لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، قبل عام أو عامين كما هو عليه اليوم، فحالة الرعب التي يبثها في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، وتهديداته المستمرة بضرب الدول الإقليمية والدولية، والاساليب الوحشية التي يتبعها، زادته قوةً وصلابة؛ بسبب العقيدة المتطرفة التي يستخدمها ضد خصومه، وتوظيفه لمفهوم القوة الناعمة بشكل ملفت للنظر.

فعندما اجتاح التنظيم المتطرف محافظة الموصل وبعض أجزاء من محافظات العراق في حزيران/ يونيو2014، أغلب دول العالم لم تستنكر ما قام به التنظيم، ولم تستنكر اعماله الإرهابية كما فعلت بعد هجمات باريس، وإنما صور ذلك الاجتياح الداعشي للعراق إقليمياً ودولياً بأنه ثورة ضد سياسة الاقصاء والتهميش التي تبعتها الحكومة العراقية السابقة، نعم، ربما كانت الحكومة العراقية سبباً في ذلك، إلا أن تنظيم "داعش" كان واضحاً في اهدافه وفكره الإيديولوجي المتطرف، وما أن ثّبّت سيطرته على بعض المدن حتى بدأت سياسته وفكره المتطرف يتضح تدريجياً.

وربما لا نبالغ إذا قلنا بأن سيطرة التنظيم على محافظة الموصل، كان بتعاطف إقليمي ودولي وبردود فعل عربية وإقليمية إيجابية، ومباركات دولية. وبما أن شعار التنظيم "باقية وتمدد"، أعلن بعدها بأن أربيل هي الهدف القادم للدولة الإسلامية، وبذلك بدأ بتهديد المصالح الأمريكية والغربية في شمال العراق؛ ليتشكل بعده التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والذي جاء كردة فعل لتهديدات داعش لإقليم كردستان والمصالح الأمريكية.

بعد ذلك اخذ التنظيم يتجه صوب العاصمة بغداد، واغلب الدول كانت تنتظر تلك اللحظة، بالرغم من صعوبتها، لكن القوات العراقية والحشد الشعبي استطاعا أن يمسكوا زمام المبادرة والتصدي للتنظيم، لتصبح بعدها المعارك بين الطرفين معارك كر وفر "ومعارك استنزاف" بإرادة أمريكية. ثم غير التنظيم الاسم من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" إلى تنظيم الدولة الإسلامية، متوسعاً في اهدافه، لاسيما مع تزايد عدد المتطرفين الأوروبيين القادمين إلى سوريا والعراق ومع تصاعد الأزمة السورية، مما شكل خطرا على أوروبا، وهذا ما حدث بالفعل في فرنسا، في عملية شارلي إيبدو، والعمليات الانتحارية في المملكة العربية السعودية والكويت ومصر وتونس ولبنان، كذلك التنظيمات السرية التي امسكت بها قوات الامن الاماراتية، وتهديدها للأمن الخليجي، فضلاً على التدخل الروسي في سوريا، الذي زاد من الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في انهاء داعش وليس احتواءه.

كل ذلك غير من نمط التفكير الدولي والإقليمي تجاه تنظيم "داعش" بأنه تنظيم يهدد العالم بأسره وليس تنظيم محلي أو إقليمي وأن الخطر قادم على أوروبا في ظل سياسية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة وحلفائها مع التنظيم، وتزايد عدد المهاجرين العرب إلى أوروبا، وغياب الحلول السياسية للأزمة السورية، وحالات التطرف التي شهدتها أوروبا في ظل سياسة التنظيم الناعمة "الإلكترونية" المفتوحة، التي يستخدمها لجذب المتطرفين من أوروبا ليستخدمهم سلاح ضد القارة العجوز، لاسيما ضد الدول الفاعلة منها، كفرنسا وبريطانيا والمانيا.

احداث باريس الاخيرة وتهديدات داعش المستمرة للدول الأوربية، على ما يبدو أنها القشة التي ستقصم ظهر "داعش" ولو على مستوى التحركات والتحالفات العسكرية؛ لأنها لم تثمر شيء بعد. ففرنسا نجحت في إعلان الحرب على داعش في مجلس الأمن، وكسبت كل دول أوربا إلى جانبها لاسيما بريطانيا التي اعلنت الحرب أيضاً، وسيطلق ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني في هذا الاسبوع استراتيجية شاملة لمواجهة تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، فضلاً على دعم الولايات المتحدة الأمريكية للموقف الأوروبي، مما دفعها إلى تفعيل تحالفها الدولي ضد تنظيم "داعش"، فضلا على التحالف الروسي الإيراني ضد التنظيم في العراق وسوريا، وانتصارات القوات الأمنية العراقية ضد التنظيم.

إذاً هي حرب شاملة ضد تنظيم "داعش"، واغلب الدلائل تشير أن العالم والدول الكبرى ستنهي ورقة "داعش" وتكسب الحرب ضد التنظيم المتطرف، إلا أن نجاح الحرب لم يحدد مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية والحد من خطر انتشاره في ظل سياسة القوة الناعمة والاستراتيجية الالكترونية التي يتبعا التنظيم، فضلاً على التفكك الداخلي التي تعاني منه دول منطقة الشرق الأوسط، والتي تجعل منها بيئة مفرخه للتطرف.

فمستقبل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، يمكن أن يّحدد في ثلاث أبعاد، أولاً: البعد المحلي، وثانيا: البعد الإقليمي، أما البعد الثالث: فهو البعد الدولي، فضلاً على المواجهة العسكرية المشتركة وتوحيد الرؤى بين الابعاد الثلاث، والعمل المشترك ضده، وهذه الأبعاد يمكن أن تنتج استراتيجية عالمية وشاملة.

البعد المحلي أو الوطني:

من غير الممكن أن تنجح سياسة المواجهة العسكرية ضد تنظيم "داعش" في ظل حالة عدم الاستقرار والتناحر السياسي بين القوى السياسية الداخلية، والحكم الطائفي وسياسة التهميش وتصاعد الازمات الداخلية، لأي دولة من الدول. ويمكن الاعتماد على السياسة الرشيدة والحكم الصالح والتنمية السياسية والاقتصادية واعتماد مفهوم المواطنة واحترام الدستور والقانون والمشاركة السياسية الفعالة والمصالحة والحوار السياسي والديني اساساً لأي مواجهة ضد تنظيم "داعش"؛ لأن التنظيم عادة ما يستغل تلك الفراغات الناتجة عن الاختلاف السياسي وعدم الاتفاق في إدارة الدولة لصالحه. فمن غير الممكن أن تبحث عن استقرار سياسي داخلي في ظل نظام سياسي متفرد سلطوي يسعي إلى السلطة دون الدولة، ويتبع سياسة الاقصاء ضد الآخر. ولهذا فلا يمكن للدول العربية أن تنجح في مواجهة تنظيم "داعش" أو التنظيمات الإرهابية الأخرى في المستقبل القريب والبعيد في ظل التفكك الداخلي واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي، وحالات التهميش والاقصاء وحرمان الآخر من المشاركة السياسية.

البعد الإقليمي:

للبعد الإقليمي أهمية قصوى في انجاح البعد المحلي "الداخلي"؛ لأن من الصعوبة بمكان أن تنجح سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في ظل محيط إقليمي غير داعم، وغير مستقر، ولهذا يعد البعد الإقليمي أو الاستراتيجية الإقليمية مكملة للاستراتيجية الوطنية. وعليه يمكن أن تعزز الدول العربية الجهود الداخلية باستراتيجية إقليمية وعربية مستقبلية من شأنها أن تعالج كل حالات التطرف في المنطقة. فالمنطقة اليوم، والدول العربية خصوصا احوج ما تكون إلى الاستراتيجية الإقليمية لمكافحة التطرف والإرهاب، والتحرك بشكل إيجابي لدحر "داعش" على غرار التحركات الدولية التي شهدتها أوروبا وأمريكا بعد هجمات باريس الأخيرة.

البعد الدولي:

كسب الرأي العام الدولي له أهمية كبيرة في تغير مجريات الاحداث في المنطقة، لاسيما الدول العظمى والفاعلة في النظام الدولي، على الرغم من أن هذا البعد عادة ما ينقسم إلى قسمين "مؤيد ومعارض" اتجاه احداث منطقة الشرق الأوسط في الغالب، وربما بعض الاحيان مؤيد على مضض، نتيجة الضغوط الخارجية والداخلية، كما هو حال تحالف الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم "داعش" في بداية اجتياحه للعراق؛ وربما لهذا الموقف اسباب كثيرة لسنا بصدد ذكرها. إلا أن التطور الحاصل بعد اعتداءات باريس التي على ما يبدو أنها وحدت المجموعة الدولية في مكافحة تنظيم "داعش" بشكل جدي؛ ليس فقط اعتداءات باريس وإنما التدخل الروسي ايضاً كان له علاقة بذلك؛ فضلاً عن تنامي خطر التنظيم على أوروبا، وازدياد عدد المهاجرين، الذين يهددون أمن أوروبا. فالعالم الاوروبي والأمريكي اليوم بصدد وضع استراتيجية عالمية وشاملة ومستدامة لأنهاء داعش في المنطقة.

وعليه، فأن مستقبل تنظيم "داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى في المنطقة والعالم، لا يتوقف على ثقل الاسلحة وتحشيد العالم ضد التنظيم الإرهابي، وإنما على جدية التحالفات في انهاء التنظيم عن طريق وضع استراتيجية شاملة بين دول المنطقة والعالم، وبين توحد الاستراتيجيات أو الابعاد "المحلية والإقليمية والدولية"؛ لأن المواجهة العسكرية من الممكن أن تحجم التنظيم وتحتويه، إلا أن غياب الاستراتيجية الإقليمية والوطنية، واستمرار حالات الانقسام الداخلي والإقليمي وعدم الاستقرار في المنطقة سوف تكون مشجعة لنمو التطرف والإرهاب؛ ولهذا فمن الممكن أن تعمل تلك الابعاد الاستراتيجية بآنً واحد، وبرؤية مشتركة وبمختلف الاتجاهات "السياسية، العسكرية، الاقتصادية، والثقافية والأمنية" فضلاً على المراقبة الالكترونية المشتركة، وتشجيع الحوار بين الأديان والطوائف.

وبشكل عام، ستكون استراتيجية ما بعد احداث باريس، هي استراتيجية الانتقال من الاحتواء إلى التصعيد، وإعادة النظر في أزمة اللاجئين، وتوّحد المجموعة الدولية لمكافحة داعش، وبنفس الوقت كشفت تلك الاحداث، عقم الاستراتيجية الأمريكية وتحالفها الدولي الذي تشكل لمحاربة التنظيم المتطرف من قبل. وعليه يمكن أن يستغل صانع القرار العربي بشكل عام، والعراقي بشكل خاص، تداعيات احداث باريس، والموقف الدولي في تعزيز الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب وطرد داعش، ومن الممكن ايضاً أن تستغلها دول المنطقة، لاسيما الدول العربية في بلورة الاستراتيجية الإقليمية للوصول إلى تفاهمات ورؤى مشتركة بعيدة المدى، من شأنها أن تعالج مشكلة التطرف المتأصلة منذ سنوات في المنطقة، والتي حالت دون استقرارها وتطورها؛ لأن غياب الاستراتيجية الإقليمية لمكافحة التطرف والإرهاب سيفشل كل التحركات الدولية والمحلية. فعند تحقيق كل نصر ضد المتطرفين الحاليين يتم تشكيل حركات متطرفة جديدة وأعمال عنف جديدة، وبهذا يفرض على الحكومات العربية والدول الإسلامية، إصلاح حقيقي وإيجاد حكومات لا تمارس سياسات قمعية.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق