخاصة إذا كان المرقد عرضة لعاديات الزمان وتقلباته، كما هو حال مراقد أهل البيت عليهم السلام التي تتعرض بين الفينة والأخرى إلى الخراب بمعاول القالين وجهل الغالين ونيران الحكومات الظالمة.

ومن خلال متابعة أجزاء باب تاريخ المراقد، سيكتشف المرء أن المؤلف في كل جزء يستدرك ما فاته من معلومات بانت له مؤخرا، ويستدرك ما استجد من جديد على المرقد الحسيني أو المراقد ذات العلاقة بالنهضة الحسينية، وهذه الميزة التي يتصف بها المحقق الكرباسي نلمسها في أبواب أخرى، وهي في واقعها تقدم درساً لكل باحث ومحقق بأن تكون المعلومة هي مبتغاه حتى لو جاءت متأخرة رغم بحثه وتنقيبه عنها فيما مضى، فيذكرها في أقرب جزء، لأنَّ المعلومة الجديدة هي في واقعها تحفة راقية لا يمكن طمرها أو قبرها وينبغي عرضها وتثبيتها، بخاصة وقد أصبحت أسيرة الكاتب وفي متناول قلمه وعليه أن يطلق سراحها لتكون متداولة بين الناس، ومن يتغافل عن نشر معلومة تحصّل عليها بعد صدور كتابه المعني، إنما يرتكب خطيئة ويساهم في ضياعها، وليس هذا من شأن الباحث المحقق، وتعظم المسؤولية عندما يكون مثل هذا الباحث على رأس موسوعة معرفية كبرى يعود إليها الباحث والمحقق وطالب العلم والقارئ البسيط، ومن خلال تعاملي اليومي مع المحقق الكرباسي، على رغم مشاغله الكثيرة في التأليف إلى جانب أداء وظائفه الدينية والإجتماعية، فإنه لا يتوانى عن الأخذ بالمعلومة ودسها في أقرب جزء.

كما إن التجديدات والتعميرات في المراقد ذات الشأن بالموسوعة تفرض على الكرباسي الذي تبنى هذه المسؤولية العظيمة بكل جدارة متابعة آخر التطورات وتوثيقها وتصويرها، وهذا ما نلاحظه في الأجزاء الثمانية التي صدرت حتى الآن من باب المراقد.

دقائق الأمور

ولأن المراقد ذات الشأن كثيرة ومتوزعة على مساحات كبيرة بين العراق وسوريا وفلسطين ومصر والحجاز، فإن المؤلف أخذ على عاتقه تناوله وفق نظام الحروف الهجائية، وقد انتهى في الجزء السابع الى حرف الراء وهو يستعرض مشاهد رأس الحسين عليه السلام في دمشق وعسقلان والقاهرة والعراق، وفي الجزء الثامن يواصل الكرباسي مع حرف الراء بيان (رؤوس الشهداء) ومشهدهم في دمشق حيث قيل أن فيها ستة عشر رأسا لشباب أهل البيت(ع) احتزها الجيش الأموي في معركة كربلاء ورفعت على السنان من كربلاء حتى دمشق ودفنت عند عودة الركب الحسيني الى المدينة المنورة في مقبرة الباب الصغير بدمشق، وقيل أنها مقبرة تضم رؤوس ثلاثة من شهداء كربلاء على قول بعض المصادر وهم: العباس بن علي(ع) وعلي الأكبر بن الحسين(ع) وحبيب بن مظاهر الأسدي، وأيا كان العدد فإنها معروفة منذ زمن سحيق تابع المحقق الكرباسي مراحل تطور المقبرة منذ القرن السابع الهجري حتى يومنا هذا وقد أخذ من الكتاب 41 صفحة بشروحاتها وصورها، وكان بود المؤلف تقديم شروحات ميدانية أكثر لكن الظروف الأمنية التي تعصف بسوريا منذ عام 2011م حالت دون ذلك، متمنيا أن يستدرك ذلك حالما تتوفر الظروف الأمنية المناسبة.

وبالقرب من الجامع الكبير في دمشق المعروف بالجامع الاموي يقع قبر الطفلة رقية بنت الحسين(ع) وعند بعض المصادر أن القبر يعود لرقية بنت الإمام علي(ع)، لكن الكرباسي من خلال تحقيقاته ينفي رحيل الثانية في دمشق، فالإمام علي(ع) له بنتان بإسم رقية واحدة الكبرى (13- 45) ولدت وماتت في المدينة المنورة، والثانية رقية الصغرى (24- ب 61هـ) وهي الأخرى ولدت وماتت في المدينة المنورة، وقد استغرق الحديث المصور من الكتاب 108 صفحات.

وكما استدرك المؤلف في بداية الكتاب على مرقد إبراهيم بن مالك الأشتر بالقرب من مدينة سامراء العراقية والمشهد الحسيني في القاهرة وحبيب بن مظاهر الأسدي داخل العتبة الحسينية ومرقد الحر الرياحي غرب كربلاء، والمرقد الحسيني الشريف نفسه فإنَّه استدرك في نهاية الكتابة في نحو 40 صفحة لتناول مراقد: الحسن المثنى، حبوة (أم إسحاق) بنت طلحة التيمية، أم خديجة الهاشمية، أم شعيب المخزومية، أم فاطمة الهاشمية، أم كلثوم الصغرى بنت عبد الله الهاشمية، بحرية بنت مسعود الخزرجية، برّة بنت النوشجان الفارسية، جمانة بنت أبي طالب الهاشمية، حبيبة الحبشية، حسنية (أم منجح)، حميدة بنت مسلم الهاشمية، خديجة بنت علي الهاشمية، الرباب بنت امرئ القيس الكلبية، رقية الصغرى بنت علي الهاشمية، رملة الكبرى بنت علي الهاشمية، رملة (أم القاسم) الرومية، ومرقد روضة المدنيّة.

وأخذ استدراك المؤلف على المرقد الحسيني الشريف 71 صفحة من الكتاب تابع فيه المحقق الكرباسي في جانب منه تصنيع الشباك الجديد للمرقد الحسيني في قم المقدسة تحت إشراف العلامة السيد جواد الشهرستاني ونصبه في احتفال رسمي وجماهيري يوم الثلاثاء 22/4/1434هـ (5/3/2013م) بعد إزالة الشباك الفضي القديم الذي يعود بدء تصنيعه لعام 1355هـ (1936م) وجئ به من الهند تحت إشراف المسلمين البهرة ونصب عام 1358هـ (1939م) في احتفال رسمي وجماهيري بحضور زعيم البهرة السلطان طاهر سيف الدين.

ومع الإقرار بجمالية الشباك الجديد للمرقد الحسيني الشريف التي تعكس عظمة الفن الإسلامي، ولكن وودت لو أن حجمه أقل من الذي عليه الآن، فالشباك القديم كانت مساحته الكلية 25,65 متراً في حين أن الشباك الجديد مساحته الكلية 33,86 متراً، أي أنه أخذ ثمان أمتار من مساحة الروضة الحسينية التي هي بالأصل قليلة مما ساعد في خلق التكورات والأمواج البشرية عند الزيارات الكبيرة، وقد لمست ذلك في الزيارة الأربعينية لشهر صفر 1436هـ (2015م) حيث كدت أختنق من الزحمة الشديدة وضيق النفس وذلك لتقلص المسافة بين ضلع الشباك وركن الروضة من الجانب الأيسر للداخل من باب القبلة، وهذا الأمر حمل العتبة الحسينية على البدء بزيادة مساحة الروضة عبر تقليص أعمدة البناء، وكان بالإمكان نصب شباك أصغر حجما حتى من الشباك القديم وذلك من اجل خلق انسيابية في حركة الزائرين حتى دون الحاجة الى تقليص أركان الروضة المقدسة.

ومن جماليات تاريخ المراقد في هذا الجزء والأجزاء الماضية أن المؤلف تناول فيها بالتفاصيل كل جزئيات البناء من آيات وأحاديث وأدعية وأشعار وإرجاعها الى مصادرها، وهذا بحد ذاته جهد استثنائي يظهر رغبة المؤلف في تفكيك المتداخل من النصوص والمتون التي صيغت بخطوط متناسقة تظهر جمالية عالية الدقة.

هذه الجمالية تحسسها الإعلامي الإسباني ريكاردو كاريو (Ricardo Carrio) وهو يقدم للجزء الثامن من تاريخ المراقد، فكتب يقول وباللغة الإسبانية: (ما يمتاز به المسلمون، أن لهم مراقدهم ومقاماتهم التي يقيمونها على جثامين المقدسين من أنبياء وأئمة وأولياء صالحين، وهذه المراقد والمقامات الى جانب المساجد تمثل أماكن مقدسة يلجأ اليها المسلمون وفيها يتعبدون لله، ويحرص المسلمون أشد الحرص على تعمير هذه المراقد والاهتمام بها وهي جزء من تقديم الولاء والاحترام لهذه الشخصية أو تلك لدورها في حياة الاسلام والمسلمين).

وأكد ريكاردو كاريو المسيحي المعتقد أن ما: (يبهرني في هذا المجال ما أشاهده من احترام المسلمين لمرقد سبط نبي الإسلام محمد الإمام الحسين بن علي وزيارتهم المليونية كل عام الى كربلاء يستمدون من صاحب القبر والمرقد العزيمة، فهو قد استشهد من أجل الكلمة الحقة ومن أجل سعادة الناس، وتمثل شهادته معلماً بارزاً من معالم الدين الإسلامي الذي أتى به جدُّه في جزيرة العرب).

ونوّه الإعلامي الإسباني الى انه: (قد ثبت بالتجربة أن الشعب الذي يوثق ويؤرخ لتراثه القديم والحديث هو شعب حي يملك طاقات خلاّقة، وعندما اطلعت على الموسوعة الحسينية للعالم النحرير الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي علمت أن تاريخ الاسلام والمسلمين سيبقى خالدا، فقد قام بتوثيق النهضة الحسينية والتحقيق فيها بشكل علمي وأكاديمي جاد، وقد أعجبني باب تاريخ المراقد وهو من أبواب دائرة المعارف الحسينية الستين، لأن المؤلف تتبع تاريخ مرقد الامام الحسين من أول استشهاده وحتى اليوم إلى جانب ملاحظة مراقد ومقامات أصحابه وأهل بيته الذين كانوا في معركة كربلاء أو أسروا وهي المتوزعة في البلدان مثل العراق وسوريا ولبنان ومصر).

وعبّر ريكاردوك كاريو عن قناعته: (إن الذي يُكتب عنه موسوعة بهذا الكم والحجم لابد وأن يكون عظيماً ولا تتوقف آثاره الطيبة على مريديه ومواليه، بل تنتشر الى غير المسلمين، لأن الامام الحسين رفع لواء الحرية من أجل سعادة الإنسان، وهذا اللواء يرغب كل إنسان الدفاع والنضال تحت لوائه من مسلم أو غيره، كما تكشف موسوعة دائرة المعارف الحسينية عن عظمة شخصية مؤلفها الذي فرّغ كل وقته وما يملك من أجل إنجاز هذا المشروع الموسوعي العملاق الذي بالتأكيد سينفع الإنسانية ولا يكون حكراً على المريدين والمسلمين فحسب).

وهذه حقيقة ساطعة كالشمس في رابعة النهار، فالبشرية تتوق إلى الحرية وتنشد الخلاص، وتلتف حول الراية التي تأخذ بأيديها إلى واحة السلام.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق