يبدو إن معركة تحرير الفلوجة قد ساهمت في تغيير الكثير من الرؤى الفكرية والإجرائية لتنظيم داعش الإرهابي، حيث أعادت ترتيب أولوية الأهداف الإستراتيجية التي كانت تهيمن على البنية الفكرية لهذا التنظيم وللقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، مما جعل الأمر أمام صياغات جديدة إنتقلت بمستوى تأثيرها للولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، بعد أن كانت مستبعدة من حساباتها الإستراتيجية القريبة المدى في أبسط تحليل. فالتأثير على الداخل قد يزيد من إحتمالات تقليص الضغط على الجماعات الإرهابية المقاتلة في العراق وسوريا مما يساهم في توفير مصدر جديد للإنتقال في مركز القوة نحو مناطق جديدة.

تبدل الأولويات.. مقاربات المعركة الحاسمة ضد الإرهاب

إتصل النطاق الفكري لتنظيم داعش الإرهابي في بداية التأسيس بعالمية الخلافة مقابل محدودية الغايات المستهدفة، فالأصل في التعامل هو الأهداف القريبة، أي الأهداف القريبة من نطاق الدولة التي تبتغي تأسيسها، وهذا ماجعل قدرتها في العراق وسوريا تكون عالية من حيث التأثير، وهي تختلف بهذا المنحى عن تنظيم القاعدة الذي كان يبرز الأهداف البعيدة في أوروبا والولايات المتحدة لأنها أكثر تأثيراً على العدو بحسب معتقدهم الفكري.

ان معركة الفلوجة وتقدم القوات المسلحة بمساندة الحشد الشعبي وأبناء العشائر أثر بشكل كبير على التوجه التقليدي لتنظيم داعش، حيث أصبح التنظيم أمام نهايات محتومة في العراق، أما في سوريا فإنه يتلقى ضربات إستراتيجية مؤثرة من قبل الطيران الروسي علاوةً على العمليات التي تقوم بها القوات النظامية السورية والفصائل المتطوعة لنصرة سوريا، مما يعني إن الدولة المرتقبة لتنظيم داعش لن تكون موجودة إذا ما أبقت على إستراتيجيتها في التعامل مع الأهداف القريبة والبعيدة.

إرتكز تنظيم داعش قبل بداية معركة الفلوجة على ضغط القوى السياسية الرافضة لمشاركة الحشد الشعبي في عمليات تحرير الفلوجة، إذ إن إنفراد الجيش بدون دعم عسكري من فصائل الحشد الشعبي أو أبناء العشائر سوف يربك مسار العمليات الخاصة بكسر تنظيم داعش، خاصةً إذا ماتبنى تنظيم داعش إسلوب الإشاعة بكسر ثقة الجيش بقياداته الميدانية أو السياسة، مما يضع الجيش أمام مأزق فساد جديد يكرر ماحدث في الموصل. وهذا ما يسعى إلى تمريره تنظيم داعش من خلال بعض القنوات التي يمتلكها إقليمياً أو داخلياً.

ووفقاً لذلك، فإن إعلان العمليات بمشاركة الحشد الشعبي وطيران التحالف الدولي، بعد أن حيد صانع القرار المشكلات المتعلقة بالثقة المفقودة بينهما والتي كان يعول عليها تنظيم داعش، إضطر التنظيم إلى الإنحراف عن مساره التقليدي ليتبنى عمليات جديدة تصل إلى أهداف مدنية داخل الولايات المتحدة لتغيير بعض المسارات المحتمل وقوعها مستقبلاً خاصةً مايتعلق بمعركة الموصل القادمة. فإعادة تنظيم التعارض بين الحشد الشعبي والتحالف الدولي في المعارك المشتركة سوف يساهم بشكل كبير في تقليص فرص الإنتصار أو تحجيمه.

تحفيز الإنكفاء الأمريكي مستقبلاً

منذ تسلم إدارة الرئيس باراك أوباما إدارة البيت الأبيض، وهناك ميول واضحة لإعادة التفكير بإستراتيجية الشؤون الخارجية، تتجه في خياراتها نحو مبادلة الأعباء بالمصالح، فالموازنة بين المهام الإستراتيجية والمصالح العالمية أصبحت غير مجدية وفق إستراتيجية التفرد، مما جعل مخططي الإستراتيجية مضطرين إلى تبني خيارات جديدة تضمن أكبر قدر من المشاركة في تحمل المسؤوليات العالمية.

ووفقاً لذلك فإن المقاربة الجديدة للأعمال الإرهابية التي تبناها تنظيم داعش في فلوريدا سوف تزيد من الرغبة الأمريكية في توسيع مسؤوليات الشركاء في التحالف الدولي خاصةً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أولويات المرشحين للرئاسة المقبلة في هذا الشأن. إذ كان لخطاب المرشح الجمهوري ترامب بشأن وضع إجراءات مشددة للهجرة وإعادة الإلتزامات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية بحسب برنامجه الإنتخابي منهجاً محتملاً للأداء الإستراتيجي الأمريكي في مجال مكافحة الإرهاب.

علاوةً على أن منحى الدبلوماسية الذكية الذي تتبناه المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون سوف يزيد من إعتمادية الولايات المتحدة الأمريكية على الحلفاء خاصةً في مجال تركيز الجهد المعلوماتي بحسب الكثير من التقارير.

ماذا بعد هجوم اورلاندو؟

إن الهجمة التي إستهدفها تنظيم داعش في مدينة اورلاندو بولاية فلوريدا تبدو انها تسعى إلى توليد ضغوط جديدة على الولايات المتحدة الأمريكية بشأن إلتزاماتها الدولية المقبلة في مجال الحرب على الإرهاب، فردة الفعل المحتملة والتي سترتبط برؤى الرئيس القادم سوف تتجه في إحتمالين:

الإحتمال الأول، الإنكفاء النسبي بسبب ضغوط الجماعات الإرهابية على داخل الولايات المتحدة خاصةً في مجال إستهداف المدنيين، والإستعاضة عن الحرب المباشرة بالقوة الناعمة والحرب الذكية، وهذا ماسوف يحفز التعاون الإستخباري مع قوى أساسية في مجال مكافحة الإرهاب كالحالة مع باكستان، التي يمكنها تأمين القيام بعمليات نوعية في هذا المجال.

أما الإحتمال الثاني، فهو يتجه نحو قيام الولايات المتحدة بعمليات في الجانب العسكري والسياسي كردة فعل على هذه الأحداث، وتكرار مشهد أحداث الحادي عشر من أيلول مع بعض الإختلاف، وبالتالي تشديد خيارات القوى الداعمة لتنظيم داعش أو المتهمة كذلك كالحالة مع التقارير التي قدمت للكونغرس بشأن المملكة العربية السعودية.

إن المؤشرات في العموميات تتجه نحو تأطير المشهد الأول، فخيارات المرشحين للرئاسة الأمريكية تتجه نحو تأمين الداخل الأمريكي بأقل الخيارات تكلفة، وهذا مايجعل خيارات الإنتقال نحو إستراتيجية الإندفاع التدريجي أو المنضبط والتي صاغ ملامحها الرئيس باراك أوباما.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق