تعد السياسة الخارجية لأي دولة تعبيراً عن مصالح دائمة لهذه الدولة، اذ أنه ليس هناك صداقة او عداوة دائمة بل هناك مصالح دائمة، وبما أن روسيا لديها العديد من المصالح التي تسعى إلى تحقيقها بإستخدام جميع الوسائل سواء الدبلوماسية أو الإقتصادية أو العسكرية، فقد سعت الى تحقيق تلك الاهداف في منطقة الشرق الاوسط، وفي منطقة الخليج العربية تحديداً، والتي يحتل العراق فيها اهمية كبيرة بالنسبة لروسيا بسبب اهميته الاقتصادية كونه سوق مهم للصادرات الروسية ولاسيما الاسلحة الروسية.

فالسياسة الروسية تجاه العراق بعد عام 2003 ومعارضتها للإحتلال الامريكي له، انما نابع من طبيعة المصالح الاقتصادية والعسكرية الروسية في العراق، اذ ان العراق يرتبط بعلاقات استراتيجية مع روسيا الاتحادية ومن قبلها الاتحاد السوفيتي السابق تعود الى عام 1944، الامر الذي جعل روسيا ترى ان اي هجوم عسكري على العراق يمكن ان يؤدي الى تهديد مصالحها في العراق والمنطقة، وفي مقدمتها العقود التجارية والنفطية للشركات الروسية في العراق.

وقد تميز الموقف الروسي من الحرب الامريكية على العراق في عام 2003، بالموقف الرافض للعمليات العسكرية ضد العراق، وقد جاء هذا الموقف منسجما مع الموقف الفرنسي والموقف الالماني، بل ذهب أكثر من مسؤول روسي الى حد التلويح باستخدام حق النقض في مجلس الامن الدولي، إذا لزم الامر لمنع تمرير اي قرار يمنح الحرب شرعية دولية.

لكن وعلى الرغم من ذلك، لم تذهب روسيا في موقفها الرافض للتحرك الامريكي ـــ البريطاني حتى النهاية، بل انها غلبت المنافع التي اعتقدت انها يمكن ان تجنيها نتيجة التناغم غير المعلن مع هذا المخطط بتوطيد ما تفترضه شراكة استراتيجية مع واشنطن على مصالح بعيدة المدى قد تكون اكثر اهمية وجذرية ولكنها تبدو اليوم غير مضمونة او من مخلفات عصر مضى.

وبعد احتلال العراق تبنت روسيا، موقفا يطالب بتسليم ادارة شؤون البلاد الى الشعب العراقي وضرورة خروج قوات الاحتلال بأسرع وقت ممكن حتى يتسنى للعراقيين استعادة السيادة الحقيقية، وابرز من اكد ذلك مندوب روسيا في مجلس الامن الدولي آنذاك (سيرغي لافروف)، اثناء تصويت مجلس الامن على القرار رقم 1483في 22 ايار/مايو 2003، الذي اضفى مشروعية على واقعة الاحتلال الامريكي-البريطاني للعراق، اذ قال: (ان التسوية العادلة والمشروعية للمشكلة العراقية لا يمكن ان تتم الا على اساس جماعي وعلى اساس ميثاق الامم المتحدة الذي يوفر اطرا قانونية يولي عليها لحل اكثر المهام تعقيدا في عصرنا، وتؤكد روسيا في المقام الاول مراعاة الدول القائمة بالاحتلال للقانون الدولي الانساني وضرورة عدم انتهاك انسانية الشعب العراقي، كما تؤكد روسيا على ضرورة ضمان سيادة العراق وسلامته الاقليمية وضرورة الاستعادة العاجلة لحق الشعب العراقي في تقرير مستقبله السياسي وحقه في السيطرة على موارده الطبيعية).

كما اتسم الموقف الروسي بتحميل الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا مسؤولية ما يجري في العراق، من انفلات أمني واضح وطالبت بضرورة الاسراع بتسليم السلطة الى العراقيين والاسراع بإخراج القوات الاجنبية من العراق. ومن جهة اخرى، اعربت روسيا الاتحادية عن استعدادها لدعم العراق في بناء دولة ديمقراطية مستقلة موحدة، ودعمه لجهوده في مكافحة الارهاب، واكدت اهتمامها في تعزيز العلاقات مع العراق مؤكدة حرصها على سيادة العراق ووحدة أراضيه في اطار الامن والاستقرار في منطقة الشرق الاوسط بعيدا عن التدخلات الاقليمية والدولية.

ولا شك فان طبيعة التحولات على الساحة العالمية، وانعكاساتها على كثير من المناطق وفي مقدمتها منطقة الشرق الاوسط، ساهم في تطور العلاقات الروسية ـــ العراقية، ومما ساعد على ذلك مجموعة من العوامل لعل اهمها:

- التحولات التي شهدتها المنطقة بدءاً بالملف النووي الايراني، وطبيعة التهديدات الارهابية التي يمثلها تنظيم داعش، فضلاً عن تفاقم الازمة السورية وتعدد ابعادها.

- التراجع في الدور الأمريكي في المنطقة، وهو ما اعتبرته روسيا فرصة سانحة لاغتنامها لتعيد دورها المفقود في المنطقة، خاصة وأن الانسحاب الأمريكي من العراق ترتب عليه تداعيات أمنية مثل مصدرًا لتهديد الأمن القومي الروسي عبر تحول العراق الى ساحة للتنظيمات الإرهابية التي انضم إليها شباب ينتمون إلى الجوار الروسي ويمثل تهديدا لها في حالة عودته.

- الحاجة الروسية إلى كسر الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة وأوروبا، فثمة حاجة روسية لفتح أسواق جديدة لصادراتها من السلاح من جانب، وإيجاد مصادر بديلة لوارداتها من البلدان الأوروبية.

- الدوافع العراقية إلى توسيع مساحة تحركاتها الخارجية بما قد يسهم في حل أزمتها السياسية والاقتصادية، فرأت أن التوجه إلى روسيا مع صعودها وسعيها لاستعادة نفوذها فرصة مواتية للدولة العراقية أن تعيد البناء، خاصة مع تراجع المساندة الأمريكية.

ولعل ما يعزز طبيعة السياسة الروسية الجديدة تجاه العراق هو موافقة روسيا في عام 2008 على توقيع اتفاق مع العراق يقضي بشطب الديون الروسية على الدولة العراقية والبالغ قيمتها 12,9 بليون دولار، اذ تم شطب 93% من قيمتها، وقد تزامن ذلك مع التوقيع على مذكرة التعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني بين البلدين، التي مثلت أساسًا قانونيًا لاستئناف تعاونهما بعد فترة طويلة من الفتور الذي سيطر على علاقاتهما خلال الأعوام السابقة.

ومما ساهم في التقارب بين البلدين ولا سيما في المجال العسكري ان القادة العراقيين العسكريين أكثر خبرة ودراية بالأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، اذ ان العقيدة الروسية هي التي كانت سائدة في الجيش العراقي منذ عام 1958.

وطبقا لبيانات الهيئة الفدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني، احتل العراق في عام 2014، المرتبة الثانية بعد الهند من حيث حجم الصادرات من الأسلحة الروسية (11% من الصادرات العسكرية الروسية)، ولتصبح روسيا من جهتها ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى العراق بعد الولايات المتحدة.

فضلا عن ذلك، ان العراق كان عليه ان ينوع من مصادر التسليح وان لا يعتمد على مصدر واحد، اي من غير الصحيح ان يكون الاعتماد فقط على السلاح الامريكي رغم تقدمه، بل لا بد ايضا من الاعتماد على السلاح الروسي، لاسيما وان العراق لديه خبرات متراكمة قادرة على التعامل مع الاسلحة الروسية، بينما يفتقد الى هذه الخبرات على صعيد الاسلحة الامريكية، ومن هنا فقد عملت الحكومة العراقية في الآونة الاخيرة على اعادة التفاوض مع روسيا الاتحادية بشأن عقد صفقات لشراء الاسلحة الروسية، وفي هذا الاطار ذكر مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والتكنولوجية الروسي (قسطنطين ماكينيكو) في تصريح صحفي، ان الحديث يدور حول تزويد العراق ب30 مروحية طراز (مي 28) وكذلك (42 مروحية من نظام م/ط بانستير)، مرجحا توقيع حزمة من الاتفاقيات بين البلدين لتزويد العراق بمقاتلات من طراز (ميغ29) اضافة الى المدرعات.

فضلا عن ذلك، فأن هذه الخطط تدل على عزم الحكومة العراقية شراء الاسلحة الروسية بالرغم من الضغط الامريكي، اذ ان القادة العسكريين العراقيين معتادون على السلاح الروسي أكثر من اي سلاح اخر. وكانت السفارة الروسية في بغداد قد اجريت مفاوضات مع الحكومة العراقية في 16 ايلول 2009، وذلك في اطار تسليح الجيش العراقي، في الوقت الذي اعلنت فيه وزارة الدفاع العراقية في 24 اب 2010، عن تسلم مديرية الطيران الجيش العراقي الدفعة الثالثة من طائرات (ام اي 17) وفقا لعقد سابق مع روسيا، كما وتسلم العراق في عام 2010 ثماني طائرات هليكوبتر متعددة الاغراض مقابل 156 مليون دولار من روسيا.

وفي اطار التعاون العسكري بين البلدين، فقد اعلنت روسيا عن عقد صفقة لبيع الاسلحة الى العراق في عام 2012، والتي بلغت قيمتها (4,2) مليار دولار والتي على اثرها اعلنت روسيا عن تزويد العراق بنحو (40) مروحية قتالية من طراز (مي 35 ومي 38 والمعروفة (بصياد الليل).

وهكذا يتضح ان السياسة الروسية تجاه العراق بعد عام 2003 انطلقت من اعتبارات المصلحة القومية الروسية في الحفاظ على مصالحها في المنطقة عموماً وفي العراق على وجه الخصوص، والحيلولة دون تعرض تلك المصالح لأي تهديد مهما كان مصدره، عبر تعزيز العلاقات مع النظام الجديد في العراق والحفاظ على ديمومة تلك المصالح والتعاون ولاسيما في المجال العسكري.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق