تهتم جميع الدول في بناء اقتصادات سليمة ومعافاة من المشاكل والاختلالات التي تمارس تأثيراً سلبياً على الاقتصاد والمجتمع في حال ظهورها او عدم اتخاذ الاساليب والاجراءات اللازمة والكفيلة باجتثاثها. وتتمثل المشاكل بشكل عام في عدم تحقق التوازن الاقتصادي، اي ان العرض الكلي لا يساوي الطلب الكلي، وهذا ما يدفع الى مزيد من البطالة وارتفاع المستوى العام للأسعار وانخفاض النمو الاقتصادي وعدم تحسن التوازن في ميزان المدفوعات.

ان بناء اقتصاد معافى يحتاج الى مجموعة متطلبات واهمها توفر الادارة ذات الكفاءة والقدرة على تشخيص المشاكل وايجاد الحلول المناسبة والكفيلة بحلها، وذات قدرة على استيعاب افراد البلد وتوظيفهم بما يخدم عملية البناء الاقتصادي بشكل ينسجم مع عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، إذ لا يمكن تحقيق البناء الاقتصادي مالم يتفاعل افراد البلد مع ما يراد تحقيقه في اي مجال ومن ضمنها المجال الاقتصادي.

كما ان مقومات بناء الاقتصاد لأي بلد تتمثل بتوفر المواد الاولية ورأس المال والايدي العاملة والارض الصالحة للاستخدامات الزراعية والعقارية وغيرها. لكن هناك ما يثبت ان توفر هذه المقومات في العديد من البلدان لكنها لم تستطع بناء اقتصادها كالعراق ودول الخليج وغيرها، وبالمقابل هناك بلدان تفتقر لهذه المقومات لكنها استطاعت ان تحتل مراتب متقدمة على مستوى العالم اقتصادياً كاليابان مثلاً، والسبب بسيط هو توفر الادارة الكفؤة ذات الرؤيا الواضحة الاهداف، لتجعل افرادها على علم بكل ما يُراد الوصول اليه، هذا ما جعل كل فرد يعمل بما يخدم رؤيا الادارة والعمل على تحقيقها، لان الفرد يشعر بان العمل على تحقيق تلك الرؤيا، يعود بالخير عليه، وهذا ما استطاعت ان تزرعه الادارة اليابانية في نفوس افرادها وبالتالي استطاعت ان تستوعب افرادها وبناءهم بشكل صحيح يخدم عملية بناء اقتصاد قوي.

يمتلك العراق اغلب -ان لم نقل كل- المقومات كالأراضي والايدي العاملة وراس المال والمواد الاولية، بالإضافة الى ميزة مهمة جداً وهي ان العراق لديه القابلية على تحقيق الطفرة النوعية في ظل توفر البيئة المناسبة، التي تجعله قادراً على بناء اقتصاده وبلوغ مراتب متقدمة على مستوى العالم، إلا انه يعاني من تحديات كبيرة منها داخلية واخرى خارجية، فالداخلية اهمها سوء الادارة الناجمة عن غياب الرؤيا الواضحة لديها وآليات تطبيقها على الواقع، التي كان من نتائجها شيوع الفساد واختلال الاقتصاد وزيادة البطالة وانحلال المجتمع.

اما الخارجية فهي تتمثل بالعولمة التي تحكم اغلب بلدان العالم سواء شئنا أم ابينا ومن حيث نشعر ام لا نشعر، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، عبر ادواتها المتمثلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية.

ومن اجل مواجهة التحديات الداخلية والخارجية والعمل على بناء الاقتصاد المعافى لا بُد من الاهتمام بأمور عدة، أهمها:

أولا: فسح المجال امام القطاع الخاص ومشاركته ومراقبته

على الدولة ان تفسح المجال امام القطاع الخاص للمشاركة في عملية بناء اقتصاد قادر على خلق فرص العمل من دون وجود بطالة مقنعة، لان القطاع الخاص سوف يخسر في حالة ظهور البطالة المقنعة وهذا هو حال القطاع العام في اغلب الدول المتبعة للنظام الاشتراكي، كما ان القطاع الخاص يكون اكثر كفاءة في نوعية المخرجات واستغلال الموارد واقل هدراً لها من القطاع العام. ومن الممكن دخول القطاع العام من باب المشاركة للقطاع الخاص لكسب مزايا التفكير الاجتماعي التي يمتلكها القطاع العام وكسب ميزة الكفاءة الانتاجية للمخرجات التي يتمتع بها القطاع الخاص، لكن حتى في ظل عدم المشاركة ينبغي على الدولة مراقبة اداء القطاع الخاص لمنع انتاج كل ما يضر بمصلحة البلد اقتصادياً واجتماعياً وامنياً وسياسياً. بحيث يكون عمل القطاع الخاص ضمن مبدأ " لا افراط ولا تفريط ".

ثانيا: مصارف بلا فوائد

في ظل سيادة نظام الفوائد فان صاحب رأس المال يفضل اقراض المال بفائدة على توظيفه في المشاريع الانتاجية، لان الفائدة مضمونة على اي حال وسوف يفضل ايضاً ان يقرض المال لأجل قصير، وبهذا سيضطر المقترضون ما دام اجل الوفاء قريباً الى استخدام اموالهم في مشاريع قصيرة الاجل، ليكون في امكانهم اعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها الى الرأسمالي الدائن. وعلاوةً على هذا فان رجال الاعمال في ظل نظام الفائدة، سوف لن يقدموا على اقتراض راس المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري او صناعي، ما لم تبرهن الظروف على ان بإمكانهم الحصول على ربح يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من اشكال النشاط في كثير من الظروف.

وأما عند الغاء الفائدة، وتحول الرأسماليين المرابين الى تجار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية، فانهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر اقل من الربح لانهم لم يضطروا الى تسليم جزء منه باسم الفوائد، وسوف يجدون من مصلحتهم ايضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الارباح في مشارع الانتاج والتجارة، وبذلك يتم تحقيق انفاق الناتج كله انفاقاً استهلاكياً وانتاجياً، بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة اليه، وتوقف تصريف جزء من المنتجات على انفاقه. وينبغي التزامن مع الغاء نظام الفوائد منع هجرة رؤوس الاموال نحو الخارج بحثاً عن الفوائد، لضمان تفعيلها في الداخل من خلال الضرائب على الاموال المكتنزة، وذلك لما لها من آثار ايجابية ستتضح فيما بعد.

ثالثا: تجهيز البنى التحتية

ان تجهيز البنى التحتية والفوقية من شأنه ان يزيد من سرعة بناء الاقتصاد، إذ ان توفير شبكات نقل المياه النقي ومد شبكة الصرف الصحي وكيفية نقل النفايات ومعالجتها وتوفير الكهرباء والخدمات التعليمية والصحية والسكن، تُعد مرتكزا اساسيا لأي تقدم في البلد ومرفق تنموي في غاية الاهمية لأي مجتمع متطور، حيث تعتمد عليه مرافق التنمية الاخرى واساس تقدمها، فكلما كانت متطورة تؤدي الى تخفيض تكاليف الانتاج والعكس صحيح، لذا فمن المهم تركيز العناية الفائقة بها وان يواكب تطورها مستوى العالم المتقدم.

رابعا: تفعيل الضمان الاجتماعي

يؤدي الضمان الاجتماعي دوراً كبيراً في دعم القطاع الخاص، إذ ان احساس الفرد بأنه مضمون من قبل الدولة وان مستوى كريماً من الحياة مكفول له حتى لو خسر في مشروعه، يمثل رصيدا نفسيا كبيرا، يزيد من شجاعته، ويدفع به الى مختلف ميادين الانتاج، وينمي فيه عنصر الابداع والابتكار خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان، وتلك الكفالة، فانه في اغلب الاحيان يحجم عن الوان النشاط والتجديد، خوفاً من الخسارة المحتملة التي لا تهدد ماله فحسب، بل تهدد حياته وكرامته ما دام لن يجد من يكفله ويوفر له اسباب الحياة الكريمة، اذا خسر ماله وضاع في خضم انعدام الضمان الاجتماعي، ولأجل ذلك لن تؤاتيه تلك الشجاعة وذلك العزم الذي يبعثه الضمان الاجتماعي في نفوس الافراد الذين يعيشون في كنفه.

خامسا: فرض الضرائب على الاموال المكتنزة

يؤدي حقن الاقتصاد بالإنفاق المتناسب مع الموارد المتاحة، لتلافي ظهور الاختلالات الاقتصادية، الى مزيد من النشاط الاقتصادي، ذلك الانفاق يتم عبر قيام الدولة بالإنفاق العام سواء كان استهلاكياً او استثمارياً، لكن في حالة نقص الاموال العامة فإن باستطاعة الدولة اللجوء الى فرض الضرائب على الاموال المكتنزة لدى القطاع الخاص مما يضطر الى اخراج الاموال الى دائرة الانتاج بدلاً من اكتنازها لأنه في ظل احتفاظه باكتناز الاموال سيعرضها الى فقدان قسم منها بفعل الضرائب. ان اخراج الاموال الى دائرة الانتاج يؤدي الى مزيد من الاستثمار والطلب على الايدي العاملة فتنخفض البطالة، كما يعني في الوقت ذاته زيادة النمو الاقتصادي فضلا عن تحسين ميزان المدفوعات، وهذا ما يعني التخلص من الاختلالات والمشاكل الاقتصادية والوصول اخيراً الى بناء الاقتصاد السليم.

سادسا: تحقيق التوازن بين الريف والمدن

ينبغي على الادارة الكفوءة اخذ مسألة التوازن ما بين المدن والارياف بعين الاعتبار، إذ ان ايلاء المزيد من الاهتمام بالمدن سيعرض الاقتصاد الى مزيد من المشاكل والاختلالات الاقتصادية وبالتالي لن نحصل على اقتصاد جيد. تلك المشاكل والاختلالات تظهر من خلال زيادة الهجرة من الريف الى المدينة للحصول والتنعم بالخدمات التي يحصل عليها افراد المدن كنتيجة لاهتمام الدولة بها. زيادة الهجرة تؤدي الى انخفاض انتاجية واهمال القطاع الزراعي وزيادة الطلب على المنتجات الزراعية وهذا ما يؤدي الى زيادة الاستيراد وزيادة الطلب على العملة الاجنبية واستنزافها وتدهور قيمة العملة المحلية وحصول اختلال لميزان المدفوعات هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى تؤدي الى التوليد المزيد من الضغط على الخدمات التي يحصل عليها افراد المدن فينخفض مستوى الخدمات ويتطلب الى مزيد من الانفاق لتوسيع دائرة الخدمات لتشمل الزيادة التي حصلت كنتيجة لزيادة الهجرة من الريف الى المدينة. في حين ان الاهتمام منذ البداية بتحقيق التوازن ما بين المدن والارياف سيقضى على كل المشاكل التي يمكن ان تظهر في حالة عدم تحققه، وبالتي نستطيع الحصول على اقتصاد لا ينطوي على المشاكل والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية.

سابعا: الاستثمار في رأس المال البشري

ان زيادة الاهتمام بالإنسان بوصفه هدف التنمية ووسيلتها يحتم بشكل انسيابي بناء اقتصاد جيد، وان زيادة الاهتمام بالإنسان تتم من خلال جانبين وهما الصحة والتعليم والثالث يكون نتيجة للأول والثاني، وهو مستوى المعيشة، اذ ان زيادة الاستثمار في الصحة والتعليم وبشكل مجاني او رمزي، يعني مزيد من الانفاق نحوهما، وهذا ما يدفع نحو بناء انسان سليم من الامراض العضوية والنفسية وفي نفس الوقت هو انسان متعلم، ومن ثم فهو يمتلك القوة البدنية التي تجعله قادراً على انتاج السلع والخدمات بجدارة، على عكس الانسان المريض بدنياً فهو لا يمتلك القابلية على الانتاج. ويمتلك ايضاً، القدرة الذهنية التي تجعله قادراً على انتاج الابتكار في شتى المجالات الحياتية، الذي يزيد من وفرة الانتاج وتدنية التكاليف وبأقل مدة، ولكن هذا يحصل بعد زيادة الانفاق على التعليم، إذ ان القدرة الذهنية تمثل القاعدة التي تستوعب التعليم، فتتراكم المعلومات وتزداد الخبرات فيزداد الابداع والابتكار، ومن ثم زيادة مستوى الدخل الذي يعبر عن مستوى المعيشة.

ثامنا: الارض لمن احياها ولكن ليس بشكل مطلق

في حال ان شخص ما يمتلك مبلغ معين من المال يؤهله لإقامة مشروعه الذي يصبوا اليه سواء أكان زراعياً بقسميه النباتي والحيواني، او صناعياً بقسميه الاستخراجي والتحويلي، او عقارياً او سياحياً …الخ، فان احد معوقات اقامة هذا المشروع هو عدم امتلاكه للأرض التي يقيم عليها المشروع الذي يؤدي الى انعاش المنطقة التي يقع فيها وهكذا بالنسبة للمناطق الاخرى واخيراً على مستوى الاقتصاد ككل في حال امتلاكه لتلك الارض، علماً ان الارض هي هبة الله للناس القادرين على احياءها من اجل فائدة الاخرين غير القادرين على احياءها، وفي نفس الوقت لا يمكن لشخص ما يمتلك القدرات الكبيرة التي تؤهله بحيث يستطيع احياء اغلبها وبالتالي يجعل الفرد (الذي لا يتلك القدرات الكبيرة) تحت سيطرته ويصبح هو الاول والآخر (المحتكر) ويصبح من الذين يتحكمون في مصير الاخرين، لذا ينبغي التدخل من قبل الدولة وتوزيع الاراضي على اساس العدالة والقدرة على الاستصلاح والبدء من الاقل قدرةً وصعوداً للأكبر قدرةً ولكن بشكل لا يضر بمصالح الاجيال الحالية والمستقبلية. وهذا ما يدفع نحو اقتصاد سليم يحقق العدالة بين الافراد في الوقت الحاضر وما بين الاجيال الحالية والمستقبلية.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق