ظهر الربيع العربي كحركات احتجاجية ضخمة سلمية (في بعضها)، انطلقت في بعض البلدان العربية خلال أواخر عام 2010 ومطلع 2011، متأثرة بالثورة التونسية التي اندلعت ونجحت في الإطاحة بالرئيس السابق (زين العابدين بن علي)، وهناك أسباب أساسية عديدة لهذه الانتفاضة منها، انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق على الحريات العامة والخاصة، وضعف المشاركة السياسية وعدم نزاهة الانتخابات في معظم البلاد العربية، والانتهاك الأمني.

ولا زالت هذه الحركة مستمرة حتى هذه اللحظة، نجحت الثورات بالإطاحة بأربعة أنظمة حتى الآن، فبعدَ الثورة التونسية نجحت ثورة 25 يناير المصرية بإسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم ثورة 17 فبراير الليبية بإزاحة نظام (معمر القذافي) ومقتله، ثم الثورة اليمنية التي أجبرت الرئيس السابق (علي عبد الله صالح) على التنحي عن السلطة، وفي سوريا لازالت الأحداث مستعرة بحرب أهلية بين النظام وحلفاءه من جهة وبين المعارضة سواء ما تسمى بالمعتدلة أو المجموعات المسلحة التي تتبع الخط الجهادي التكفيري مثل النصرة وداعش وغيرها، والتي دمرت اغلب إنحاء البلاد.

وقد بلغت الحركات الاحتجاجية جميع أنحاء العالم العربي، وتميزت هذه الثورات بظهور هتاف عربي ظهر لأول مرة في تونس و أصبح شهيرا في كل الدول العربية وهو (الشعب يريد إسقاط النظام)، وخرجت السيطرة من اغلب الأنظمة العربية حتى أشدها قمعية، وبدأ الشعب يطالب بحقوقه علنا، حتى الأنظمة العربية التي استطاعت إن تفلت من هذه الانتفاضة وهي عديدة، فان احتمال حدوث انتفاضة شاملة فيها واردة جدا، كذلك الأنظمة السياسية التي تغيرت هي الأخرى لا زالت تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

اختلفت ثورات الربيع العربي باختلاف البلدان التي قامت فيها، إذ لا يمكنك بحال مقارنة الوضع المرتبك في تونس بالدمار والقتل وضبابية المستقبل في سورية واليمن وليبيا، ولا يمكنك مقارنة تونس بالوضع في مصر التي تعيش وضع سياسي واقتصادي متدهور، في ظل تدمير كامل لكل مكتسبات الثورة التي تفاءل بها كثير من المصريين لإنقاذهم من النظام المستبد القابع على مقاعد الحكم في بلدهم.

كذلك تباين واختلاف أحوال من شاركوا في الربيع العربي باختلاف أحوال بلدانهم، أو البلدان التي يعيشون فيها حاليا، كما أنها متباينة بتباين قدرتهم على التحمّل ومقدرتهم على التمسك بالأمل، بعض هؤلاء الثوار يعيش حالة يأس، مما قادهم إلى الانضمام إلى تيارات متطرفة مثل تنظيم داعش، وبعضهم فضل الانعزال عن الحياة العامة، والبعض الآخر اعتقد أن الصدام مع الأنظمة الجديدة لا يفيد، فانصاع للأوضاع الجديدة وبات مواطناً على مقاس النظام، لكن فريقا ثالثاً لا يزال يقاوم، وهذا الفريق يمكن إن يقود إلى ثورات عربية جديدة تكون اشد عنفا ودمارا من سابقاتها، لأنهم سوف يتعلمون من الثورات السابقة إن أي تراجع أو مهادنة يعني نهاية مطالبهم وثوراتهم بدون نتيجة.

إن انتهاء ثورات الربيع العربي في بعض البلدان بعد تغيير أنظمة الحكم فيها لا يعني نهايتها بالمطلق، فهناك عدد من الأسباب والتي قد تجعل عودة الثورات العربية للمنطقة وانتشارها إلى دول أخرى كانت سابقا خارج هذا السيل الجارف ممكنة وقريبة، أن الثورات العربية ما زالت مستمرة، وإنها نعيش الموجة الثورية الأولى، وعلى أنظمة الحكم الجديدة الاستعداد لما بعدها، وان ما يحدث حتى الان من ثورات مضادة ومحاولات هي لاستعادة الأنظمة القديمة مواقعها السابقة، وان الأسباب التي قادت إلى ثورات الربيع العربي عام 2011، لا زالت موجودة بل وازدادت تطرفا وتصلبا، وهذه الأسباب هي:

1- إن هدف ثورات الربيع العربي الرئيسية كانت تحسين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، كذلك الأوضاع الاجتماعية، ولكن بعد أكثر من خمس سنوات على قيام تلك الثورات لم نرى أي تغيير في تلك الأوضاع وهي ليست في أفضل أحوالها الآن، بل أنها تتجه إلى مزيد من التأزم، إذ إن إحراق بائع خضار نفسه في تونس أدى إلى قيام ثورة كبرى فيها، فان مقتل بائع سمك بسيارة للبلدية في المغرب كادت إن تؤدي إلى إحداث ثورة شعبية كبيرة في المغرب، كذلك إن أوضاع مصر والسودان في تدهور مستمر وتشهد مظاهرات وإضرابات مستمرة، وحتى الدول الغنية مثل دول الخليج العربية فإنها تمر بمرحلة اقتصادية حرجة، هذا ما يثير المخاوف من أن تعصف هذه الأوضاع بكل ما تم إنجازه في الثورة وتكون سببا في نقمة شعبية كبيرة.

2- سياسيا، لا يزال الحكم محصوراً في كثير من الأحيان في نطاق النخبة والوراثة، وتميل الأنظمة العربية كسابقاتها للرد على التهديدات الأمنية عن طريق تشديد قبضتها وتقييد الحريات العامة، كما تقوم بتوجيه الأموال المخصصة للتنمية لاستيراد الأسلحة، في محاولة لتحقيق أمان أسرع.

3- الإحباط الذي أصاب الشباب العربي الذي كان قائدا لهذه الثورات لتحقيق طموحاتهم في الحرية الرفاه، فقد انتشر الفساد المالي والإداري بشكل ملفت للنظر وبمعدلات غير مسبوقة، بسبب عدم مكافحة الفساد، وغياب التنمية، وصعود قوى أخرى غير الشباب احتلت ما يفترضون انه موقعهم في القيادة والسلطة بعد الثورة، ان تعداد الشباب العربي (الذين تتراوح أعمارهم بين 15-29) يبلغ (105) ملايين، ينمو بسرعة، ولكن البطالة والفقر والتهميش تنمو بشكل أسرع، حيث يصل معدل البطالة بين الشباب إلى (30%)، بما يعادل أكثر من ضعف المعدل العالمي البالغ (14%)، بينما يفشل ما يقرب من نصف النساء العربيات الشابات في العثور على فرص عمل مقابل المعدل العالمي البالغ (16%)، هذا ما قد يحفزهم على الانتقام والتمرد على هذا الوضع مرة أخرى.

4- ان الشباب العربي يميل إلى الاحتجاج أكثر من المشاركة في التصويت، وهو أقل إقبالا على التصويت من المتوسط العالمي، وهم يفضلون المزيد من وسائل الاحتجاج المباشرة والأكثر عنفاً، خصوصاً إن كانوا على قناعة بأن الآليات القائمة على المشاركة والمساءلة عديمة الفائدة، وبحسب التقرير الذي نشرته صحيفة الإيكونومست البريطانية "فإنه في كانون الأول عام 2010، ناقش مجلس الوزراء المصري نتائج المسح الوطني للشباب، التي أظهرت أن 16% فقط من الشباب في سن 18-29 قاموا بالتصويت في الانتخابات البرلمانية، بينما سجل 2% فقط في الأعمال التطوعية. بينما هؤلاء الشباب بعد أسابيع، تدفقوا إلى الشوارع ليطيح بالرئيس الأسبق حسني مبارك"، كما أن حركات الاحتجاج العربية تميل إلى تكرار حدوثها كل خمس سنوات، حيث ارتفعت الاضطرابات في شمال إفريقيا في الأعوام 2001 و2006 و2011، وفي كل مرة تصبح أكثر اضطراباً عن سابقتها.

5- مؤثرات خارجية تحاول إفشال ثورات الربيع العربي، وهي تشمل دول عربية وأجنبية على السواء، ففي الوقت الذي تبدي فيه الدول الأجنبية سعادة علنية بالثورة والديمقراطية في العالم العربي، إلا أنها في الكواليس تفرض شروطا على الدعم والقروض، هي اقسي من الشروط التي كانت تفرضها قبل الثورات، وان الأموال الخارجية يتم توظيفها في دول الربيع العربي لكن أيا منها لا يذهب إلى التنمية، إذ إن الدعم الاقتصادي السعودي لمصر بعد الثورة كان مشروطا بوقوفها إلى جانبها في صراعها مع إيران وفي الأزمة السورية واليمنية، ولكن بعد حاولت مصر إتباع سياسة مستقلة تجاه أزمات المنطقة فان السعودية قطعت مساعداتها لمصر، مما أربك الوضع الداخلي المصري، وهو محاولة من السعودية ودول الخليج لإعادة الانتفاضة الشعبية مرة أخرى لمصر من بوابة الأزمة الاقتصادية.

6- إن الأنظمة السياسية السابقة ترك فراغا سياسيا كبيرا بسقوطها، كما في ليبيا ومصر، وذلك لأنها كانت متحكمة بكل شيء، وكانت المسؤولية كبيرة على خلفهم في إعادة الأمور إلى مسارها، وان الثورة لم تستطع تثبيت نظام سياسي قوي حتى الان، ولم تستطع تقديم مشروع سياسي للتوافق، إضافة إلى الفشل في إدماج الثوار المسلحين في الدولة ومؤسساتها، إذ إن الأنظمة السياسة التي جاءت بعد الثورات تنكرت لهم، ووصل الأمر بها لتصفهم بالإرهابيين، كما في ليبيا.

7- امتازت ثورات عام 2011، بعفويتها المفاجئة وانطلاقها السريع الذي جعل الحشود تتحدث بصوت واحد متناغم عن التغيير السريع، والذي أفقدها البحث عن قيادة توحدها، وإن كان ذلك على الأقل في البدايات، لهذا أنتجت أنظمة غير مؤهلة أو جادة في التغيير، لهذا فان التجربة السابقة قد تكون بداية لتجارب أخرى تكون فيها الجماهير أكثر وعيا وتأني في اختيار قيادات جديدة تلبي طموحها.

إن معركة ثورات الربيع العربي أمام التغيير صعبة، فالنخب السائدة والقائمة حاليا هي من تصارعه، وهي تلقائيا تتحول إلى حرس قديم للوضع القائم، وان هذا الوضع بالتحديد هو ما أوصلهم إلى ما هم فيه من نخبوية، إن المؤسسات القديمة غير قادرة على إصلاح مشاكل عميقة كانت هي بالتأكيد من أسبابها؛ لذا فإن عدم نجاح الربيع العربي اليوم لا يعني نهايته بل عودته لاحقا، حتى مع كل المحاولات الوقائية التي تنجح فقط في تأجيل الأزمات، بلا حلول أصيلة لها، فلا زال الترهل الناتج عن التقصير الإداري وغياب العدالة المجتمعية، لذا فان الحل يكمن في تبدل جذري تستمر به الحياة، وبداية جديدة، إن الثورة هي السبيل الوحيد لإصلاح الأوضاع في البلاد العربية.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق