الممارسة السياسية سواء التي تقوم بها دولة كبرى لها أنظمتها وقوانينها، أو التي تقوم بها جماعة سياسية تعمل على تحرير أرضها من قوى الاستعمار القديم أو الحديث، فإن هذه الممارسة السياسية خاضعة لقوانين وأنظمة لا يمكن تجاوزها أو اختراقها مع غياب المصلحة الواضحة لها.

أقول إن هذه الممارسة السياسية لها جانبان أساسيان وهما:

الجانب الأول الذي يتعلق بالممارسة السياسية اليومية أو التي تقوم بها الدولة كرد فعل على ممارسة سياسية سابقة.. وهذا الجانب يسمى التكتيك السياسي. وهو الذي يعنى بإدارة وتدبير الشأن اليومي أو الروتيني وفي غالب الأحيان هذه الممارسة السياسية لا تتعدى التكتيك السياسي.

والجانب الآخر هو الممارسة الاستراتيجية، وهي الممارسة التي تتعدى التكتيك السياسي والممارسة اليومية، وهي المتعلقة بالمصالح الاستراتيجية والأهداف العليا التي تسعى الدولة لتحقيقها في الواقع الخارجي.. والدول والجماعات السياسية الفاعلة تنقسم على هذا الصعيد والمستوى.. فثمة دول وجماعات سياسية قادرة على التميز والتفوق السياسي انطلاقاً من طبيعة التكتيكات السياسية المتبعة.. إلا أنها لا تمتلك القدرة على ربط هذه التكتيكات بالرؤية الاستراتيجية التي تحملها.. فهي ناجحة تكتيكياً وغير ناجحة أو بليدة على المستوى الاستراتيجي.. وهناك دول وجماعات سياسية على عكس ذلك. فهي مترهلة على مستوى التكتيك السياسي، إلا أنها حيوية وفاعلة على مستوى الرؤية والممارسة الاستراتيجية.

والصورة المثالية للممارسة، هي تلك الصورة التي تقوم بكل الخطوات السياسية التكتيكية، دون إغفال البعد والرؤية الاستراتيجية.

ولعل الكثير من الإخفاقات السياسية العربية، تعود في أحد جوانبها إلى هذه المسألة.

فغالبية العرب ينفعلون ويتفاعلون على مستوى التكتيك السياسي، إلا أنهم يغفلون عن الرؤية الاستراتيجية.. لذلك هم على الصعيد العملي يكتفون بالممارسة التكتيكية ولا يعملون على ربط هذه الممارسة التكتيكية بالنطاق الاستراتيجي. والمطلوب هو القيام بكل ما تتطلبه الممارسة السياسية من جهد تكتيكي أو استراتيجي.

وإن استمرار العرب يتحركون ويخضعون لمقتضيات التحولات السياسية دون وجود رؤية استراتيجية هو المعني بتضييع البوصلة وغياب القدرة الفعلية على مواجهة التحديات.

ولو تأملنا في واقع الممارسة السياسية العربية تجاه القضية الفلسطينية لرأينا طبيعة الفصام النكد الذي يتحكم في الممارسة السياسية العربية.. حيث تغيب الرؤية الاستراتيجية ولا يحضر عربياً إلا البعد التكتيكي.. لذلك نجد أن العرب على هذا الصعيد يراكمون من إخفاقاتهم.. والسبب في تقديرنا يعود إلى أن الجهود الكثيرة التي يقوم بها العرب ليست متوازنة بين التكتيك والاستراتيجية.. لذلك هم في الغالب يتحركون بدون رؤية استراتيجية.. والوفاء بمقتضيات التكتيك السياسي لا يعني البتة الوصول إلى بناء رؤية استراتيجية للعرب تجاه قضيتهم المركزية وفي قضية فلسطين.

فأغلب الإخفاقات تعود في تقديرنا إلى هذه المسألة.. فحينما تغيب الرؤية الاستراتيجية، تغيب البوصلة النظرية التي تحدد الأولويات وسبل تحقيقها، وتغيب القدرة على الموازنة بين القدرات والطموحات.

لذلك نجد أن العرب في أغلبهم يرفعون الشعارات الفضفاضة دون أن يمتلكوا القدرة الفعلية على تحويل هذه الشعارات إلى واقع عملي.

والبشر الذين يكتفون برفع الشعارات واليافطات الكبرى، دون امتلاك القدرة الفعلية على تحقيقها هم الذين يؤدون الى ضياع القدرة على الوصول إلى الغاية والهدف.

ومن جانب آخر فإن الجمود السياسي والترهل الإداري سواء على المستوى الاستراتيجي أو التكتيكي، يفضي إلى غياب الفعالية السياسية والقدرة على المبادرة، ويحول السياسة كممارسة لضيف ثقيل على المستويات كافة.

لذلك فإن الفعالية السياسية سواء على المستوى الاستراتيجي أو التكتيكي، هي التي توفر القدرة على الاستفادة من كل الممكنات والفعاليات البشرية.

ويبدو لنا أن الخلط المنهجي بين الاستراتيجي والتكتيكي، هو الذي يفضي إلى ضياع القدرة على التكامل، ويجعل الممارسة السياسية بدون قدرة على تنظيم كل الفعاليات للحصول على كل النتائج المتوقعة.. ولعل هذا الفرق هو أحد الفروقات الأساسية بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة.

فالمجتمعات المتقدمة قادرة على ممارسة السياسة سواء في بعدها الاستراتيجي أو في بعدها التكتيكي، لذلك فهي تحصل على كل النتائج بالجهود السياسية القليلة.

أما المجتمعات المتخلفة لغياب القدرة على التمييز بين الممارسة السياسية الاستراتيجية والتكتيكية، فإنها تبذل الكثير من الجهود دون الحصول على النتائج المرجوة بمستوى الجهود المبذولة.

وعليه فإن المطلوب للخروج من هذا المأزق السياسي هو الاهتمام بصناعة الرؤية الاستراتيجية والتفكير العميق في سبل إنجاز هذه الرؤية دون التغافل عن الممارسة السياسية اليومية والتي في أغلبها تتعلق بالتكتيك السياسي.

فالمطلوب رؤية استراتيجية واضحة وصريحة، وتكتيك سياسي فاعل وقادر على ملاحقة الشأن اليومي دون الاستغراق فيه.

فالجمود السياسي الاستراتيجي يضيع الكثير من الفرص والممكنات السياسية.

كما أن الاستغراق بالممارسة السياسية التكتيكية مع غياب الرؤية الاستراتيجية يضيع الكثير من القدرات والفعاليات التي تخدم هذه المسألة.

ومن المؤكد أن معالجة هذه الإشكالية، هو أحد السبل الأساسية لممارسة السياسة بعيداً عن الأعباء أو ردود الفعل، التي قد نستجيب لها بدون رؤية أو خطة حقيقية.

أحسب أن الاهتمام بهذه المسألة، يوفر على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي القدرات البشرية القادرة على الاستجابة المطلوبة لكلا المستويين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق