لا اقصد بالاعتماد على الذات الامتناع عن التعامل مع العالم الخارجي بتاتاً كما هو الحال في عملية الاكتفاء الذاتي الذي لا يمكن تحقيقه في الواقع وخصوصاً في ظل العولمة وفي ظل توزيع الموارد في العالم، إذ لا توجد دولة في العالم تمتلك كل الموارد التي تسيّر حياتها بالشكل الذي يواكب ما وصلت اليه البشرية اليوم.

لذا يكون من المهم الاعتماد على الذات في استثمار الموارد المتاحة في داخل البلد بشكل رئيس والاعتماد على العالم الخارجي بشكل ثانوي وبحدود معقولة تسهم في بناء اقتصاد سليم معافى ولديه مناعة من الامراض التي ممكن ان تصيبه او تنتقل اليه. فغياب استراتيجية الاعتماد على الذات تجعل البلد غير مستقل بل وتابع للعالم الخارجي وفاقد لكل مقومات بناءه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وغيرها، إذ ان اغلب القرارات التي تتخذ تتم ليس بناءاً على رؤية وخطة واضحة تخدم مصلحة البلد بقدر ما تفرضها الظروف، وهذا ما يجعل البلد يسير بشكل متوازي مع الظروف، وابسط مثال على ذلك حال البلدان النفطية التي تعتمد على النفط بشكل كبير جداً في اقتصاداتها، إذ بارتفاع اسعار النفط -التي تتحد بفعل الاسواق العالمية وليس للأسواق المحلية قدرة على تحديدها- ترتفع الايرادات النفطية التي تعتبر الممول الرئيس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك الاقتصادات والعكس صحيح في حال انخفاض اسعار النفط تنخفض الايرادات النفطية ومن ثم انخفاض التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وهذا يعني ان البلدان النفطية خاضعة عبر قناة التجارة الخارجية للظروف العالمية وكل ما يرتبط بها من آثار ايجابية وسلبية في اغلب انشطتها نتيجة ارتباطها بالنفط وزيادة انتشار العولمة ايضاً بشكل أكثر وأكبر يوماً بعد يوم من ناحية، والاهم من ذلك هو فقدان الادارة للرؤيا والاستراتيجيات المهمة وخصوصاً استراتيجية الاعتماد على الذات من ناحية اخرى، التي اعتمدت من قبل اليابان المشهورة بفقرها للموارد، مما دفع بها لتحتل مراكز متقدمة في اغلب المجالات عالمياً.

اليوم العراق بأمس الحاجة الى تبني استراتيجية الاعتماد على الذات حتى يستطيع العيش بالاعتماد على موارده الذاتية بشكل مستمر، إذ هو اليوم يعتمد على التجارة الخارجية بشكل كبير، والاخطر ما في هذا الاعتماد هو عدم وجود تنوع في الصادرات، والتركيز على تصدر النفط، فبنية الصادرات تعكس مدى تبني العراق لاستراتيجية الاعتماد على الذات، فهو يعمل على تسييل الثروة الوطنية وتصديرها وتحويل اغلبها لنفقات استهلاكية دون مراعاة الخصائص الخطيرة التي يتسم بها النفط كتذبذب اسعاره ونضوبه وعدم اليقين باستمرار اهميته.

ان عدم وجود تنوع في الصادرات والتركز على الصادرات النفطية لا يعني ان العرق ينتج ما يكفي لسد الحاجة المحلية ولديه اكتفاء ذاتياً ولديه فائض في الانتاج النفطي فيقوم بتصديره، نعم لديه فائض من انتاج النفط الخام، لكنه لم يكتفي ذاتياً من المنتجات النفطية إذ لا يزال يستوردها من الدول المجاورة، اما بالنسبة للسلع الاخرى فان ما يدلل على عدم اكتفاءه ذاتياً هو تنوع الاستيرادات التي تكشف عن مدى تبني استراتيجية الاعتماد على الذات، والتي(الاستيرادات) لا بد منها، للحفاض على النمو الاقتصادي والاستقرار.

زيادة الاستيرادات وبشكل متنوع تدلل على عدم وجود قطاع زارعي فعّال، بشقيه الحيواني والنباتي، قادر على سد الحاجة المحلية على اقل تقدير فضلاً عن التصدير للخارج، وكذا الحال بالنسبة للقطاع الصناعي بشقيه الاستخراجي والتحويلي، فالأول (الاستخراجي) لا يزال انتاجه ضمن المستوى غير المرغوب بالمقارنة مع الاحتياطي الذي يتمتع به، أما الثاني(التحويلي) فهو لم يشكل اكثر من3% من الناتج الملحي الاجمالي، فالعراق يستورد اغلب -ان لم نقُل الكل- السلع من الخارج، وهذا ما يعني ان العراق لم يعتمد على ذاته في تمويل حاجاته، ومن ثم فهو قائم على استنزاف الثروة النفطية الوطنية.

وفي عصر سيادة النفط الحالية، نرى ان اغلب البلدان النفطية وخصوصاً العراق يعاني من مشاكل امنية واقتصادية واجتماعية وغيرها، فما هو الحال لهذه البلدان في حال أصبح النفط في عداد الموتى؟ الحل هو زيادة الاهتمام بالقطاع النفطي لزيادة حجم الايرادات النفطية ومن ثم الاهتمام بتوفير بيئة استثمارية ملائمة ومناسبة لتحفيز الاستثمار المحلي والاجنبي، حتى يتم تفعيل القطاعات الاقتصادية وخصوصاً الانتاجية، بحيث نجد من خلال النظر الى هيكل التجارة الخارجية وخصوصاً تنوع الصادرات وتركز الاستيرادات.

ان العراق يعمل على انتاج ما يحتاجه البلد من الموارد المتاحة وتصدير الفائض نحو الخارج، وهذا يؤدي الى نتيجتين: الاولى ايقاف هدر الثروة الوطنية -بفعل الاستهلاك- التي كانت تتمثل في استخراج النفط وتحويله الى نفقات استهلاكية تخدم الاقتصاد الخارجي، والثانية تمويل السلع والخدمات المستوردة التي يتم انتاجها في الخارج بكفاءة افضل وكلفة اقل فضلاً عن عدم وجودها في الداخل، عن طريق صادرات الفائض من المنتجات المحلية، وهذا يعني ان العراق اصبح متنوعاً في صادراته واقل تنوعاً في استيراداته.

اضافة الى تقليل الهدر في الثروة الوطنية وتمويل السلع المستوردة، بفعل الاعتماد على الذات في الزراعة والصناعة بفرعيها الاستخراجية والتحويلية والكهرباء وغيرها، تؤدي استراتيجية الاعتماد على الذات الى تعزيز قيمة العملة المحلية بفعل زيادة الاحتياطيات الاجنبية التي تمثل غطاء للعملة المحلية وذلك بسبب زيادة الصادرات الانتاجية المتنوعة التي تنعكس بشكل زيادة الاحتياطيات الاجنبية. وبما ان النفط يعتبر من الصناعات كثيفة رأس المال هذا يعني انها تحتاج الى رأس مال اكثر من احتياجها للعمالة، لذا فالبلد الذي يعتمد على النفط سيعاني من مشاكل اجتماعية وعلى رأسها البطالة فضلاً عن الصراعات الداخلية من اجل الفوز بالسلطة والسيطرة على الاموال، ولم تكن الاطماع الخارجية اقل حدة من الصراعات الداخلية.

فالاعتماد على الذات في تفعيل الانشطة الاقتصادية الاخرى بعد تهيئة البيئة المناسبة لتفعيلها وعدم تبعيتها لقطاع معين خصوصاً اذا كان القطاع طبيعي (النفط مثلاً)، فان ذلك الاعتماد سيجعل من ذلك البلد قادر على مواجهة المشاكل التي يعاني منها المجتمع كالبطالة وارتفاع الاسعار وانخفاض دخل الفرد وانخفاض سعر الصرف وغيرها.

أخيرا، ونتيجة لما لاستراتيجية الاعتماد على الذات من اثار ايجابية تعزز من قدرة البلد اقتصادياً واجتماعياً، وتجعله يحظى باهتمام المستثمرين في الداخل والخارج، ينبغي على العراق العمل على تطبيق هذه الاستراتيجية المهمة في ظل سيادة العولمة بكل اشكالها، فضلاً عن التوزيع غير العادل للثروة في العالم مما يجعل الدول تحتاج لبعضها البعض عبر التجارة الخارجية بالاستناد الى استراتيجية الاعتماد على الذات.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق