ما من دولة او منطقة معينة تتعرض لظروف استثنائية كالحروب او الفيضانات او الزلازل …إلخ، دون ان تترك هذه الظروف آثار سلبية على هذه الدولة او المنطقة، التي تحتاج الى دراسة ووضع الخطط اللازمة والكفيلة بإصلاحها واعادتها الى ما قبل حدوث الظرف الاستثنائي على اقل تقدير، فضلاً عن السعي لرفع مستوها الاقتصادي والاجتماعي بالشكل الذي يضاهي الدول او المناطق المتقدمة. فالعراق تعرض في 10حزيران/يونيو 2014 إلى هجمة شرسة تمثلت في سقوط محافظة نينوى التي تمثل اكبر محافظات العراق جغرافياً وتاريخيا على يد تنظيمات ارهابية لأسباب داخلية من حيث الخيانة أو التآمر أو غيرها، وأخرى خارجية تتمثل بالصراع الاقليمي من اجل السيطرة على العراق وجعله تابعاً للدول الدافعة والداعمة لهذه التنظيمات التي استمرت حتى اصبح تحت سيطرتها ثلث ارض العراق.

تحديد فريق مختص

(صندوق اعادة اعمار المناطق المتضررة)

من اجل اعادة اعمار المناطق المتضررة لابد من اختيار فريق مختص يتكفل بتوزيع مهام اعادة الاعمار بدءً بتقديم الدراسات والتقارير حول مسح المناطق المتضررة وتقدير حجم الاضرار، ومروراً بتحديد حجم الموارد اللازمة لإعادة الاعمار ومصادرها هل هي مصادر داخلية أم خارجية ؟، وانتهاءً بالتنفيذ ومتابعته. ويمكن أن يتمثل هذ الفريق بـ"صندوق اعادة اعمار المناطق المتضررة " الذي تأسس بناءً على المادة 28 من قانون الموازنة الاتحادية لعام 2015، وبدء اعماله في 18/2/2015 بعد ان تمت تسمية د. عبد الباسط تركي سعيد رئيس ديوان الرقابة المالية الاتحادي ومحافظ البنك المركزي سابقاً رئيساً له. وخصصت الحكومة العراقية في موازنة 2015 مبلغاً اولياً قدره (500) مليار دينار عراقي.

موارد الصندوق

وبما ان موارد الصندوق تتكون من المنح التي يمكن ان تقدمها الدول والمنظمات الدولية بالإضافة الى ما تخصصه الدولة من اموال من خلال قانون الموازنة الاتحادية، إلا انه لم يتم تُخصص أية مبالغ في موازنة 2016 لهذا الصندوق من ناحية ‼، وذلك بسبب اعتماد الموازنة العامة بنسبة كبيرة جداً على الايرادات النفطية التي تتسم بعدم الاستقرار كنتيجة للتقلبات التي تحصل في اسعار النفط العالمية بفعل عوامل اقتصادية وسياسية ومناخية وغيرها، وبالتالي فهي لن تستطيع الاستمرار في تمويل الصندوق الذي يتحمل على عاتقه مسؤولية اعمار المناطق المحررة والتي ستتحرر ؛ لذا اصبحت من مهام الصندوق التنسيق بين المنظمات الدولية والوزارات العراقية في عمليات اعادة الاعمار السريعة وينفذ عمليات اعادة الاعمار متوسطة وطويلة الاجل.

وعلى الرغم من اجراء الكثير من اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات مع ممثلين وسفراء الدول والمنظمات الدولية حول مساعدة العراق في اعادة الاعمار، إلا انها لم تُثبت لحد الآن مدى واقعيتها وصدق نواياها واثبات جديتها عن طريق دعم الصندوق فنياً ومالياً بل اقتصر الامر على حديث واللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات ‼‼.

دعوات متضادة لإعادة الاعمار

ودعى البعض الى تطبيق مشروع مارشال-(الذي صدر رسمياً باسم برنامج الانعاش الاوربي ERP) الذي يهدف إلى اعمار الدول الاوربية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، الذي اصدرته الولايات المتحدة الامريكية آنذاك كنتيجة لكساد الاقتصاد الاوربي وانتشار البطالة والفقر بشكل واسع هذا ما خلق مناخ ملائم لانتشار الشيوعية، وخوف الولايات المتحدة على مصالحها الاستراتيجية في حال سقوط الدول الاوربية في فلك الاتحاد السوفيتي. وبما ان امريكا كانت الاقل تضرراً من الحرب وصاحبة الاقتصاد الاقوى، فحاولت توجيه الانظار نحوها وتوسيع نطاق الرأسمالية على حساب الشيوعية في تلك البلدان (الاوربية)، فخصصت حكومة الولايات المتحدة الامريكية 13 مليار دولار امريكي الذي ساهم في تشغيل المصانع وتقليل البطالة وانعاش اقتصادات الدول الاوربية، واسهم (المشروع) أيضاً في توثيق العلاقة ما بين الدول الاوربية من ناحية وما بين الدول الاوربية والولايات المتحدة من ناحية اخرى، واثمرت نتائج المشروع ببروز تكتل اقتصادي اوربي اخذ على عاتقة مواجهة المد الشيوعي في العالم.

ويرى البعض الآخر ان تطبيق مشروع مارشال من دول مجاورة (ذات اغراض سياسية) اذا ما تبرعت بمنح ومساعدات لإعمار هذه المحافظات ما هو إلا اداة لكسب ولاء هذه المحافظات وربما اقتطاعها او ترتيب وضع فدرالي لها تكون لهذه الدول (المجاورة وغير المجاورة) اليد المطلقة فيه لإقامة مفاقس لأجيال جديدة من المتطرفين تعدهم لمراحل لاحقة.

المبالغ المطلوبة لإعادة الاعمار

المناطق المحررة والتي ستتحرر من الارهاب (ديالى، صلاح الدين، نينوى، كركوك، بابل، بغداد) في العراق بحاجة الى وضع الخطط المناسبة والكفيلة لإعادة النهوض بها خصوصاً بعد ان اوضحت التقارير ان مجموع المبالغ المطلوبة لإعادة اعمار تلك المحافظات قد بلغت (2356584363) الف دينار عراقي، بالإضافة الى حاجة محافظة الانبار إلى (2124469776) دينار عراقي، فيكون المجموع الاجمالي (2358708832776) دينار عراقي. إذ قدر مسؤولون محليّون في كلّ من الأنبار وديالى أنّ معدّلات التّخريب والتّدمير طالت 80 في المئة من البنى التحتيّة للخدمات الأساسيّة في محافظاتهم، ممّا يشمل قطاعات الجسور والكهرباء والصحّة والماء والتّعليم، هذا مضافاً إلى القضاء على الموارد الماليّة للعراق في المناطق المحتلّة، منها القطاع الزراعيّ في تلك المناطق المعروفة بوفرة أراضيها الزراعيّة.

هذا المبلغ (2358708832776) دينار عراقيي اذا تم الحصول عليه من الدول والمنظمات الدولية بشكل منح ومساعدات غير مشروطة وقروض ذات فوائد ميسرة جداً ومدد سماح وتسديد طويلة سوف لن يرهق الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق في الامد القصير والمتوسط بل يعمل على تنشيطه وتفعيله وزيادة معدل النمو الاقتصادي وتقليص حجم البطالة وغيرها، لكن هذا الامر يحتاج الى نظام ادري يعمل بمهنية، من حيث متابعة خطة تنفيذ اعمار كافة القطاعات ولجميع المحافظات ومراقبة نسب الانجاز فيها بشكل مستمر ومراعاة المدة الزمنية اللازمة لتنفيذها، للحفاظ على هذه الموارد من هدرها -لأنه معروف ان العراق يحتل مراتب متقدمة في مؤشر الفساد (الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية) أي يقع في المرتبة الثالثة عربياً من بين 18 بلداً والمرتبة السابعة عالمياً من بين 168 بلداً في عام 2015- وتوظيفها بالشكل الامثل إذ ان مجرد اهمال ادارتها بالشكل المطلوب ستنعكس الآثار بشكل سلبي على الاقتصاد العراقي من ناحية والمناطق المطلوب اعادة اعمارها من ناحية ثانية.

حلول بديلة

وفي حالة لم يحصل العراق على هذه المبالغ اللازمة لإعمار تلك المناطق بالشروط الميسرة سيكون الحل -المكره- المطروح المتمثل بالاقتراض من الخارج ذو الشروط العسيرة كالفوائد الكبيرة وقصر مدة السماح ومدة الاسترداد، سواء من الدول المتقدمة او المؤسسات الدولية او غيرها، هذا ما سينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الامد المتوسط (بالنسبة للمواطن العراقي بشكل عام ومواطني المناطق التي سيتم تعميرها بشكل خاص) وذلك من خلال زيادة الضرائب على اغلب شرائح المجتمع منتجين ومستهلكين من اجل الايفاء بمتطلبات تسديد القروض وفوائدها خلال مدة التسديد فضلاً عن آثار المشروطية التي يمكن تفرضها المنظمات الدولية مقابل القروض كتحجيم تدخل الدولة في الاقتصاد، رفع الدعم المقدم للصناعات الوطنية وغيرها، هكذا شروط تزيد من حجم البطالة وتقلل من تنافسية السلع الوطنية، وبالتالي فان هكذا اقتراض يمكن ان تكون اثاره سلبية على الاقتصاد العراقي.

كما ويمكن تحديد حجم الثروات الطبيعية الموجودة في باطن الارض التي يمكن استخراجها بشكل اقتصادي وبأسرع وقت ممكن وبأقل التكاليف من خلال التعامل والتعاقد مع الشركات الرصينة والمشهورة في العالم. فعلى سبيل المثال بلغ احتياطي محافظة الانبار لوحدها 53 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و10مليار طن من الفوسفات، ويتوقع اكتشاف 300 مليار برميل من النفط الخام بالإضافة إلى الثروات الاخرى كالذهب والحديد واليورانيوم والكبريت والفضة، وهكذا بالنسبة لبقية المحافظات والموارد الطبيعية. وأما بالنسبة للشركات الرصينة المشهورة في العالم كشركة رويال داتش شل التي تعد عملاق النفط والغاز وهي أكبر شركة في العالم، وشركة موزايك الأمريكية تُعد أكبر شركة في العالم لمنتجات الفوسفات النهائية، وشركة ستيت غريد الصينية التي تُعد أكبر شركة في مجال الكهرباء في العالم وغيرها من الشركات.

ان اجراء التعاقد مع هذه الشركات وغيرها على اساس حجم تلك الثروات الطبيعية الموجودة في المناطق المُراد اعادة اعمارها والمباشرة فوراً بالإنتاج بعد تجهيز مستلزمات الانتاج سيخلق الموارد اللازمة لإعادة اعمار هذه المناطق دون الاضرار بالواقع الاقتصادي والاجتماعي في الامد المتوسط فضلاً عن الامد الطويل، إذ ان الشركات سوف تحصل على اجور الانتاج كنسبة معينة من الانتاج حسب الاتفاق مع الجانب الوطني. وينبغي ان يكون ضمن شروط التعاقد استخدام افضل الطرق التعدينية لاستخراج الخامات من أعماق المناجم، الترشيد في استخدام المعادن، وغيرها من الوسائل التي تقلل درجة استنزاف الثروات الطبيعية. وينبغي ايضاً التعاقد مع اكثر من شركة ضمن نفس الاختصاص لإنشاء نفس المشروع ولكنه يقع في محافظة اخرى للإسراع في عملية الاعمار من ناحية وتخفيض التكاليف من ناحية اخرى، وهكذا بالنسبة لجميع المحافظات المطلوب اعادة اعمارها، والمشاريع المُراد انجازها ضمن مختلف الانشطة الخدمية والتوزيعية والانتاجية.

يُعد توفير الموارد المالية المفتاح الاساس في عملية اعادة الاعمار المناطق المحررة والتي ستتحرر؛ لذا تم التركيز في الفقرات السابقة على آلية توفير الموارد المالية المطلوبة. لكن في حالة تعذر الحلول السابقة او عدم الرغبة في اللجوء اليها لأسباب اقتصادية او اجتماعية او سياسية يمكن اللجوء الى التعامل والتعاقد مع الشركات الرصينة بطريقة الدفع بالآجل اي بناء المشاريع الخدمية أو التوزيعية أو الانتاجية مقابل حصول الشركة على مستحقاتها المالية مستقبلا حسب الترتيب الزمني للاتفاق المبرم ما بين الطرفين. وهذا ما طرحه وزير الاعمار والاسكان طارق الخيكاني عند لقاءه مع ممثلي شركة اوكلاهوما العالمية المختصة في مشاريع والبناء والاسكان في 17/1/2016 وقال "ان الشركة أبدت استعدادها لبناء 100 الف وحدة سكنية وفق أحدث المواصفات العالمية بطريقة الدفع بالآجل بعد اخذ الضمانات اللازمة لإتمام المشروع"، وأبدى الوزير "استعداده للتعاون عبر توفير الاراضي اللازمة لإتمام هذه المشروع واعداد التصاميم الهندسية لكونه سيسهم بشكل كبير في الحد من ازمة السكن في البلد -العراق بشكل عام والمناطق المتضررة بشكل خاص-".

وعلى رغم الحوار الايجابي ما بين الطرفين لكن للأسف، لم يبدأ التنفيذ ولو على مستوى التعاقد فضلاً عن المباشرة في اعادة الاعمار لحد هذه اللحظة ‼‼.

ينبغي اتباع هذه الطريفة (الدفع بالآجل) ولكن بشكل اكثر جدية ؛ لعدم توفر الموارد المحلية اللازمة لإعادة الاعمار، وتطبيقها على كافة القطاعات والمحافظات المتضررة مع مراعاة الاولوية لهذه القطاعات والمحافظات، فقبل اعادة النازحين الى مناطقهم لابد من قيام وزارة الداخلية أو الدفاع او التعاون فيما بينهما لإخلاء الارض من آثار تحريرها أو ما تركته التنظيمات الارهابية من قنابل وعبوات وصواريخ وغيرها، هذه الخطوة لابد ان تتم على كل المحافظات بعد تحريرها، ثم الاهتمام بالمستلزمات الضرورية ذات الامد القصير لسير الحياة اليومية بشكل طبيعي كتوفير الماء والكهرباء والوقود ومد شبكات المجاري ومياه الصرف الصحي وتوفير وسائل النقل والخدمات الصحية والتعليمية المؤقتة وغيرها.

وينطوي اختيار هذه المشاريع بناءً على معايير هي: حجم الضرر من ناحية وحجم السكان من ناحية اخرى والاستقرار الامني على مستوى المحافظات من ناحية ثالثة، ثم إيلاء الاهتمام الى البنى الاجتماعية ذات الامد المتوسط والطويل مثل: بناء المدارس والمستشفيات والجامعات وتشييد المجمعات السكنية …إلخ ويتم اختيارها بناءً على نفس المعايير، وأخيراً بناء المصانع والمعامل الانتاجية التي تهتم في توفير السلع لإشباع الحاجة المحلية من ناحية وتصدير الفائض منها الى الخارج من ناحية اخرى.

وفي الختام، ان العراق لا يستطيع تمويل الصندوق المسؤول عن اعادة اعمار المناطق المتضررة كنتيجة لانخفاض موارده بسبب اعتماده على النفط بالدرجة الاساس الذي تتعرض اسعاره للتقلبات الشديدة بين الحين والآخر. وفي نفس الوقت ان المنظمات الدولية لا تمنح الصندوق اموال كافية من ناحية ومن دون فرض الشروط كمقدمة للحصول على القروض من ناحية اخرى. كما ان تطبيق مشروع مارشال في المناطق المتضررة لا يخلو من كسب الولاء وتحشيد مواطنيها على الحقن الطائفي، وان اللجوء الى الاقتراض ذو الفائدة الكبيرة ومدد السماح والتسديد القصيرة سيرهق الاقتصاد العراقي في الامد القصير والمتوسط.

ويبقى الحل الافضل لإعادة الاعمار هو:

اما اجراء التعاقد مع الشركات العالمية المتخصصة في استخراج الثروات الطبيعة مع مراعاة طرق الاستخراج لتقليل استنزاف الموارد الطبيعية وبيعها من قبل الجهات المحلية والحصول على الموارد اللازمة لإعادة الاعمار، ومن ثم قيام الجهات الوطنية العامة او الخاصة او التعاون فيما بينهما بإعادة اعمار المناطق المتضررة بشرط وضع نظام اداري لا يسمح ولا يدع مجالاً للفساد.

وأما اتباع التعاقد ايضاً مع الشركات العالمية المتخصصة في كافة القطاعات المطلوب اعادة اعمارها ولكن من دون توفر الموارد المالية بالوقت الحالي، أي اتباع طريقة الدفع بالآجل لتك الشركات، وحسب المدة الزمنية المتفق عليها، وبعد اعادة الروح الاجتماعية والاقتصادية لتلك المناطق.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق