من المستغرب ان لا يعلم غالبية الناس ولا حتى الأكاديميين المتخصصين بالنظرية السياسية لفرانك انكرسمت حول التمثيل والديمقراطية. في نهاية التسعينات من القرن الماضي برز أحد اهم المفكرين في فلسفة التاريخ وهو البروفيسور frank Ankersmit في جامعة Groningen في هولندا الذي حوّل انتباهه من مشاكل التمثيل التاريخي الى المشاكل المتصلة بالتمثيل السياسي.

هو يجادل بان العديد من المشاكل الكبرى التي تواجه المجتمع المعاصر يمكن معالجتها بشكل افضل لو نظرنا من جديد بما يحدث في عملية التمثيل ونفهم مجتمعاتنا كأمثلة لما يسميه "الديمقراطية الجمالية"، وهو يفضل تسمية "السياسة الجمالية". كتابان هامان نُشرا حول الديمقراطية المعاصرة هما، السياسة الجمالية: الفلسفة السياسية ما وراء الحقيقة والقيمة (1997)، وكتاب التمثيل السياسي (2002)، ولكن لم ينل هذان الكتابان ما يستحقانه من اهتمام، لذا سنحاول هنا القاء الضوء على اهم ما فيهما.

اختراع الديمقراطية

في محاولته لفهم اي نظام سياسي، يجادل انكرسمت اننا يجب ان نسأل عن ماهية المشكلة التي يُتوقع من النظام حلها. الديمقراطية اصبحت شكلا مقبولا على نطاق واسع في المجتمعات الغربية الحديثة التي تعتقد انها الحل الاكيد لكل المشاكل السياسية التي تواجهها الانسانية اليوم. لكن انكرسمت يقترح العكس، الديمقراطية كما نفهمها اليوم هي تطور حديث نسبيا، ويعود تاريخها فقط الى فترة ما بعد نابليون في اوربا، من القرن التاسع عشر فصاعدا. لكي نفهم كيف نشأت الديمقراطية، هو يقول نحن نحتاج للعودة للحروب الدينية التي مزقت اوربا في القرن السابع عشر. الملكية المطلقة كانت لا مفر منها لأنها وفرت الحل السياسي المعقول والوحيد للمشاكل التي واجهت القارة: فقط الدولة تحت قيادة شخص واحد تستطيع الوقوف ضد المحاربين وفرض التسوية النهائية.

ولكن في نهاية القرن الثامن عشر برز نوع جديد من الصراع، بدءاً بحرب الاستقلال الامريكية والثورة الفرنسية. الثوريون والليبراليون والمحافظون وآخرون بدأوا يتصارعون حول من يحكم الدولة. (انكرسمت وجد فرقا واضحا بين اوربا القارية والتجارب الانكلوسكسونية. في كل من بريطانيا والولايات المتحدة لم يكن الصراع السياسي المركزي لأجل السيطرة على الدولة، وانما لإبقاء السلطة التنفيذية ضمن حدود معقولة). السياسة الجديدة كانت نوعا جديدا من المشاكل، لم يعد معها الحل المطلق القديم صالحا للعمل.

ونتيجة لذلك، برزت ثقافة سياسية جديدة ركزت على الكفاح لأجل التسوية بدلا من الإجماع. السياسة اصبحت ترتكز على التعاون العملي بدلا من الاتفاقات الايديولوجية. عصر جديد من "احتضان مشروعية اللامبدئية" بدأ ضد الخلفية الرومانسية السياسية، مع تمجيد التعددية السياسية، وعدم الانسجام، والمتضادات والتناقضات (انظر الديمقراطية التمثيلية لانكرسمت: اتجاه جمالي للصراع والتسويات"، في المعرفة المشتركة 8.1، ص 27، 2002).التمثيل الديمقراطي فتح الباب لنشر الصراعات الاساسية في المجتمع.

الانقسام تجاه انفسنا

يجادل انكرسمت بان هناك تحولا آخرا حدث في عالمنا المعاصر. نحن اعتدنا على مواجهة مشاكل وضعت جزءا من السكان مقابل جزء آخر، الآن نواجه معضلات سياسية اصبحنا فيها خالقين للمشكلة بقدر ما نكون ضحايا لها. امثلة يعرضها انكرسمت عن هذا تتضمن الاختناقات المرورية والكوارث البيئية. في هذا الموقف، بدلا من ان ينقسم المجتمع الى جماعات متضادة، اصبح الصراع مستبطنا داخل الفرد.

هو يجادل بان الأشكال الحالية للديمقراطية هي ليست جيدة في حل هذه الانواع من المشاكل. كيف يمكن اذاً لانظمتنا السياسية الاستجابة لتلك المشاكل؟ الجواب، كما يرى، يكمن بالنظر الى اساسيات التمثيل. ما لدينا من الشكل الحالي للديمقراطية الذي يعتمد على التمثيل –حيث نصوّت للناس الذين سوف يتخذون القرارات السياسية لمصلحتنا– يجب ان يتميز عن الديمقراطية الكلاسيكية التي كانت ديمقراطية مباشرة. في اثينا القديمة، كان يُطلب من الذكور المواطنين اصحاب الملكيات التصويت شخصيا في القضايا الهامة.

العديد من الفلاسفة السياسيين كانوا معجبين جدا بالديمقراطية المباشرة، والعديد من الحركات السياسية تسعى للانتقال نحو مزيد من المشاركة السياسية. لكن انكرسمت يشعر بالقلق من الديمقراطية المباشرة، ويقترح بان العديد من المشاكل ليست قابلة للحل عبر المزيد من عمليات النقاش المفصلة. بدلا من ذلك، هو يعتقد ان فكرة التمثيل السياسي التي بدأت بمجالس القرون الوسطى حين كان الملوك يستدعون لها النبلاء ورجال الدين والطبقة الشعبية الثالثة، انما هي في الحقيقة شكلت اضافة للحياة السياسية بدلا من ان تكون تسوية بائسة خلقها نظام سياسي يمتلك عدد كبير من الناس.

ماهو التمثيل

ما علاقة كل ما تقدم بالجماليات والفن؟ يجادل انكرسمت بانه لكي نفهم الديمقراطية النيابية، يجب علينا فهم ما يجري في التمثيل بشكل اكثر عمومية. (هنا يتداخل تحليله مع عمله الشهير في كتابة التاريخ). هناك نظريتان رئيسيتان عرضها الجماليون حول طبيعة التمثيل في الفن، في رسم لوحة لشخص ما، على سبيل المثال.

النظرية الاولى هي ان التشابه resemblance شيء اساسي للتمثيل: لكي يكون هناك تمثيل، يجب على العمل الفني ان يشابه ما يمثله. غير ان هذا المفهوم ليس مقنعا بما يكفي لأنه لا يوجد معيار مقبول عموما لمواصفات التشابه الناجح. فمثلا، اللوحة، كما يخبرك مؤرخو الفن، تشبه بعضها البعض اكثر مما تشبه الاشياء التي تصفها اللوحة في هذا العالم. ولو حاولنا تطبيق نظرية التشابه على السياسة، سنجد ان اي اختلاف بين الناخب وممثليه هو حالة من سوء التمثيل السياسي. من وجهة النظر هذه المتعلقة بالتمثيل، ما يهم دائما هو مدى نجاح النواب(الممثلون) في غرف النقاش السياسي في اعادة انتاج التفكير بالسكان على نطاق واسع.

انكرسمت هو اكثر اقتناعا بالنظرية الاستبدالية للتمثيل في الفن، التي جاء من بين مؤيديها نقاد الفن كينيث بورك، وارنست جومبرك و ارثر دانتو. بالنسبة لهم، التمثيل هو اعادة صناعة الحاضر مما هو غائب حاليا. هؤلاء الجماليون يؤكدون على ان شيئا ما اصليا يحدث في عملية الخلق الفني، وان شيئا اضافيا يُخلق للوجود. ومن هذا المنظور، لا يوجد هناك مُمَثل بدون وجود تمثيل. وللتعبير عن هذا سياسيا، سوف لن تكون هناك امة سياسية بدون وجود هيئات مثل مجلس العموم (في بريطانيا وكندا) او مجلس النواب (في امريكا واستراليا ونيوزيلاند). وجود المؤسسات الممثلة سياسيا يفرز الى الوجود المجتمع السياسي.

هذه النظرية تقترح ايضا ان ما هو أكثر اهمية في السياسة هو التفاعل بين الناخب والممثلين، وبالذات ان الممثلين يجب ان يكونوا في موقع يؤهلهم لتحويل الناخب. انكرسمت يجادل بان السياسي يجب ان يحوز على "موهبة جمالية ضرورية لتمثيل الواقع السياسي بطريقة اصلية جديدة"(الديمقراطية النيابية ص 36). هو ايضا يجادل بان التمثيل يتعامل مع تنظيم الحقائق وليس مع الحقائق ذاتها. بهذا تكون الديمقراطية النيابية جيدة في التسويات وليس في الإجماع لأن التسوية تنظّم المعرفة القائمة بدلا من اكتشافها او الدفاع عنها. التسوية تحفز الابداعية السياسية، بينما الاجماع يقتلها: الاجماع هو بالضرورة محافظ، وليس خلاّقا. الصراعات التي تبدو غير قابلة للتسوية في مستوى من السكان(الناخب) هي عادة قابلة للحل عبر التسوية في مستوى المؤسسات السياسية(التمثيل).

أكبر مثال على هذا في زماننا هو التسوية السلمية في شمال ايرلندا. دول الرفاهية في مختلف الامم هي ايضا امثلة عن ابتكارية التسويات. السبب في وجود الحالة الخلاقة في المجتمعات الاوربية هو لأن انظمتها السياسية تميل أكثر نحو التسويات.

وخلافا للحكمة الكثيرة في هذا الموضوع، لكي يعمل السياسيون بنجاح هم بحاجة للابتعاد عن المواطنين لا ان يكونوا قريبين منهم. المؤلف اشار الى رؤية ذات صلة يمكن تسميتها "الديمقراطية السلبية"، والتي كان من بين أبرز مفكريها هو جاك دريدا. اعمال دريدا ركزت قليلا على الممثلين قياسا بانكرسمت، وهو كان اكثر اهتماما بدراسة الحاجة لفضاءات خلاقة فيها تشترك مختلف العناصر بدءا من الميديا حتى المنظمات غير الحكومية بعملية كبرى من تجسيد الرأي. انه اتجاه أكثر ثراءا واقل نخبوية من الديمقراطية الجمالية لانكرسمت. غير انه لا خلاف على حقيقة ان الشيء الاساس هو الحاجة لفهم كيفية عمل التمثيل كشيء خلاق سياسيا.

في النهاية يجادل انكرسمت ان ما نحتاج عمله هو ان نجعل مؤسساتنا السياسية اكثر تمثيلا – اي، نقوم بتوسيع الفجوة بين الناخب والنواب، لكي يكون "ممثلينا التشريعيين اقل استجابة للرغبات اليومية لناخبيهم واكثر ميلا لكامل الصورة"(الديمقراطية النيابية ص 46). هذا الحل، الذي يرفض الحاجة للمشاركة المتزايدة في الديمقراطيات الحديثة، هو حل مثير للاستفزاز، لكن اعادة صياغته لكيفية اطلاق العنان للإبداعية السياسية الضرورية لحل مشاكلنا المستعصية الحالية هو امر يستحق الاهتمام.

* Philosophy Now, oct/Nov 2016

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق