عندما كلف فؤاد معصوم رئيس جمهورية العراق السيد حيدر العبادي بتشكيل حكومته الحالية بتاريخ 11/8/2014، جاءت هذه الخطوة بمثابة طوق نجاة للعملية السياسية الدائرة في العراق، صحيح ان الاختيار استند إلى الانتخابات الشعبية التي جرت في الثلاثين من نيسان من العام نفسه، إلّا أن حكومة العبادي هي أقرب ما تكون إلى حكومة انقاذ وطني منها إلى حكومة دستورية طبيعية؛ لأنها تشكلت في ظروف حرجة جدًا، فإقليم كردستان العراق كان على وشك إعلان الانفصال؛ بسبب تأزم علاقاته مع حكومة المالكي السابقة، وتنظيم داعش الإرهابي أهان المؤسسة العسكرية العراقية عندما حطم فرقًا عسكرية بكاملها وأخضع مساحات شاسعة من أراضي العراق لسيطرته وبات يطرق بقوة أبواب بغداد، والغليان الشعبي الداخلي الناقم على الأداء الحكومي والممتعض من سلوك النخبة السياسية وصل إلى درجة احتقان شديدة الخطورة مفتوحة على كل الاحتمالات، وتجاوز النصوص الدستورية، وتأزم العلاقة بين المكونات والقوى السياسية صار جزءًا لا يتجزأ من حياة العراقيين...

وقد جاء ترشيح العبادي لرئاسة الحكومة ليكون الأمل الأخير في إعادة الأمور إلى نصابها وإنقاذ بلده من محنة حقيقية تهدد وجوده القانوني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ويبدو أن السمات الشخصية وطريقة التفكير والمؤهلات التي يحملها العبادي تجعله محببًا أكثر من سلفه لدى كثير من الأطراف داخل العراق وخارجه، لكن هذه الأمور وحدها لا تكفي للحكم بنجاحه في المهمة الصعبة التي أُلقيت على كاهله، نعم، الرجل منذ توليه السلطة بشكل فعلي أظهر نوايا ومبادرات تنم عن رغبة حقيقية في تلافي الوقوع في الهاوية، إلّا أن ما يحدد مصير حكومته قدرته على مواجهة التحديات الخمسة الآتية:

1- التخلص من داعش

تنظيم داعش الإرهابي لا يوازيه في قوته الفكرية المتطرفة، وبنيته العسكرية الصارمة، وموارده المالية الضخمة، ورغبته المفرطة في القتل أي تنظيم ارهابي آخر. لقد نجح التنظيم في السيطرة على مناطق واسعة من العراق، وأعلن فيها دولة خلافته الموعودة، وهو ماضٍ في تأسيس هذه الدولة على أرض الواقع في سوريا والعراق وما قد ينجح في قضمه من أراضٍ من دولٍ أخرى في المستقبل. ونجح العراق بسبب دور مرجعية النجف، والحشد الشعبي، والتحالف الدولي، وتعاون المؤسسات الحكومية الأمنية والمدنية من إيقاف تقدُّم التنظيم وتحرير بعض المناطق الخاضعة لسيطرته، لكنّ ما تم تحريره وفقًا لمعلومات التحالف الدولي لا يزيد عن (1%) مما هو تحت سيطرة التنظيم، ولم تبدأ المعركة الفعلية في المراكز السكانية الأساسية للعرب السنة الذين مثلوا حاضنة طبيعية له لأسباب متعددة ترتبط بموقفهم من العملية السياسية بعد 9/4/2003، وسوء إدارة الحكومة السابقة، وبعض المواقف الإقليمية والدولية، فما تم تحريره ما زال يقع في مناطق الأطراف من ضواحي المدن والأرياف.

إن ما يزيد زخم داعش في هذه المراكز ليست قوته الذاتية وحدها، بل هو وجود فصائل عسكرية تناصره على الرغم من اختلافها الفكري معه كمجلس ثوار العشائر، وجيش الراشدين، وجيش النقشبندية وغيرها، فضلًا على امتعاض الشارع السني الذي شعر بالتهميش في الحقبة السابقة من جهة، وبالانفصال عن سياسييه الموجودين في الحكومة السابقة والحالية من جهة أخرى. وما لم يتم تغيير وجهة نظر الشارع السني بصورة إيجابية اتجاه الحكومة الحالية، وبروز قيادات سنية تحظى بالتقدير والاحترام والقبول من مكونها وتتفاعل إيجابيًا مع الحكومة ليتشكل مدٌّ شعبي سني يتعاون مع حكومة العبادي في التخلص من داعش ستبقى لهذا التنظيم سطوته وقوته، وما قد تحرره الحكومة من مناطق نهارًا سيسقط ليلًا مما يجعلها تواجه حرب استنزاف تنهكها، وتهدد السلم الأهلي بين العراقيين بشكل يفتح أبواب الجحيم على كل الخيارات البشعة. فنجاح العبادي في وضع استراتيجية مناسبة تنتهي بالتخلص من تهديد داعش وتمنع بروز قوى مماثلة له مستقبلًا يمثل التحدي الخطير الأول الذي يواجه حكومته.

2- انخفاض أسعار النفط

في لقاءه الأخير في مؤتمر ممثلي التحالف الدولي المناهض لداعش الذي عُقد في لندن منتصف شهر كانون الثاني الجاري عدَّ العبادي انخفاض أسعار النفط بأنه (كارثة) تواجه العراق، وهذا التشبيه حقيقي في بلد يشكل النفط أكثر من 90% من موازنته المالية السنوية، وليس لديه صندوق سيادي يحفظه من صدمات السوق، وبنيته الاقتصادية محطمة، ويخوض حربًا ضد قوى الإرهاب تستنزف موارده بشكل يومي، ووضع ميزانيته لعام 2015 مقدرة بسعر للنفط هو(60) دولارًا في حين انخفض سعر بيعه عراقيًا إلى ما دون الأربعين دولارًا. إنها كارثة اقتصادية بكلِّ المقاييس؛ فالحرب على الإرهاب لا يمكن تقليص مواردها لأنك ستعطي المبادرة لداعش على حساب الحكومة العراقية وهذا أمر غير مقبول تمامًا لتهديده الوجودي للدولة العراقية، والشعب العراقي اليوم فيه ما يقارب الـ (30%) تحت مستوى حدِّ الفقر وهذه النسبة ستزداد مع انهيار سعر النفط وستشتد ظروفها قسوة لتهدد السلم الاجتماعي، ولديه أزمة نازحين ومهجرين في الداخل يزيد عددهم عن مليونين شخص يواجهون ظروف حياتية صعبة، والبنية التحتية في العراق مخربة وستتعطل المشاريع التي كان من المفروض أن يتم بها إعمار هذه البنية، والبطالة الحالية للقوى العاملة العراقية ستزداد مع وقف سياسة التعيين والمشاريع الحكومية، وسترتفع الأسعار مع فرض الضرائب الحكومية والرسوم الكمركية وانخفاض مستوى الدخل الفردي.. كل هذا الواقع الناتج عن انخفاض أسعار النفط سيضغط بقوة على حكومة السيد العبادي، مما يتطلب وضع خطة اقتصادية جيدة تسهم في إعدادها خبرات عراقية ودولية عالية الكفاءة تساعد البلد على اجتياز مرحلة الانهيار في سعر النفط بأقل الأضرار، وترسم لمستقبل اقتصادي آمن من الصدمات وهذا يمثل التحدي الثاني للسيد العبادي.

3- محاربة الفساد المالي والإداري

العراق بلد زاخر بالثروات، وقد أنفق منذ عام 2003 إلى نهاية عام 2014 ما يقارب 500-700 مليار دولار، من دون أن يكون لذلك تأثير ملموس على بنية الاقتصاد، وقوة الدولة؛ بسبب استفحال ظاهرة الفساد المالي والإداري التي جعلت البلد يتصدر قائمة أكثر الدول فسادًا في العالم، ووصل الأمر إلى أن السيد العبادي بُعيد تشكيله للحكومة بقليل تحدث عن نيته في مواجهة حيتان الفساد حتى لو فقد في مسعاه هذا حياته مما يدل على حجم وقوة الشخصيات والمؤسسات التي تقف وراء الفساد في العراق، وما ظاهرة الجنود الأشباح، والمشاريع الوهمية، والصفقات المشبوهة، وغسيل الأموال.. إلّا أمثلة على مشكلة خطيرة تهدد قوة وهيبة واستمرارية الدولة في الصميم، فالبيت الموبوء لا يمكنه نشر العافية في محيطه، كما لا يمكن أن يكون مكانًا يقصده الأصحاء. إن السيد العبادي لا يمكنه أن يطالب شعبه بالصبر في محنته الأمنية والاقتصادية في الوقت الذي يتعرض هذا الشعب للنهب من بعض الشخصيات والمؤسسات المحسوبة على الحكومة، ولا يمكنه أن يؤمّن موارد مالية دولية تساعد العراق في الوقت الذي تجد طريقها إلى جيوب المسؤولين. فمحاربة الفساد المالي والإداري بحزم وقوة، من خلال تفعيل آليات المراقبة والمحاسبة، وتفعيل القوانين الجزائية الرادعة التي تحافظ على المال العام، وتضمن إيجاد منظومة إدارية جيدة يقف على رأس الهرم فيها أُناس يتصفون بالمهارة والأمانة والقدرة على تحمل المسؤولية تمثل التحدي الثالث الذي ينبغي على العبادي مواجهته.

4- التوازن الإقليمي والدولي

لا يُحسد السيد العبادي على البيئة الإقليمية والدولية التي يجد نفسه يتحرك فيها، فهي بيئة تخندق وصراع ومؤامرات لا تنقطع، فإيران من الشرق، ومن الشمال تركيا، ومن الغرب والجنوب دول الخليج وعلى رأسها السعودية، وهي جميعها قوى تتصارع فيما بينها وكل منها يرغب في كسر إرادة الآخر، وجميعها أيضًا مستعدة لعمل كلَّ شيء من أجل بسط نفوذها، والشقّ الأكبر من هذا الصراع تتم تصفية حساباته على الأرض العراقية بأدوات دولية وإقليمية وعراقية. والبيئة الدولية لا تقلّ شأنًا في سخونتها عن البيئة الإقليمية، فالغرب دخل في حرب باردة جديدة مع الدب الروسي بسبب القضية الأوكرانية والقضية السورية، وتنامي تهديد التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط ووصول خطرها إلى معاقل الغرب الرئيسة جعله ومعه أكثر دول العالم مندكًّا بقوة في أحداث المنطقة كلاعب رئيس ومشجع لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك.

في ظل هذه البيئة الإقليمية والدولية المتقلبة والمتصارعة، ومع هشاشة وضعف الدولة العراقية، ليس من مصلحة حكومة العبادي التورط في أي من الصراعات، وعليها أن تنجح في تحقيق التوازن في سياستها الخارجية بشكل يوحِّد مصالح الجميع على التصالح والتقارب على الأرض العراقية بما يحقق السلم والأمن الدوليين. ومهمة الحكومة هذه ليست سهلة كسهولة كتابة هذا المقال، بل هي معقدة وصعبة ودقيقة للغاية، وتحتاج إلى صنّاع سياسة خارجية على مستوى المرحلة والمسؤولية، فلعبة المحاصصة وتوزيع المناصب لا تنفع في هذا المجال، بل إن ما ينفع هو الخبرة والمهارة والقدرة على التأثير والإقناع في جميع الأطراف بما يحقق مصالح العراق العليا. وهذا هو التحدي الرابع أمام العبادي.

5- أزمة الثقة

عندما تحدث الحكيم الصيني كونفشيوس عن الثقة قال بما معناه: (إن الحاكم الذي يفقد ثقة شعبه به لا بقاء لحكمه)، وقد كانت الثقة مفقودة بين شعب العراق وحكامه منذ قرون طويلة، ومن جاءوا بعد سقوط البعث عام 2003 كانت بأيديهم فرصة تاريخية نادرة لتجسير العلاقة مع شعبهم واستعادة ثقته بحكامه، لكنهم – للأسف -اتخذوا سياسات خاطئة زادت الفجوة بين السلطة وقاعدتها الشعبية.

إن انعدام الثقة بالسلطة يجعلها كاذبة وأنانية ومجرمة في نظر شعبها حتى لو لم تتصف بهذه الصفات. وإذا كان العبادي يطلب من الناس الالتفاف حول حكومته لمجابهة التحديات التي تعترضها، فهو لن ينجح في مسعاه هذا ما لم يقترب من الناس، ويُشعرهم بوجوده بينهم، فيشاركهم همومهم، ويكاشفهم بما يتخذه من خطوات لبناء مستقبل آمن وسعيد لهم ولأبنائهم، ويكون قويًا وصادقًا في تحقيق المصلحة العامة ومحاسبة من يزيد من تعاسة شعبه. فالحصول على ثقة شعبه يمثل التحدي الأكبر أمام حكومة العبادي، الذي إن لم ينجح فيه سيفشل في مواجهة كل التحديات الأخرى.

هذه التحديات الخمسة تواجه السيد العبادي في عام 2015 وربما ستطارده طيلة مدة حكومته وهي التي ستحكم على مصير حكومته إن كانت ناجحة أم غير ذلك.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/كربلاء المقدسة
www.fcdrs.com

اضف تعليق