على الرغم من ان الامر ليس بالجديد، الا انه لا يمكن تجاهل ذلك الاسهال الاعلامي الذي يملأ الاثير والذي تكاد تغص به العديد من الصحف والقنوات التلفزيونية من خلال التنظير والتحليل والحوار الذي لا يتجاوز مفردة "التقسيم" وتسويقه كأمر واقع قد تجاوز مرحلة النقاش ولم يبق منه الا ترسيم الحدود واعلان الدويلات الجديدة..

بل ان الحديث عن تقسيم العراق أصبح حديث الصباح والمساء، وهناك العديد من الاصوات التي لم تعد تستطيع اخفاء تذمرها من طول العقود التي بقي فيها العراق على حاله، وكيف لم تهتدي الطبقة السياسية الى هذا الحل السحري الذي سيرسم البسمة على شفاه العراقيين ويعيدها نورا وعدلا بعد ان ملأتها وحدة التراب العراقي ظلما وجورا، متمنين متعجلين اليوم الذي يكون فيه العراق اسطر مبعثرة في سطور التاريخ مبتهلين ان يكحلوا عيونهم بخارطة ولا عراق فيها..

وان كنا نجد بعض العذر لهذه الحمية المفرطة للتقسيم من قبل بعض الاقلام -والاصوات -التي تكتب تحت ضغط الفواتير المستحقة ومتطلبات ادامة المستوى المعيشي المتناسب مع سخاء اعطيات الانظمة العائلية، الا ان دخول العديد من العناوين والفعاليات السياسية العراقية على خط التبشير بتقسيم العراق على اساس انه الحل المثالي لكل المشاكل الامنية والاقتصادية والاجتماعية التي نعاني منها قد يثير الكثير من الاسئلة حول تناقض هذا الخطاب مع شعاراتهم الانتخابية حول الوحدة والمصالحة والسيادة والتي تسللوا من خلالها الى مناصبهم الحالية وما جدوى اللجوء لهذه الشعارات اصلا اذا كان التقسيم والانعزال العرقي والطائفي هو الهدف الاسمى للعراقيين وهو الاستجابة الطبيعية لصلواتهم وقيامهم.

فالكثير من الاصوات، وحتى من على منبر مجلس النواب، تتحدث باستسهال مريب، عمَّا ستسفر عنه الاحداث الجسام التي تدور رحاها في دول المشرق العربي- بالذات- من تقسيم جديد للمنطقة يبعثر خرائط سايكس- بيكو نحو اعادة تشكيل المنطقة وفق اعتبارات لا يبدو في الافق ما يوحي بانها ستكون حاسمة في وضع مخرجات معقولة للمستعصيات الامنية والسياسية التي تضرب بأطناب المنطقة، والاكثر اثارة للريبة هو ان هذا الحماس منقطع النظير للفكرة لا يقابله عناية في تقديم المعطيات المعقولة التي تبرر مثل هذا الطرح الا بتكرار ممل حد الاجترار لتصريحات غربية او مقالات او محاضرات تتناول التقسيم كمآلات متوقعة للحروب التي تدور اليوم على ارض العراق.

فبعد الذخيرة القوية التي زود بها نائب الرئيس الأمريكي، جو بايدن دعاة التقسيم، عندما كان نائبا عن الحزب الديموقراطي في الكونجرس الأمريكي عام 2006، من خلال تبنيه الدعوة إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق كردية وسنية وشيعية يتمتع كل منها بحكم ذاتي، وتصريحات رئيس الأركان الأمريكي المنتهية ولايته الجنرال ريموند أودييرنو التي قال فيها إن تحقيق المصالحة بين مكونات الشعب العراقي لا ينفك يزداد صعوبة، معتبرا أن تقسيم العراق ربما قد يكون الحل الوحيد لتسوية النزاع، نجد ان دعاة التقسيم تواضعوا حد التهليل لأي مقالة او عمود يدعم هدفهم حتى لو كان مرمى على قارعة صحافة الرمل والغاز..

بل ان البعض اصبح يعيد نشر ادبيات مواقع التواصل الاجتماعي وشطحاتها كوثائق مصدقة حتى لو كانت بالغة الوضع والتدليس.. وهناك من اصبح يتعاطى مع اي دعوة الى وحدة العراق، ولو بشقه العربي على الاقل، على انه نوع من التجاوز على مستقبل العراقيين، او انه نابع من "قوى مؤيدة للخارج" كما وصف غالبية الشعب العراقي احد صحفيي السحت والنفط الحرام، وهو ما قد يثير الكثير من علامات الاستفهام عن مفهوم السيادة او الوطن -بل وحتى الشرف- لتلك الجهات.. وموقفهم من النظام والدولة والقانون والدستور، وهو ما داسته ولاكته وغيبته مثل هذه القوى التي تتقاذف المسؤولية عن المأزق المهين الذي وضع فيه الشعب المكلوم..

كما انه من المحير تبرير استمرار العديد من الجهات الاتكاء على مشروع بايدن العتيد والتعتيم على تراجع الرجل العلني عن طروحاته من خلال الدعوة في نيسان 2015 لعراق موحد لمواجهة تنظيم داعش الارهابي.. بل لولا تصريح السيد علي بابير الى أن البعثات الدبلوماسية للدول الأوروبية في الأقليم، لاتؤيد فكرة استقلال الكرد وانفصالهم عن العراق، لاستمر اعلام التقسيم بالترويج الى ان انفصال كردستان مطلب دولي رئيسي..

وهذا الكلام لا يعني باننا نملك ترف التغافل عن العديد من المؤشرات التي تصب في مسار تمزيق العراق وتشظية مقومات التعايش بين ابناء شعبه، ولكننا نطالب وندعو السياسيين الى طرح هذه المشاريع من منابر محافظاتهم المحررة وليس من فنادق اربيل وعمان خاصة مع تلك الوثوقية التي تتساقط من افواه العديد من العناوين بتعبيرهم عن متبنيات مكون كامل واساسي واصيل من مكونات الشعب العراقي الكريم، وبالأخص من وصل -او وصلن- منهم الى شرف تمثيل الشعب من خلال ركوب موجة الدعوة الى سيادة العراق ووحدة اراضيه ورفض الاملاءات الخارجية ولكنه يبني مواقفه الان عن طريق ترديد تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي..

لا نبغي من هذا الكلام مصادرة رأي الداعين الى التقسيم والتشطير، ولا نأمل بصحوة وعي سياسي قد تطال بعض الارادات المغيبة بفعل الاسراف في ربط مصير البلد برؤى وسياسات القوى الدولية والاقليمية بغض النظر من تطابقها او عدمه مع مصلحة ومستقبل العراقيين ولكن من حقنا ان ندعو تلك العناوين الى مصارحة الشعب بحقيقة مواقفهم من سيادة العراق ووحدته الترابية، والاهم هو في المنتظر فعليا من تجزئة العراق الى دويلات قد تقع تحت ضغط الصراعات الداخلية بين الفصائل المتناحرة التي جمعتها رغبة الانتقام من حكومة المركز وقد يفرقها -بالضرورة- التنازع على الموارد والثروة والسلطة ثم مناطق النفوذ.. وهو ما سيكون أخطر بالتأكيد من التعايش في دولة وطنية تتحصل على العديد من المقومات التي يمكنها من تحقيق العيش الكريم لجميع افراد الشعب اذا تحول النضال نحو ترسيخ مؤسسات الدولة والاعلاء من مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الانسان.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق