q

ما الذي ستفعله الإدارة الأمريكية ولم تفعله الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضد إيران؟... وما الذي يدعوها للاعتقاد بأن العودة للتشدد في السياسة والمواقف ضد طهران، سوف يأتي بنتائج مغايرة؟... ثم، ما الذي تريده واشنطن على وجه التحديد من إيران؟... وكيف يمكن لها أن تحقق مرادها؟... وهل يستقيم التصعيد الأمريكي ضد الجمهورية الإسلامية مع اعتبار واشنطن للحرب على "داعش" والإرهاب، أولى أولوياتها؟

طوال سنوات وعقود، جرّبت الولايات المتحدة فرض عقوبات مشددة على إيران، ونجحت في تحشيد رأي عام دولي ضدها، وتحوّلت العقوبات الأمريكية ضد طهران، إلى عقوبات دولية/أممية شاملة... لم تمت إيران ولم تخضع، واصلت برنامجها النووي، وتوسع دورها الإقليمي، وأعادت تكييف بنيتها الاقتصادية مع منظومة العقوبات، إلى أن بدأت هذه المنظومة بالتفكك مع التوقيع على اتفاق فيينا النووي، الذي وصفه محمد جواد ظريف بـ "اتفاق رابح – رابح".

اليوم، لن يكون بمقدور إدارة ترامب، فرض أطواق العزلة والحصار والعقوبات على إيران بالشدّة ذاتها التي فعلتها الإدارات السابقة، لا روسيا ولا الصين، والمؤكد أن أوروبا، لن تجاري واشنطن في مسعاها هذا، وهناك اعتقاد جازم لدى الوكالة الدولية للطاقة النووية، بأن إيران ملتزمة بالبرنامج النووي، وأن برنامجها وتجاربها الصاروخية، لا تشكل انتهاكاً لاتفاقها مع مجموعة "5 + 1"، ما يعني أن سلاح المقاطعة الأمريكي المثلوم، لن يجدي نفعاً هذه المرة أيضاً، دع عنك التقارير والمراجعات الدولية، التي أظهرت عجز المقاطعة (عموماً) عن أن تكون سلاحاً ماضياً ضد الدول التي فُرضت عليها، بدلالة صمود كوبا لأكثر من ستة عقود في مواجهة العقوبات والحظر والحصار الاقتصادي الأمريكي.

وربما لهذا السبب بالذات، تبدو التهديدات الأمريكية، على جديتها، موجهة للاستهلاك المحلي، وفي أحسن الأحوال، رسائل طمأنينة لحلفاء واشنطن وأصدقائها الذين طالما اشتكوا من ضعف إدارة أوباما وترددها – على حد تعبيرهم – وهذا ما نقرأه بوضوح في "تغريدات" دونالد ترامب الساعية في بناء صورة "الزعيم القوي والحاسم"، وتكراره المتكرر لعبارة "أنا لست أوباما"... من دون أن يعني ذلك أن هذا التصعيد لن يتنزل على ساحات المواجهة الإقليمية، لكن حسابات الحقل لن تتطابق مع حسابات البيدر في نهاية المطاف.

ما الذي تريده واشنطن من طهران؟

الأغلب أن إدارة ترامب، تراجعت عن إلغاء الاتفاق النووي أو الانسحاب منه أو الدعوة لفتحه وتعديله... ما يهم واشنطن، ربما نيابة عن تل أبيب وبعض العواصم الحليفة، هو أن تحد من دور إيران الإقليمي... هنا لن تستطيع واشنطن أن تعمل وحدها، أو أن تضمن النتائج... في العراق، لا قبل لواشنطن على شطب النفوذ الإيراني، هذا الأمر تجاوزته تجربة السنوات الأربعة عشرة الفائتة... وستحتاج واشنطن لجهود حلفائها في المنطقة، من أجل تحقيق أهداف لن تتعدى في خواتيمها إضفاء بعض التوازن على النظام السياسي العراقي في مرحلة ما بعد داعش... إيران ستكون قادرة على التكيف مع سيناريو من هذا النوع.

في سوريا، ستحتاج إدارة ترامب لموقف روسي متفهم لسياسة تقليص أو شطب الدور الإيراني، وهذا لن يحصل برغم كل المؤشرات الدالة على احتمال تقارب روسي – أمريكي حول هذا الملف... لإيران قيمة في الحسابات الروسية، تتخطى سوريا ونفوذها فيها، وهي حفظت علاقاتها مع طهران، في ذروة التصعيد الأمريكي – الإيراني... وروسيا المرتاحة لمجيء ترامب وإدارته، لن تنام على حرير "التغريدات" الهوجاء لترامب، فيما مندوبته إلى مجلس الأمن، تتوعد روسيا بالعقوبات وغيرها، وتعيد فتح ملف شبه جزيرة القرم، الذي كاد المجتمع الدولي أن ينساه بعد أن سلّم بـ "روسيّة" الإقليم.... ثم أن لإيران قوات على الأرض في سوريا، لن تعوضها روسيا بقوات من الجيش الذي كان "أحمراً"... سيتحمس كثيرون لنهج التصعيد الترامبي ضد إيران، وسيستقوون به في إدارة بعض الملفات في سوريا واليمن، وربما في لبنان، لكن من سيقرر النتائج الختامية في نهاية المطاف، هي القوى الموجودة على الأرض، وتوازناتها الميدانية، وطالما ظلت واشنطن على نهجها الثابت بعدم إرسال مزيد من القوات على الأرض في سوريا والعراق وغيرهما، فستظل للأطراف الإقليمية أدواراً يصعب تخطيها أو القفز من فوقها.

ستصطدم إدارة ترامب آجلاً، والأرجح عاجلاً، بأن فتح الجبهات على إيران وحلفائها، لا يستقيم مع "أولوية الحرب على داعش والإرهاب"... هذا ما أدركته إدارة أوباما بعد فترة من التردد والمراوحة... وهذا ما تحدثت به مراكز أبحاث عديدة، رأت في "الإسلام الراديكالي السنّي" تهديداً أكثر خطورة وجدية لأمن بلدانها واستقرارها، من تهديد "الإسلام الشيعي الراديكالي" الذي وإن تورط في أعمال إرهابية في بعض الدول، إلا أنه ليس من صنف "الإرهاب المعولم"، بل أن البعض اقتراح تعاوناً مع إيران وحلفائها في الحرب على "الإسلام الراديكالي العنيف" الذي يختلف كثيرون في تعريفه ووضع قوائمه ورسم خرائطه.

سنكون أمام موجهة إقليمية واسعة من التصعيد والمواجهة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين إيران وحلفائها من جهة ثانية، وسنشهد عودةً أنشط لمحاور واصطفافات قديمة، وقد تتشكل محاور جديدة، وستقف دول كبرى وإقليمية في منزلة وسط في هذا الصراع (روسيا وتركيا، وربما مصر)، وستدفع شعوب المنطقة ومجتمعاتها أثماناً باهظة لهذه الجولة التصعيدية، قبل أن تعود الأطراف للاقتناع من جديد، بأن "الإلغاء" و"الشطب" ليس خياراً، وأن "الحسم العسكري" ليس نزهة قصيرة، وأن البديل الوحيد لفوضى الاحتراب المذهبي وصراعات المحاور وحروب المعسكرات المتقابلة، هو السير بخطى حثيثة نحو منظومة إقليمية للأمن والتعاون.

طهران وواشنطن... عودٌ على بدء

تعود العلاقات بين طهران وواشنطن ثانية إلى النفق المظلم؟... موجة من التصعيد الخطير وعودة للتهديد بالإبقاء على "كافة الخيارات على الطاولة"، وحديث عن "اللعب بالنار"، وغير ذلك من مفردات سُحبت من التداول منذ التوقيع على الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي... لا أحد يعرف أين ستنتهي هذه الموجة من التصعيد أو كيف، ومن السابق لأوانه التكهن بانعكاساتها على أزمات المنطقة المفتوحة والنازفة.

لكن المؤكد أن "حالة التهدئة" التي أعقبت التوقيع على الاتفاق الذي نظر إليه كثيرون، ومن بينهم كاتب هذه السطور بوصفه عامل تغيير حاسم "Game Changer" في سيرورة أحداث المنطقة وتطورها، قد بلغت نهايتها، أو هي في الطريق إلى ذلك... والمؤكد أيضاً، أن التردي في العلاقات بين البلدين، سيكون له حتماً، أسوأ الانعكاسات على أزمات المنطقة، وفي القلب منها، الحرب على الإرهاب.

ليس في حسابات الإدارة الأمريكية الجديدة، شن حرب أو توجيه ضربات عسكرية مباشرة لإيران وبرنامجها النووي أو الصاروخي، مثل هذا الخيار، تستبعده معظم الأوساط السياسية والإعلامية... لكن ذلك لا يعني أن ترامب سيتراجع عن نهجه العدائي لإيران، ففي جعبته الكثير من الأوراق التي يمكن اللجوء إليها، وفي صدارتها العودة لفرض عقوبات اقتصادية من جانب واحد على إيران، ومن دون دعم دولي واسع، فضلاً عن تدعيم حلفاء واشنطن، خصوم إيران في المنطقة، واستنهاض حلف الاعتدال العربي الذي تشكل في السنوات العشر الأخيرة على قاعدة الخوف من تمدد النفوذ الإيراني، وفي مواجهة "أهلّة إيران وأحزمتها" الإقليمية.

المؤسف أن الحرب الدائرة على "توتير" حتى الآن، بين ترامب والقادة الإيرانيين، ستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى "حروب بالوكالة"، وقودها الناس والحجارة في عدة دول ومجتمعات عربية، وبدل أن يصبح العام 2017 عام "التسويات الكبرى"، كما تفاءلنا وتفاءل كثيرون، فقد يصبح العام الجاري، بداية موجة جديدة من الحروب والصراعات في الإقليم، وقد تدفع بأطراف إقليمية ومحلية عديدة، للعودة إلى رهانات "الحسم" و"الخيارات العسكرية" بديلاً عن مناخ التسويات والحلول الوسط، الذي بدأ يتسلل إلى عواصم المنطقة وقادتها.

فمن جهة، ستحرص إيران وحلفاؤها على الاحتفاظ بكل "ورقة قوة" لمواجهة شتى الخيارات والسيناريوهات وأكثرها سوءاً، والعودة إلى تكتيكات واستراتيجيات الأعوام 2005 – 2010، حين وظفت قوى هذا المحور، كل ما بحوزتها من أوراق، لتقويض النفوذ الأمريكي في العراق ولبنان، وأسست لبداية نفوذ متزايد في اليمن، وعززت مكانة دمشق في حسابات هذا المحور واستراتيجياته.

في المقابل، ستستشعر أطراف عربية عديدة، بالقوة و"الاستقواء" في مواجهة "عدوها الإيراني اللدود"، وستبدي تشدداً أكبر في المحاولات الجارية للوصول إلى حلول سياسية لبعض الأزمات الإقليمية المفتوحة، بالأخص سوريا واليمن، وستتأثر محاولات إطلاق عملية سياسية في "عراق ما بعد داعش" بصورة سلبية، وقد يشهد الانفراج الهش الذي شهده لبنان، انتكاسات سياسية محتملة، وستتأثر الحرب على الإرهاب بحسابات كل طرف ومخاوفه من الطرف الآخر، على الرغم من مخاوف الأطراف العربية من التبدلات المتسارعة في مواقف وتوجهات الحليف الأمريكي من جهة، وخشيتها من فداحة الثمن الذي يتعين عليها دفعه لواشنطن نظير دعمها ومساندتها، من جهة ثانية.

وستجد روسيا نفسها بين "نارين"، فهي من جهة تريد فتح جديدة مع واشنطن، بيد أنها ليست واثقة تماماً من التوجهات النهائية لإدارة ترامب حيالها، والمؤكد أنها لن تتخلى عن "الحليف الإيراني" وشبكة علاقاتها ومصالحها الاستراتيجية معه، نظير وعود ضبابية ومتناقضة من البيت الأبيض، أما تركيا، فما زالت ترقب بحذر كيف سيتعامل ترامب وإدارته مع خصومها وأصدقائها، وسيكون لموقفه من "الملف الكردي" في سوريا على وجه التحديد، دوراً حاسماً في تقرير الخطوة التركية التالية، وتحديد وتيرة التقدم أو التباطؤ في علاقات أنقرة مع كل من موسكو وطهران.

نحن امام عملية إعادة خلط كاملة للأوراق، وتغيير لقواعد الاشتباك، ستكون له نتائجه المباشرة، على خريطة التحالفات والائتلافات الإقليمية في المنطقة، وستكون له آثار فورية على أولويات اللاعبين الرئيسين فيها... وسيستمر الحال على هذا المنوال، إلى أن تستقر خيارات إدارة ترامب على أرضية صلبة، وهو أمر ليس من المتوقع أن يحدث، أو أن يحدث قريباً على أقل تقدير.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق