تشهد السياسة التركية في الأسابيع الأخيرة تحولات مهمة، فبعد خطاب سياسي متشنج انتهى بالقطيعة وتأزيم العلاقة مع عدد من الدول، تبدو تركيا اليوم أكثر من أي وقت مضى حريصة على إعادة العلاقات الطيبة مع اصدقائها القدامى وبطريقة قد تثير حيرة وارتباك المراقبين في المنطقة والعالم.

لقد بدأت سلسلة المواقف التركية الجديدة بإعادة تطبيع العلاقات مع دولة الامارات العربية المتحدة، ثم مع روسيا وإسرائيل، وها هو بن علي يلدرم رئيس وزرائها يلوح بتطبيع العلاقات مع العراق وسوريا بقوله:" قمنا بتطبيع العلاقات مع روسيا وإسرائيل وأنا واثق أننا سنطبع العلاقات مع سوريا أيضا. ولكي تنجح المعركة ضد الإرهاب ينبغي أن يعود الاستقرار لسوريا والعراق"، كذلك هناك إشارات لترطيب الأجواء مع مصر. هذا التبدل الواضح في السياسة التركية فتح الشهية لكم هائل من التحليلات داخل وخارج منطقة الشرق الأوسط في محاولة لسبر اغواره ومعرفة دوافعه، وكل منها ينظر الى الموضوع من زاويته الخاصة.

وفي هذه المقالة يدفعنا الفضول التحليلي الى أن نقيم ما يجري في تركيا من خلال ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول، عودة تركيا الى سياسة صفر مشاكل التي نادى بها رئيس وزرائها الأسبق احمد داوود أوغلو منذ عام 2009، تلك السياسة التي استطاعت من خلالها هذه الدولة ان تخطو خطوات واسعة من النجاح الاقتصادي والسياسي في الداخل والخارج، لكن سوء تقديرها للمواقف الدولية في المنطقة والعالم، والاندفاع العاطفي لبعض قياداتها اتجاه تطورات الاحداث في العراق وسوريا وملفات الربيع العربي... جعلها تحيد عن هذه السياسة واتباع سياسة تدخليه حاولت اثبات وجود تركيا وقدرتها على التحكم بمسارات الاحداث والمصالح المتقاطعة لمصلحتها، لكنها لم توفق فيها وارتدت عليها بشكل سلبي سواء على مستوى اقتصاد الدولة وأمنها الداخلي ام على مستوى علاقاتها مع جيرانها واصدقائها، وتتضح مرجحات هذا الاحتمال بقول بن علي يلدرم: أن تركيا بحاجة الى " زيادة اصدقائها وتقليص أعدائها".

الاحتمال الثاني، يقوم على قاعدة عدو يضمن المصالح خير من صديق يهددها، فقد جربت تركيا خلال المدة الماضية الانزلاق مع رغبات بعض الأطراف الإقليمية والدولية انطلاقا مما سماه البعض بحلم عودة امجاد السلطنة العثمانية او لدوافع طائفية (حماية الإسلام السني) او انكفاء الى الشرق الأوسط بعد يئسها من الانضمام الى الاتحاد الأوربي...

مهما كانت الأسباب وسواء اصدقت جميعها ام بعضها فان تركيا وجدت ان توثيق عرى صداقاتها مع بعض الاطراف على حساب اطراف أخرى ترتبت عليه مخاطر جسيمة، فالغرب وعلى الرغم من حلفه الاستراتيجي معها لم يأخذ بوجهة نظرها فيما يتعلق بمعالجة ملفات عدة كالملف السوري أو المصري أو الروسي، بل على العكس عاملها بازدراء لا يتناسب مع حجمها وطموحها، وقد تكون النوايا الكامنة والسياسات المعلنة لبعض قادة الغرب والمرتبطة بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط جعلت تركيا تجد فيها تهديدا وجوديا لكيانها السياسي، لاسيما في قضية التعاطي الغربي مع الاكراد في سوريا والعراق، ذلك التعاطي الذي حرك رغبة أبناء هذه القومية لإيجاد كيانات مستقلة لهم عن دولهم الاصلية تمهيدا لإقامة دولة كردية كبرى ينضوي تحت لوائها اكراد الشرق الأوسط، وهذا هو السيناريو الأسوأ بالنسبة لتركيا، بل وتراه تهديدا مباشرا لأمنها القومي الشامل.

كذلك ربما اكتشفت تركيا أن بعض اصدقائها الخليجيين، لا يكفي ان تشاركهم الانتماء المذهبي والتنسيق السياسي لتأمن شرهم، فالإرهاب الإسلامي المتطرف الذي يضرب امن تركيا ويهدم نسيجها الاجتماعي يتغذى ايدولوجيا من منظومة الفكر الوهابي الذي ترعاه بعض دول الخليج، كما يمول ماليا من أفراد وجماعات بعضها متنفذة في هذه الدول، وان تورط تركيا في دعم ورعاية بعض هذه الجماعات لم ينتج عنه قوتها، بل على العكس زاد من ضعفها وحرجها وانعزالها. وأصدقاء تركيا في المنطقة والعالم لم يستطيعوا تعويض خسائرها الاقتصادية الناجمة عن قطع علاقاتها مع دول معينة، فضلا على ما تشكله أزمات جيرانها القريبين من تحديات كثيرة مستمرة ومتصاعدة على أمنها واستقرارها.

هذه الأسباب وغيرها ربما جعلت صانع القرار التركي يصل الى قناعة، بأن التعايش مع أعداء منضبطين أفضل كثيرا من السير وراء أصدقاء تتسبب سياساتهم بتهديدات لا يمكن تحملها.

الاحتمال الثالث، ان تكون السياسة التركية الجديدة غير نابعة من قناعة حقيقية وعميقة لدى القادة الاتراك، وانما هي مجرد سياسة مخادعة هدفها تسليط مزيد من الضغوط على الحلفاء الغربيين والشرق أوسطيين لإجبارهم على تبني مواقف أكثر انسجاما مع مصالح تركيا وتوجهاتها السياسية.

ان تبني صانع القرار التركي للاحتمال الأخير يكشف عن قصور استراتيجي وخطأ جوهري ستكون له عواقب وخيمة، بل ان تعويله على هذا الاحتمال سيجعل الأمور أسوء بكثير، كما سيخسر مصداقيته وتأثيره في عالمه المتقلب والمأزوم. لذا لا نرى فائدة في هذا الاحتمال، ولا نتوقع ان تكون سياسة تركيا الجديدة مرتكزة عليه، وان حاولت في مرحلة ما الاستفادة من بعض فرصه للحصول على المزيد من المكاسب.

إذا، المرجح ان تركيا استوعبت درس التورط في مشاكل الآخرين بعد ان وجدت ان جحيمهم قد يتسبب باحتراقها، فقررت بهدوء الانسحاب من سياسة الاستقطاب لمصلحة الغير والتركيز على مصالحها العليا، مستفيدة قطعا من سياسة تصفير الأعداء وزيادة عدد الأصدقاء، ويمكنها أن تكتشف في النهاية سر الحكمة التي تقول إن أسوء عدو هو أفضل معلم، فتجد في اعدائها فائدة كبيرة لإعادة تقييم سياساتها بما يعود بالنفع عليها.

وعلى صانع القرار العراقي التحرك بسرعة للاستفادة من السياسة التركية الجديدة؛ لفتح نوافذ جديدة من التعاون بين البلدين وبما يعود بالنفع عليهما، لاسيما فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، وحفظ وحدة وسيادة العراق، وتوثيق عرى المصالح الاقتصادية، فتركيا اليوم تمد بخجل يدها الى خصومها، وعلى الخصوم مساعدتها من اجل ان تخطو الخطوة اللاحقة.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com
[email protected]

اضف تعليق