إذا نظرنا الى تاريخ الحزب الديمقرطي الكردستاني (حدك) او حزب البارزاني بغير عين الحزب نجد فيها محطات مثيرة تركت اثاراً، ليس فقط على مسار الاحداث في مرحلة النضال المسلح في الجبال، بل على الاحداث الانية الجارية في اقليم كردستان.

يمكن فهم التحديات التي تواجهه في الوقت الحاضر من خلال النظر الى البنية التكوينية للحزب، والتي لم تتغير منذ تأسيسه حتى يومنا هذا. فهي على شاكلة الزواج الكاثوليكي بين العائلة بمعناها التقليدي، والمتمثل بعائلة البارزاني، ومؤسسة الحزب كظاهرة سياسية لمجتمعات حديثة. كل الازمات والاحداث التي مرت ويمر بها الحزب لها صلة وثيقة بهذا الزواج.

اهم الخطوط العامة غير المعلنة للحزب، والتي هي نتاج لذلك الزواج، هي سياسة الاحتواء. بمعنى اخر اضعاف مفهوم المشاركة والشراكة الحقيقية في مركز القرار داخل الحزب واغلاق باب الفرصة للمنافسة على قمة السلطة داخل الحزب من خارج العائلة. وعليه يمكن القول ان هنالك ارتباط بين صلة الدم والعقلية التسلطية في ادارة السلطة سواء داخل الحزب في زمن الجبال او داخل الحكومة في زمن الدولة داخل الدولة منذ 1991 بحكم الامر الواقع.

التاريخ السياسي لـ (لحدك) في الصراع ضد الشخصيات السياسية الكردية داخل الحزب وخارجه هي باختصار تجسيد لهذا الزواج الكاثوليكي المتمثل باحتكار الحزب والثورة. بادرة التناقض والصراع بدأت مع تأسيس الحزب بين اعضاء المكتب السياسي والتي تضمنت كل من جلال الطالباني وابراهيم احمد من جهة، حيث كانوا يطالبون بالشراكة في صناعة قرار الحزب ومأسسته، وبين مصطفى البارزاني الراحل واقربائه من جهة اخرى. مما دفع ببعض اعضاء المكتب السياسي للهرب خوفا من اغتيالهم. هذا الصراع كان مثالا على هيمنة العائلة على مؤسسة الحزب. فمنذ منتصف الستينات قامت العائلة الحاكمة بصورة نظامية باغتيال وتصفية عشرات القيادات البارزة داخل صفوف الحزب وخارجه لخوفهم من ابراز دورهم او لاختلاف توجههم مع توجه العائلة.

مع ظهور الاحزاب الكردية الاخرى، خاصة بعد ان ترك البارزاني الاب الصراع المسلح مع الحكومة المركزية، بعد سحب الدعم عن الثورة من قبل شاه ايران في عام 1975، انتقل الصراع من داخل الحزب الى الصراع والاقتتال مع الاحزاب الكردية الاخرى رفيقة درب النضال. حتى ان احد اسباب رجوع البارزاني واولاده للنضال المسلح بعد نكسة 1975 هو العقلية الاحتكارية للثورة بعد ظهور الاحزاب الاخرى، هذا ما عبر عنه أدريس البارزاني الراحل اخو مسعود البارزاني بالقول اذا لم نكن نحن من يقود الثورة لا نسمح لاحد ان يقودها. لذا خوفا من احلال الشخصيات الاخرى مكانهم وقيادتهم للثورة واكتسابهم الشعبية، عدل البارزاني واولاده عن قرارهم، وقاموا بالرجوع للساحة العسكرية، لكن هذه المرة ليس للثورة ضد النظام فحسب، بل لتصفية الجماعات الكردية الثائرة الاخرى على الساحة. ابرز مثال على ذلك، قتلهم اكثر من اربعة مئة من اعضاء وقيادات حزب الطالباني بعد ان رفضوا ترك الثورة وتشكيل حزب ثوري للاستمرار في النضال. مع العلم ان عقلية احتكار ما يسمى بالثورة ليس حكرا على البارزاني وحزبه لكن البارزاني له حصة الاسد في هذه السياسة. الامثلة كثيرة في هذا الشأن، حربه مع الحزب الشيوعي العراقي، الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الاشتراكي الكردستاني، حزب المحافظيين، الاحزاب الكردية الاخرى في إيران وتركيا في ستينيات القرن الماضي الى التسعينيات، امتداد لسياسة الاحتواء التي بني عليها الحزب.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا الازمة التي يواجهها البارزاني وحزبه منذ 2014 تختلف عن كل الازمات والتحديات التي واجهها منذ تأسيسه؟

بعد ظهور حركة التغيير في 2009 واضعاف حزب الطالباني الخصم القديم والشريك الحالي للبارزاني في الحكم منذ مرض الطالباني، وجد حزب البارزاني نفسه امام خصم جديد. هذا الخصم ليس له مليشيات مسلحة حتى يشكل تحديا امنيا على البارزاني، ليس له شركات نفط حتى ينافسه في تصدير النفط لدول الجوار من اجل الحصول على دعمهم، او ينافسه في تكديس واحتكار الثروة. هذا الخصم الجديد هو الجماهير او مواطني الاقليم بجميع اطيافهم وانتمائاتهم، ليس بصفة قوة سياسية منظمة في إطار حزب ما، بل بصفة محكومين. ومن اللافت للنظر ان المواطنين غير الراضين ليس محصورا على مؤيدي احزاب المعارضة بل حتى اولئك الذين كانوا محسوبين على البارزاني في الانتخابات.

باختصار، انقسم الاقليم الى فريقين: الفريق الاول هو القلة القليلة من النخبة العائلية التي احتكرت كل المناصب الامنية والسياسية والاقتصادية. والفريق الثاني هم المواطنون المحكومون الذين انتزعوا بصورة عملية من ممارسة حقوقهم السياسية والاقتصادية، بغض النظر عن انتمائاتهم. هذه الجماهير الغفيرة الغاضبة تتضمن الطبقة الوسطى العاملة في القطاع الحكومي بكافة شرائحها (خاصة الموظفين والمعلمين)، خريجي الجامعات، جيل الشباب، والعاطلين عن العمل وكذلك الطبقة دون الوسطى من الكادحين واصحاب الدخل المنخفض. كلتا الطبقتين تمثلان الغالبية الساحقة من المجتمع الكردي ان لم يكن كل المجتمع. السبب الرئيسي لهذه الجبهة الجماهيرية ضد البارزاني وحزبه هو ان الاحزاب السياسية (المنافسة) خاصة الاتحاد الوطني فقد دوره كثاني أكبر حزب وكمنافس وخصم لحزب البارزاني. حيث عندما دخل حزب الطالباني كحليف مع حدك، في إطار الاتفاق الاستراتيجي، تحول تدريجيا من خصم الى شريك في السلطة والثروة، لكن شريكا ضعيفا. بصورة ادق شراكة تبعية وبالاخص بعد مرض السيد جلال الطالباني وظهور الاقطاب المنافسة داخل حزبه. حيث ترك ذلك فراغاً في من يلعب دور المعارضة، لان وجود المعارضة ضرورة ملحة لتقود وتستوعب الاختلافات والاصوات المعارضة.

حركة التغيير ملأت هذا الفراغ لفترة، كبديل للاتحاد الوطني، كحامل لمشروع تقييد الهيمنة المطلقة للعائلة على السلطة والثروة. لذلك استطاعت حركة التغيير في فترة زمنية قصيرة ان تكون الفائز الاول للأصوات المعارضة في السليمانية والمناطق التابعة لها. بالرغم من ان الحركة كانت ولاتزال لها دور في تعبئة وتوعية الجماهير لتكون في مستوى التحدي امام هيمنة العائلة على الحكم لكن في نفس الوقت هناك عوامل اخرى لها دور في بروز الجماهير كبديل للاحزاب التقليدية المعارضة مثل الربيع العربي، انتشار الفساد السياسي والاقتصادي العملاق grand corruption على مستوى النخبة والتي التهمت كل ثروات الاقليم، احتكار مركز القرار في دائرة صغيرة و اخيرا تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي لجميع مواطني الاقليم كنتيجة لهذه السياسات الاحتكارية الخاطئة وسيادة القطب الواحد (العائلة) على الحكم. كل ذلك ادى الى ظهور الجماهير لملء الفراغ الذي تركته الاحزاب التي تدعي انها معارضة.

الاستياءات الشعبية والمظاهرات الجماهيرية هي تعبير واضح عن هذه القوة الجماهيرية الرافضة لهيمنة البارزاني. هذا الاستياء يظهر بوضوح في محافظة السليمانية وباقي مناطق نفوذ حزب الطالباني وحركة التغيير منذ 2011 والتي اعقبها ما يسمى بأحداث 17 شباط من قتل المتظاهرين. لكن هل الاستياء محصور في هذه المناطق؟ الجواب طبعا لا، وجدت محاولات للتظاهرات السلمية في اربيل من قبل المثقفين والناشطين لكن تم كبحها بالقوة قبل حدوثها من قبل السلطات الامنية التابعة لحزب البارزاني، منذ ذلك الحين مناطق نفوذ البارزاني تشهد حالة الطوارئ غير المعلن رسميا.

اذن هي حالة استياء شعبي عام لكن طريقة التعبير عنه تختلف في مناطق نفوذ الصفراء/البارزاني Yellow zone لخوف الناس من التظاهر. نظرياً، هناك علاقة طردية بين تعدد القوى السياسية وازدياد مسافة الحريات حيث كلما زادت القوى او الاقطاب المنافسة في مساحة جغرافية معينىة زاد المجال او الفضاء للحريات، لذا نجد ان وجود قطبين منافسين في السليمانية، التغيير والاتحاد، افسح المجال للحريات ولظهور اصوات معارضة بقوة داخل الاقليم.

النقطة الجوهرية هنا انه من الضروري ان لا يساء فهم صمت اربيل بانه علامة الرضا، صمت اربيل لا يعني تأييد وقبول للبارزاني وسياساته. بل على العكس من ذلك، مواطنو اربيل بكافة اطيافهم والوانهم غاضبون، لكن طريقة التعبير عن هذا الغضب تختلف بسبب سياسة اختناق الحريات وخلق سيكولوجية التخويف والترهيب من قبل الاجهزة الامنية والاستخباراتية التابعة للبارزاني وحزبه. ربما هذه الحقيقة غير خافية على البارزاني، لكنه (وافراد عائلته المتنفذة في الحكم) لا يسعون لكسب ثقة الشعب لأنهم يعرفون انها بعيدة المنال. بدلا من ذلك يلجأون الى الطريقة الاقصر والاقل كلفة في المدى القصير، وهي نشر الخوف والتهديد بالقوة من اجل منع التظاهرات وثم انفجار الوضع القائم في مناطق نفوذها. بالنسبة للبارزاني ليس مهما ان يكون المواطن الكردستاني راضياً، لكن المهم ان لا تعبر عن عدم الرضا هذا في الفضاء العام او عن طريق العصيان المدني. لهذا نجد انه سخر كل امكانيات المؤسسات الحزبية والحكومية والامنية لإرهاب وتهديد اهالي اربيل من المعلمين والموظفين والناس العاديين لمنعهم من التظاهر والمقاطعة السلمية لسياساته غير الديمقراطية.

كل الانظمة السلطوية التي بنيت على اساس نشر سايكولوجية الخوف، تخاف وتخشى من الجماهير. الخوف من المواطنين هو السبب الرئيسي وراء استخدام العنف من قبل السلطة ضد اي نوع من انواع المعارضة، سواء كانت في شكل التظاهرات او الانتقادات. ان ما يقوم به البارزاني هو نفس ما قام به حزب البعث الحاكم في العراق ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي حيث واجه كل التجمعات الشعبية حتى ولو كانت صغيرة بالقتل والاعتقال بما فيها التجمعات الدينية المواكبة لإحياء ذكرى استشهاد الامامين علي والحسين. هذا الرد العنيف غير اللازم كان بدافع الخوف من انتشار مساحة الاصوات الغاضبة التي ربما من الصعب احتواءها. حزب البارزاني بنفس الطريقة يواجه اي محاولة للتظاهر السلمي حتى ولو كانت صغيرة باستخدام العنف والقوة المفرطة واختطاف الناشطين والمعارضين. البارزاني اصيب بسايكولوجية الخوف من كل شيء حتى ظله: الخوف من موظف، من الناس العاديين، حتى من عضو في حزبه، هذا الخوف يفسر حالات اختطاف وقتل الصحفيين والمعارضين في المنطقة الصفراء.

صلة الخوف من فقدان السلطة بتضييق الحريات يمكن ادراكه من خلال ازدياد حالات القتل والعنف ضد الصحفيين والمعارضين في 2014-2016 مقارنة بعام 2010-2013. ففي 2010-2013 البارزاني كان له شرعية برلمانية في إطار تحالف مع الاتحاد الوطني والاطراف الاخرى، لذا ان الخطر على سلطته وهيمنته على الحكم كانت ضئيلة. ومن منطلق شعور البارزاني بالأمان على سلطته كانت ردة فعله تجاه الاصوات الناقدة اقل عنفا مقارنة بالحالة الثانية التي ارتفعت فيها عمليات الاختطاف والقتل ضد المعارضين بذريعة المشكلات الشخصية والارهاب او حتى بذريعة هجوم الحيوانات البرية كما حدث قبل شهر لمراسل أحد القنوات المعارضة. كما أشرنا سابقا ان أحد الاسباب هي خوف البارزاني من: اهتزاز عرشه خاصة بعد انتهاء مدة حكمه ورفض البرلمان تمديد ولايته للمرة الرابعة، وتقييد شخصنة سلطته على اقتصاد الاقليم وواردات النفط من خلال مأسسة هذه الواردات في إطار كشف الحسابات والشفافية في واردات النفط وتخليصها من هيمنة الحزب.

لذلك إذا أمعنا النظر ندرك ان صمت اربيل لا يعني الثقة والمساندة لسياسات البارزاني، بل ان سخط مواطني اربيل يتجلى بشكل اخر وهو مقاطعة الاغلبية منهم لتأييد البارزاني. اوضح مثال على ذلك هو عدم تجاوب اربيل لدعوة التظاهر لدعم الحزب من قبل نجل البارزاني ضد تصريحات النائبة البرلمانية سروة عبد الواحد في احدة القنوات الفضائية والتي حملت فيها البارزاني مسؤولية تدنى الوضع المعيشي لمواطني الاقليم بمن فيهم عوائل البيشمركة. اهالي اربيل قاطعوا بشكل كبير دعوات الحزب للتظاهر والذي حاول البارزاني من خلاله ان يعبئها لإظهار شعبيته وثقة الناس به.

من اللافت للأمر ان حزب البارزاني ونجله سخر كل امكانات الحزب والحكومة لتحريض الناس للخروج للتظاهر عن طريق فروعه الحزبية المنتشرة في كل المحلات السكنية والدوائر الحكومية وحتى عن طريق مدراء المدارس الحزبيين، على نهج حزب البعث، هددوا الطلاب بالخروج. استخدموا كل اساليب الترغيب والترهيب والنتيجة كانت مخيبة، حيث لم يخرج للتظاهر الا اعداد قليلة، غالبيتهم كانوا ضمن افراد حماية نجل البارزاني منصور الذي هو نفسه قاد التظاهر. لذلك نجد ان طريقة تظاهر مواطني اربيل هي بمقاطعة الخروج لتأييد البارزاني. اهالي اربيل اظهروا للبارزاني وحزبه انهم غير راضين وغاضبين عن سياساتهم، هذا الاحراج غير المتوقع الذي واجهه نجل السيد مسعود دفع به لحشد الاف من القوات المسلحة التابعة للحزب الى شوارع اربيل والتي كانت اشبه باستعراض عسكري لتخويف اهالي اربيل أكثر من كونه تظاهرا، حتى لا تكون هذه المقاطعة سابقة للتعبير عن استياءهم بصورة علنية وحتى يقول لمواطني اربيل غير الراضين إذا كانت من الصعب نيل ثقتكم وتأييدكم لنا فمن السهل حكمكم عن طريق القوة والخوف.

النقطة الاساسية هنا، ان اهالي اربيل أرسلوا رسالتهم للسلطات بأنهم غير راضين عن سياسات البارزاني ابتداء من احتكار السلطة من قبل عائلته مرورا بالفساد العملاق Grand Corruption وتعطيل عملية الديمقراطية واغتصاب الشرعية بعد انتهاء ولايته واغلاق البرلمان وانتهاء بتدهور الوضع المعيشي في الاقليم بسبب نهب الثروات النفطية والعقود المشبوهة التي لا يعلم محتواها غير البارزاني وحده. لذا نجد ان مواطني المنطقة الصفراء Yellow Zone غاضبين لكن طريقة التعبير عن هذا الغضب تختلف بسبب اختلاف مستوى الحريات في كلتا المنطقتين، الصفراء والخضراء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل طرد وزراء من قائمة التغيير من الحكومة واغلاق البرلمان بواسطة القوة منذ 2015 ولحد الان وكبح الاصوات المعارضة والتظاهرات الجماهيرية السلمية المعارضة للبارزاني ادى الى ازدياد امن البارزاني وحزبه؟

الجواب يكون بالنفي، كل هذا ورّط البارزاني في أزمة لم يواجهها من قبل. مشكلة البارزاني لم تعد فقط مع النخب والاحزاب السياسية المعارضة والمشاركة في الحكم، بل ظهر لاعب اخر جديد بقوة على المسرح السياسي، والذي لم يكن يشكل خطرا على سلطة البارزاني من قبل. هذا اللاعب الجديد هي القوة المجتمعية التي تتضمن كل اطياف المجتمع الكردي غير المستفيد من خيرات الاقليم بل هو المتضرر الوحيد من سوء استخدام السلطة. الشعب الكردي وحده يدفع ضريبة ما ال اليه الوضع الاقتصادي والمعيشي السيء. البارزاني وجد نفسه مباشرة في مواجهة الشعب الكردي بصفة محكومين بعد ان تبرأت غالبية الاحزاب الكردية من ان تتحمل مسؤولية الوضع القائم.

البارزاني وحزبه فقدا ثقة الناس على جميع المستويات. على المستوى السياسي، البارزاني يواجه ازمة اخلاقية وشرعية بعد ان اغتصب منصب رئاسة الاقليم والاسوء من ذلك بعد ان اغلق المؤسسة الديمقراطية الوحيدة المتبقية في الاقليم الا وهي البرلمان. كل هذا اظهر شخصية البارزاني في عين الشعب كشخص تسلطي محب للسلطة والثروة غير مبالي بمستقبل الديمقراطية في الاقليم خلافا لما ادعى طوال مسيرته السياسية بانه ناضل من اجل تحقيقه.

على المستوى الاقتصادي، نجد ان البارزاني في نظر جميع مواطني الاقليم هو المتهم الوحيد ليس فحسب فيما يتعلق بالفساد العملاق المبني على العلاقات العائلية بل المتهم الرئيسي فيما ال اليه الوضع في الاقليم من قطع الميزانية واختفاء واردات النفط وتدهور الوضع المعيشي لكل اطياف المجتمع الكردي باستثناء الدائرة الصغيرة من النخبة الحاكمة التي لم يؤثر عليها هذا الوضع قيد الانملة. إذا كانت احدى وظائف الدولة هي تأمين الحاجات الاساسية للانسان، حسب هرم مازيلو والتي هي الحاجات المادية والامن والحريات وكرامة الانسان وتحقيق الذات، فان البارزاني وحزبه لم يفشل فقط في تحقيق تلك الوظائف، بل يعتبر هو السبب الرئيسي لتدهورها بصورة مقصودة. هنا لا تستبعد مسؤولية الاحزاب الكردية الاخرى، لكن البارزاني بحكم هيمنته على كل مفاصل الاقليم، له حصة الاسد من هذا الوضع.

كل هذا يضع البارزاني وحزبه في خانة المواجهة المباشرة مع مواطني الاقليم. هذه المواجهة العملية والاخلاقية مع الجماهير خلقت ازمة جدية للبارزاني والتي لا يمكنه استيعابها بسهولة بحيث وضع شخص البارزاني امام أربعة خيارات سيئة:

- الخيار الاول يتمثل في العمل على اعادة بناء ثقة المواطنين عن طريق الاسراع في تحسين الوضع المعيشي والاقتصادي السيئين ويتم ذلك عن طريق كشف واردات الاقليم والتوزيع العادل للثروات كذريعة لبقاءه في السلطة وكذريعة لتعطيل العملية الديمقراطية. بمعنى تأمين الامن الاقتصادي على حساب العملية الديمقراطية والحريات السياسية لمواطني الاقليم (خيار الخبز مقابل الحرية). لكن هذا الخيار صعب التحقيق من الناحية العملية حيث مضى أكثر من سنتين والبارزاني لم يستطع ان يعالج المشاكل المالية والوضع المعيشي السيئ، بل على العكس من ذلك كان سببا في تدهورها.

وثانيا، الديمقراطية لا تنفصل عن عملية مأسسة الواردات والشفافية ومكافحة الفساد العملاق، وحيث ان البارزاني نفسه سبب وجود هذا الفساد. لذا ان تحسين وضع الناس ومأسسة الواردات وتوزيعها بشكل عادل وشفاف لها صلة وثيقة بجوهر الديمقراطية السياسية والتي يعرقلها البارزاني. أكثر من ذلك، ان اساس هيمنته ينبع من احتكاره للثروات في الاقليم. تأميم هذه الثروات وتحريرها من قبضته الحديدية يعني بدأ اول خطوة باتجاه تعزيز العملية الديمقراطية وبداية انهاء الهيمنة غير الديمقراطية على الحكم.

- الخيار الثاني للبارزاني وحزبه، بما انه عاجز ان يعالج الازمة المعيشية الخانقة، ان يفتح فسحة للحريات حيث من خلالها يمكن للجماهير ان تتنفس، خاصة فما يتعلق بالحريات السياسية وحق التظاهر السلمي ليخفف من المعاناة السياسية للمواطنين بدلا من معاناته المعيشية في المنطقة الصفراء. هذا الخيار يعد اسوء الخيارات بالنسبة للبارزاني. البارزاني ليس مستعدا ان يسمح بهذه المجازفة لانه كما أشرنا سابقا انه والمحيطين به يمرون بحالة هستيرية يخافون من كل الاصوات المعارضة مهما كان حجمها. السماح لحرية التعبير الجماعي عن طريق التظاهر يؤدي الى ازدياد الوعي السياسي وروح النفي والتمرد للجماهير حيث يمكن ان يؤدي الى وضع لايمكن السيطرة عليه وبالنتيجة يشكل تهديدا على امن سلطة العائلة في المنطقة الصفراء، وخاصة اربيل.

- الخيار الثالث للخروج من معضلة المسؤولية عن الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم في الاقليم والذي هو وحده سبب وجودها في الاساس، يريد البارزاني اشراك الاخرين في الخطيئة. فهو يريد ان يوزع جزءاً من المسؤولية ويضعها على عاتق الاطراف الاخرى، خاصة حركة التغيير والاتحاد وفي الوقت نفسه يبقى متحكما بالسلطة والثروة. هذا الخيار فقط يتحقق عن طريق تفعيل البرلمان ورجوع احزاب المعارضة للحكومة، على النحو الذي لا يشكل خطرا على ولاية البارزاني، التي هي اصلا منتهية. قيادة الحزب تسعى بكل ما لديها من امكانيات لتحقيق هذا الخيار. الطرف الخاسر هنا هي احزاب المعارضة الذين هم خارج السلطة من ناحيتين: اولاً، انها تؤدي الى شرعنة الهيمنة السياسية والاقتصادية للبارزاني على الاقليم، وثانيا، البارزاني يسعى الى شركاء، ليس في الحكم ولكن في الخطيئة وتوزيع مسؤولية التدهور الاقتصادي والمعيشي وبهذا يتم تشتيت التركيز على البارزاني بانه المسؤول الوحيد عما ال اليه الوضع.

- الخيار الرابع وهو أكثر احتمالا، هي استمرارية الوضع الراهن يعني بقاء البارزاني في السلطة ومتحكما في ثروات الاقليم في مدى قصير ولكن في نفس الوقت يعني بقاء البارزاني ومقربيه في دوامة الازمة الاخلاقية والسياسية والشرعية في مواجهة الجماهير المستاءة والاحزاب المعارضة. بالرغم من ان البارزاني يريد ان يظهر للمقابل، وبالاخص للأطراف المعارضة لسياساته من حركة التغيير، والمواطنين بصورة عامة بانه غير متضرر من الوضع القائم، كما صرح البارزاني نفسه بالقول "نحن ماضون افعلوا ماشئتم، وارقصوا إذا كنتم غير راضين" لكن في الحقيقة وخلافا لذلك، كلماته كانت نابعة من خيبة امله وعجزه عن نيل الثقة التي تعتبر ركيزة اساسية لحكم مستقر. لذلك، ان البارزاني هو الخاسر والمتضرر من استمرارية الوضع القائم، لكن كما أشرنا ان كل الخيارات هي خيارات سيئة للبارزاني.

في المقابل إذا أمعنا النظر، نجد ان الطرف الخصم حركة التغيير لم تتضرر كما يفهمها البعض قبل الدخول في تشكيلة الحكومة بقيادة ابن اخ مسعود البارزاني وبعد طردها من الحكومة. في كلتا الحالتين حركة التغيير ليس لها سلطة فعلية فيما يخص القرارات الاقتصادية والسياسية والامنية كما ليس لها حصة من واردات نفط الاقليم حتى يخسرها نتيجة طرده من حكومة، تسمى، بحكومة الشراكة. الاعمى لا يصبح اعمى مرتين إذا تلقى الضربة في عينه، لكن نتيجة الضربة التي تلقتها حركة التغيير والعملية الديمقراطية في الاقليم أضر كثيرا بالبارزاني، حيث سبب له الازمة السياسية والشرعية والاخلاقية، حتى قيادات التغيير لا يدركون مدى الضرر الذي احدثوه للبارزاني. فوق كل هذا تركوا البارزاني لوحده مسؤولاً عن تدهور الاستقرار السياسي والاقتصادي في الاقليم.

من المنظور الماركسي ان الاضطهاد يؤدي الى خلق الوعي، من هذا المنطلق، استمرار احتكار السلطة والثروة يؤدي الى ازدياد الاضطهاد السياسي والاقتصادي والذي سيؤدي تدريجيا الى ازدياد الوعي الجماهيري وتراكم غضبه تجاه سياسة البارزاني من الناحية الكمية والحيثية، وفي نفس الوقت يؤدي الى ازدياد عزل الحزب من وسطه الجماهيري وبما انه غير مستعد لترك السلطة لصالح اشخاص خارج العائلة فان هذا الوضع يؤدي بالبارزاني الى اللجوء الى سياسة التخويف والترهيب من اجل تعويض الفراغ الذي تركه غياب الثقة السياسية.

ان الحكومة التي بنيت على اساس الخوف فان احتمالية حدوث العنف المجتمعي عالية في حال تغيير النخبة الحاكمة. لذلك ان جميع المؤشرات تدل على ان اقليم كردستان امام تحدي جدي للعنف المجتمعي، كنتيجة للازمة الاقتصادية والسياسية الخانقة وبعد اغلاق ابواب الاصلاح السياسي والاقتصادي. خيبة الامل على مستوى الجماهير، ازمة الثقة السياسية والشرعية، احتكار وسوء ادارة ملف الثروات، وتعميق اللامساواة الاقتصادية والسياسية التي خلقها حزب البارزاني يكون سببا رئيسيا في انفجار الوضع القائم الذي من المرجح ان يتبعها العنف والاقتتال الداخلي. تجربة الحرب الاهلية في الاقليم بين اعوام 1994-1998 تؤكد لنا ان بارزاني لا يبالي في جولة اخرى من العنف مقابل بقائه في السلطة.

لكن في نفس الوقت هناك عوامل يمكن ان تساهم في تأخير انفجار هذا البركان الجماهيري. اولا التعبئة القومية المقصودة ضد الخطر القادم من المركز العربي/الشيعي.

تخويف مواطني الاقليم بالعدو الوهمي من القوميات والطوائف الاخرى من قبل البارزاني وسياسة افتعال المشاكل والتصعيد الخطابي مع المركز والاطراف الاخرى كانت دائما سلاحا بيد البارزاني لتصريف وتشتيت انتباه المعارضة والغضب الجماهيري وتصدير المشاكل الى خارج الاقليم. كلما كان هناك تهديدا على سلطته او التشكيك في شرعيته لجأ الى تصعيد الخطاب القومي. هو يريد ان يرسل رسالة الى مواطني الكرد مفادها ان الخطر القادم من المركز والهويات الاخرى داخل العراق هو أكثر جدية من المشاكل الداخلية.

العامل الثاني الذي ساهم في تأخير انفجار الوضع القائم هو: حزب البارزاني بالرغم من انه يواجه عزلا غير مسبوق على مستوى الجماهير، لا يزال على مستوى الاحزاب السياسية والشراكة الاسمية او غير المستقرة في الحكم ليس معزولة تماما. على سبيل المثال، الاحزاب الثلاثة، الاتحاد الوطني، الجماعة الاسلامية والاتحاد الاسلامي يلعبون مع البارزاني دورين متناقضين، دور كداعم لجبهة الجماهير ضد هيمنة واحتكار السلطة من قبل البارزاني ودور كشريك مهمش في حكومة البارزاني خوفا من بطشه. بمعنى اخر رجل في صف الجماهير ورجل في الحكومة التي يقودها البارزاني. من هذا المنطلق، الاتحاد الوطني الذي له قوة عسكرية وامنية ثانية بعد حزب البارزاني أصبح اداة لتبريد حالة الغضب والغليان الجماهيري ضد البارزاني بما انه شريك ثانوي في الحكم -ليس الشراكة الحقيقية في صناعة القرار) الاتحاد رغم محاولاته لا يمكن ان يلعب دور المعارضة وقيادة الجماهير المستاءة لإحداث الضغط على هيمنة البارزاني.

والسبب يعود لطبيعة الصراعات داخل الحزب، حيث يمر الحزب بصراع حاد على السلطة بين جناحين متصارعين، جناح الاغلبية الذي تمثله هيرو زوجة جلال طالباني وجناح مركز القرار الذي يمثله نواب رئيس جلال الطالباني (كوسرت رسول وبرهم صلح). من اجل بقاء نفوذهم داخل الحزب، كلا الجناحين لا يجازفون بمقاطعة حكومة البارزاني، التخلي عن الشراكة الهشة في الحكومة يعني خسارة هذا الجناح لصالح الطرف الاخر. لذلك دور بعض الاشخاص النافذة داخل الاتحاد في دعم حكومة البارزاني وتشتيت الاستياء الشعبي أكثر سلبية من دور البارزاني نفسه فيما ال اليه الوضع. حتى إذا كان الاتحاد يريد ان يلعب هذا الدور التاريخي لقيادة الجماهير الغفيرة الرافضة لهيمنة البارزاني فانه من الناحية العملية غير قادر على ذلك. لأنه في الماضي كان طرفا في الازمة ودوره يؤدي الى تجزئة هذه الاصوات المستاءة بما ان له تاريخ في الحرب الاهلية مع البارزاني لذلك لا يستطيع ان يقود كل الاطياف والشرائح المختلفة للمجتمع الكردي الرافضة لهيمنة البارزاني.

اقليم كردستان وسط هذا السخط الجماهيري العابر للانتماءات الحزبية بكافة اطيافه يحتاج الى ظهور قوة سياسية قائدة لتقود هذه الجماهير الرافضة للقوة التقليدية التي هي في الاساس جزء من المشكلة بدلا من ان تكون حلا ليقود المرحلة القادمة.

* سنكر مشیر منتکی، طالب دكتوراه في العلوم السياسية-جامعة نوتنغهام-المملكة المتحدة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق