المطالبات بالإصلاح التي فاقمتها احتجاجات العراق أنعشت امالنا بنجاح التجربة الديمقراطية في بادئ الامر، عندما ارتقى هذا الشعب بنخبوية عالية وسلمية حضارية للمطالبة بالحقوق والخدمات والعدالة وتجفيف الفساد.

اذ شهدنا تحولا غير مسبوق في حق التعبير عن الرأي وحق التظاهر السلمي في البلد، كما شهدنا تحولا اخر متمثل باستبعاد القمع والاضطهاد كأسس للتعامل مع هذه الاحتجاجات، اذ لم تعمد الحكومة واجهزتها الامنية بادئ الامر لقمع وتجريف وتسييل هذا الفعل الوطني والحضاري، ولكن تم تجاهل السلطات لهذه المطالب، ويبدو من نتائج هذه الاحتجاجات، انها وضعت كل القوى السياسية والحكومية امام خيار وحيد هو الالتفاف حول اجراء الاصلاحات المطلوبة، ولجوء الكل الى التكتيكات ذات الطابع التسويفي، واتبعوا طقوس الالتفاف والتسويف التي لو استمروا بها، فأنها ستؤدي الى وضع طرق عيشهم على شفير الحياة.

يبدو ان هناك من يريد فعلا التسويف والمماطلة او تحقيق اغراض سياسية، برزت لنا جهات قررت ان تكون عرقلة اي اصلاح او حل هو قدرتها الشرائية الوحيدة للمواجهة، فمنهم من تأفأف من الحزم الاصلاحية ومنهم من حاول اختراق التظاهرات وتعكير وحدتها وسلميتها او تجييرها لصالحه، عبر تحريك اذرعه الطويلة لعرقلة الاصلاحات، ومحاولة خلق فجوة بين المجتمع والحكومة، والمرجعية الدينية والحكومة وقد نجحوا، اذ اضطرت الاجهزة الامنية ان تواجه هذه التظاهرات بالسلاح هذه المرة بعدما ايقنت اختراقها بالمندسين كما تقول ثم لجأوا الى قضية انحسار المنجزات الامنية على داعش والانفجارات في بغداد لربط الاصلاحات بالأجندات الامنية، مما ادى الى مساهمتهم بفوضى الامن وشغل الناس والحكومة عن الاصلاح.

قد يكون لداعش ايضا دور في اختطاف الاصلاحات والتظاهرات لكن لابد من حواضن سياسية فاسدة هذه المرة تتواطأ معهم لان المصالح ستلتقي هنا، اضافة الى التفجيرات الانتحارية في مناطق العراق الامنة، وسيكون للشركاء السياسيين كلمتهم في التعويق لانهم سيبعدون عن مراكز النفوذ ومغانم الفساد، كونهم لا يؤمنون ان هنالك حدودا للنهب المنظم الذي مارسوه، ويعدوه منظومة راسخة تكوينا اصيلا في نمطية النظام السياسي برمته عبر غنمهم المناصب، وسيكون لمن زايد وسيزايد على المتظاهرين دورا في اختطاف المطالب، عبر ادانة الفساد وهم المفسدون، والمطالبة بمحاسبة السراق وهم السراق، وسيتسللون في كل تظاهرة لسرقتها او تصويرها بصورة التخريب.

وسيكون لصراع الارادات الاقليمية والدولية الحصة الاكبر في اختطاف الاصلاحات والتظاهرات او تجريفها، هذه القوى تريد ان يبقى العراق مساحة لهم لتحقيق مصالحهم عبر نخر البلد وتعطيل دينامياته كافة، حتى يكون سوقا رائجا لهم سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، بجعل العراق حالة سياسية واجتماعية تابعة لهم باستدامة، او جعل العراق مقاولة طويلة الامد للاستثمار وتصفية الحسابات عبر السماح للمطلوبين والمحرضين والمشاكسين ان يخططوا ويتصدوا لمنابر الاعلام الكاذب لكي يتمموا مؤامرتهم على العراق وشعبه.

ان مداخل اختطاف الاصلاحات وتظاهرات العراق كبيرة جدا وخطيرة، وارى انهم سيحققون اختراقا لها او تسكينها خاصة حينما تحول الفاسدون الى مناضلون ضد الفساد، لكن صوت الشعب الذي رمى حجرا كبيرا في مياه راكدة والمرجعية الرشيدة سيكونان حاملين للميزان لتأطير مداخل الاختطاف والمضي بتحقيق الاصلاحات من جهة ودحر الارهاب من جهة اخرى.

فاتخاذ قرار التحشيد باتجاه الفلوجة هو جزء من الاصلاحات واللجوء الى الحرب مع داعش للتخلص من ضغط الاحتجاجات الشعبية وضغط المرجعية على وجه الخصوص امر ايجابي، لكن عليه ان لا يبتلع الاصلاحات ولا بأس من تأجيل الاحتجاجات قليلاً من اجل حسم قضية الفلوجة، لان الامن اهم في هذه المرحلة، وايضاً اذا ما كانت الاحتجاجات سبباً في دفع الحكومة للقيام بواجباتها، فهذا امر محمود.

انا من دعاة عدم الربط بين الاحباط السياسي والنجاح في الحرب ولهذا أفضل ان تبقى العمليات الحربية ضد الارهاب بيد القوات الامنية مع انسحاب كامل للأدوار السياسية من هذه الحرب، حتى نساعد في سير المعركة وفق الخطط التي وضعت لها ونحقق النصر الناجز.

علينا لملمة مشاكلنا السياسية والعودة الى تنامى الاصلاحات، وحتى يتنامى دحر الارهاب لابد من اعادة تسليط الضوء على الاصلاحات ومحاربة الفساد ومواجهة تحديات الدولة السياسية والاقتصادية وعدم ربط الامن بالسياسة من اجل خدمة المعركة مع الارهاب ومع الفساد بذات الوقت ولهذا ادعو الساسة والشعب الى العودة لعنوان الاصلاحات، لان الاصلاحات مطلب لا يمكن التهرب منه الى الأبد، خصوصاً اذا ما كانت وسيلة التهرب هذه تؤثر سلباً على المعركة بشكل مباشر، وجدت بفتح معركة الفلوجة أقصى طموحات الحكومة لاحتواء هجوم الصدريين على المنطقة الخضراء والهروب من الإصلاحات.

إن العبادي ان تمكن من تلافي الوقوع في الفخ (تحرير الفلوجة) واستئصال هذا التنظيم الارهابي منها فعلا دون مؤاخذات واكلاف بشرية عالية والاستمرار في دعم مشروع الاصلاحات بذات الوقت فسيخرج من هذه المشكلة بموقف سياسي معزز. وأما إن أخفق، فستكون الاستقالة هي أشرف طرق الخروج من السلطة بالنسبة اليه وسيكون انتظار تشييع جثمان حكومة العبادي حقيقة وليس افتراضا.

حان الوقت للإصلاحات السياسية والبرلمانية، وهذا يتطلب من القوى السياسية الدخول في مرحلة شدّ الأحزمة الأمنية والسياسية، ومحاولة بناء حائط صد لمواجهة الأخطار الاخرى المحتملة المتمثلة بأسقاط التجربة السياسية بعد ٢٠٠٣، وتوفير عوامل التحصين التي تجعل العملية السياسية قادرة على مواجهة أي عاصفة اخرى محتملة، ولعل أحد أهم شروط التحصين السياسي هو الحوار بين العراقيين وتعاضدهم وابتعادهم عن فتح النوافذ أمام (الهواء الأصفر) الذي قد ينفذ من خلال الخلافات الداخلية، أما الركيزة الثانية، فتتمثل بالحفاظ على معادلة: ان تنامي الاصلاحات يقوض الارهاب. لابد ان نبقى على أهبة الاستعداد في مواجهة كل الاحتمالات لمواجهة أي طارئ.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق