تشهد دول الاتحاد الاوربي صعود غير مسبوق للتيارات الشعبوية اليمينية والقومية وتصدرها للمشهد السياسي ضمن السياقات الديمقراطية، ‎هذا ماشهدناه في فرنسا مع حزب الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان، وحال هولندا مع غيرت ويلدرز، وبولونيا مع الحزب الحاكم المحافظ ثم أخيرا في إنكلترا مع انتصار توجه البريكست وخروج المملكة من الاتحاد الاوربي، لكن مؤخرا تأثير الشعبوية القومية تجاوز إطار الدول الأوروبية ليصل فعله ومداه إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع نجاح دونالد ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض.

بعد حملة انتخابية طويلة ومحمومة، قال الناخبون الأميركيون أخيراً كلمتهم واختاروا المرشح الجمهوري دونالد ترامب القادم من خارج المؤسسة السياسية الأميركية، رئيساً لهم، في فوز جديد للشعبوية على السياسة التقليدية في العالم، ما حدا بالكثيرين لوصف الحدث بلحظة (بريكسيت) الأميركية، ذلك أن الأميركيين أو أغلبيتهم آثرت ترجيح كفة مرشح شعبوي اشتهر بتصريحاته المثيرة للجدل، ومناوئ للهجرة واتفاقيات التجارة الحرة، ومؤيد للانكفاء على الذات والانسحاب من العالم، على حساب هيلاري كلينتون، السياسية الديموقراطية المخضرمة والتقليدية.

ومع فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، تتكرس قوة مدّ الشعبوية الجارف عبر أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث حققت الأحزاب الشعبوية في القارة العجوز صعوداً لافتاً خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في ضوء تدفق اللاجئين الفارين من الحروب على القارة، صعود ظهر على الخصوص في المجر وبولندا والنمسا والسويد وفرنسا، حيث حقّقت الأحزاب المناوئة للإسلام والهجرة والاتحاد الأوروبي، نتائج انتخابية مهمة. وفي هذا السياق يندرج أيضاً فوز المعسكر المؤيد لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو 2016، والذي يتزعمه حزب الاستقلال البريطاني اليميني المتطرف.

لكن ماهو مفهوم الشعبوية؟ وما مصدرها؟ ولماذا تحقق صعوداً لافتاً وفق الاطر الديمقراطية في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية؟ هذا الانفجار الشعبوي يشكل ظاهرة سياسية مستفحلة وآخذة في التوسع مما يجعلها عصية على الفهم.

رغم ان مصطلح الشعبوية كتعريف يتفق عليه ببساطة على انه نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية (مجموعة من الأساليب والخطابات والمناورات والحيل السياسية التي يلجأ إليها السياسيون لإغراء الشعب أو الجماهير بوعود كاذبة) ودغدغة عواطف الجمهور، بدلاً من مصارحته ومخاطبة عقله ومكاشفته بالحقيقة المرة. والشعبوية ايضا تعرف باعتبارها لغة يستعملها الناس العاديون والسياسيون الأغنياء الذين يزعمون التحدث بإسمهم لتنظيم أنفسهم ضد النخب التي ينظرون إليها على أنها غير ديموقراطية ولا تخدم إلا نفسها.

مؤخرا رصدت الشعبوية في الولايات المتحدة، التي أدى فيها ركودُ الأجور، ورحيل الشركات، وتفشي الخوف من الضياع، وفقدان البوصلة في الاقتصاد العالمي.. إلى توحيد تيارات شعبية امريكية عريضة لموقفها من دونالد ترامب، كونه دعم انتهاج شعبوية ثقافية يمينية تعكز عليها ترامب، متهما النخب السياسية الامريكية الحاكمة بـ(تدليل) مجموعة ثالثة دائمة التحول، تشمل المهاجرين، والسود، والإرهابيين، والمستفيدين من نظام الرفاه الاجتماعي، أو جميع هؤلاء، فإن الحديث الشعبوي حول كبش فداء (الهجرة، المسلمون، السود، التراجع الاقتصادي، السخط على الاتفاقيات التجارية...) هو ما يمنح الشعبوية اليمينية قوتها الحالية، لا سيما في أوروبا التي تواجه مشاكل كبيرة تتعلق بالاقتصاد والهجرة والإرهاب، أكثر حدة من تلك الموجودة في الولايات المتحدة.

اما الاجابة على تساؤل الاقناع الشعبوي وتصاعد المد اليميني المتطرف سياسيا، فانه يمكن الركون الى تجربة نجاح سياسي في بلدان فاز فيها مرشحون شعبويون أو أصبحوا جزءاً من ائتلافات حاكمة فيها، بعد الركود الكبير عام 2008، ففي هذه الدول الاوروبية تسجل الشعبوية نجاحات سياسية كلما كانت محاصَرة بالمهاجرين، اذ باتت القواعد الناخبة تميل يميناً، ومثال ذلك بريطانيا التي تزعّم فيها (حزب الاستقلال) حملة الانسحاب من أوروبا من خلال كتلة ناخبة أكبر سناً وأقل تعلماً تشبه إلى حد كبير كتلة ترامب الناخبة. هذا في حين أن دول جنوب أوروبا، مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان، التي لديها اقتصادات تعاني من ركود شديد يضاهي من حيث حدّته الأزمة المالية والاقتصادية التي عرفتها الولايات المتحدة في الثلاثينيات، مالت إلى اليسار، الذي يعني حالياً رفض ومقاومة نخب الاتحاد الأوروبي، وليس الاشتراكية.

يمكن ان نقيم الشعبوية وتيار اليمين المتطرف تقييما إيجابيا: هو ان الشعبويين اليمينيين (وطنيون قبيحون)، لكنهم ليسوا فاشيين او استبداديين، رغم أن حتى الشعبويين لديهم نزعات سلطوية لكنهم يؤمنون بالعمل من داخل النظام الديموقراطي وصناديق الاقتراع، وليست لديهم الطموحات الترابية والامجاد الايديولوجية التي كانت محورية بالنسبة إلى الفاشية الألمانية والإيطالية.

لكن السؤال المحير هو لماذا اصبح الخطاب الشعبوي خطابا مقنعا ديموقراطيا لشرائح عريضة من المجتمعات الغربية، رغم ان فحوى خطابه يتعارض مع اسس الديموقراطية، وحقق مكتسبات سياسية واسعة واصبح خيارا سياسيا؟ قد تكون الاجابة هو الكسل السياسي لتيارات الليبرالية والعولمة، والملل من الاطر التقليدية والمؤسسات السياسية الحاكمة في المجتمعات الغربية والاوروبية التي لم تتسبب الا بحالة ركود وكساد وانفتاح غير مبرر، كما تبدو خطابات الشعبوية القومية متجهة أكثر نحو الشرائح الاجتماعية الأكثر تهميشا وخاصة منها لدى الأغلبية القومية مثل البيض أو كذلك لدى المتقاعدين.

كما تجذب هذه التيارات نحوها كوادر من الشركات الكبرى باعتبار هشاشة وضعها في ظرفية الازمات، مما وضع الناخب الامريكي، والناخب الاوروبي، امام تحديات كبيرة اقتصادية، وأمنية، واجتماعية بينما القوى السياسية التي تتناوب على السلطة مع كل استحقاق انتخابي جديد تطبق ذات السياسات التي لم تقدم شيء لهؤلاء مما اشعرهم بالملل والكراهية لسياسات اليسار بكل اتجاهاته ويمين الوسط مما افقد بالتالي الناخب الامريكي والاوروبي لخيار حقيقي بين مشاريع سياسية لمواجهة هذه التحديات، ولم يبقى سوى تيارات اليمين المتطرف او التوجهات العنصرية ودعوات الانكفاء على الذات كبديل للطبقة السياسية التقليدية. لكن النجاح الانتخابي لا يعني بالضرورة نجاح المشروع. إذا عادت ما تجد هذه التيارات نفسها في مواجهة واقع معقد لا مكان فيه للديماغوجيا والخطابات والشعارات.

فحال البريكسيت يعد خير مثال على الهوة بين الخطاب الانتخابي الشعبوي والمسؤولية في إدارة الشأن العام. وهذا الامتحان سيكون الاصعب لترامب في رئاسته للولايات المتحدة الامريكية فهل العقلانية ستلازم الرئيس في سنوات حكمه ام انه سيترجم تعابير التحريض والعنف الكلامي الشعبوي لسلوكيات وافعال؟.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق