q
ان تأكيدنا على مفهوم العرقنة لا يعني التخلي أو الانسلاخ عن عمقنا العربي أو الإقليمي، والانكفاء على الذات، أو عدم التواصل مع الآخر، ففي زمن العولمة انتهى هذا الأمر، وإنما المُراد هو رد اعتبار لهويتنا الوطنية التاريخية، والمتمثلة بهذا الإرث الحضاري الذي يحاول البعض أن يتجاهله من خلال مسخ الشخصية العراقية...

لعلَّ أبرز ما يُميّز هذه البلاد عن غيرها من أمم الأرض هو ذلك السبق التاريخي والحضاري الذي شَمل مناحي شتى، حتى باتت مصدر إلهام روحي وقدوة حسنة للكثير من الحضارات اللاحقة. وكانت تفيض بما تمتلكه من قيم روحية وحضارية على من حولها، بل وصل الأمر ببعض الغزاة لهذه البلاد إلى أن يغيروا من مفاهيمهم العقائدية والثقافية والاجتماعية، وأن يعتنقوا مفاهيم وطبائع هذه البلاد لما تحمله من قيم رفيعة وسمو إنساني. واستمرت هذه الحال حتى في الحقب التاريخية التي يعتبرها البعض بأنها كانت مظلمة. ولكن هذا الأمر لم يستمر، فمع بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم حتى بات العراق كنظام سياسي مستورداً للحكام والإيديولوجيات والمُسميات.

ومما يلفت النظر في هذا الجانب هو ما يمكن تسميته بظاهرة تهميش وتجاهل المُسميات العراقية ذات الأبعاد التاريخية التي كانت تُطلق على مدن وقصبات وأماكن حيوية في بغداد وبقية المحافظات وإحلال تسميات مستوردة محلها جُلبت من وراء الحدود، وكذلك محاولة طمس وتجاهل لرموز وطنية ومحطات تاريخية شكلت منعطفاً كبيراً في تاريخ العراق وبدوافع شتى. 

وقد بلغ هذا الأمر ذروته في العقود الأخيرة مع تولي البعثيين زمام الأمور في البلاد، حيث تم تغيير واستبدال أسماء رموز حضارية وشخوص عراقية خالصة لها عمقها التاريخي والحضاري بأخرى مستوردة، حتى بات للمحافظة الواحدة من محافظات البلاد أكثر من مُسمى، ناهيك عن التغيير الذي طال أسماء حواضر عُرفت بين الناس بتلك المُسميات التاريخية. 

وهكذا امتلأت ميادين وشوارع مدننا وعرصاتها في تلك الفترة بأسماء ومُسميات غير عراقية، تراوحت بين الوقائع الحربية، وأمراء الحرب، وبعض الأسماء المغمورة في التاريخ، فعلى سبيل المثال يمكن للمتجول في شوارع وساحات بغداد وبعض المدن العراقية أن يشم رائحة الدماء وهي تفوح من أرصفة تلك الشوارع والساحات، كما يمكن أن يسمع صهيل السيوف وسنابك الخيل وهي تزمجر في تلك الأماكن من خلال تلك المُسميات التي تثير الرعب والريبة بعد أن تم استبدالها بأسماء معارك وانتصارات وهمية، وأسماء أبطال لا يُقهرون.  

إنَّ بغداد التي يعني اسمها في ما يعنيه البستان، أو جنينة الحبيب، ومدينة السلام، ها هي أسماء أحيائها وشوارعها وميادينها ومحلاتها العريقة تحمل عناوين المعارك وأسماء الحروب، وأسماء شخوص غير متفق عليها، تراوحت بين ساحة ميسلون والطيران ووهران وبيروت وعدن ودمشق، وشوارع سيف سعد وزين القوس وبورسعيد و14 رمضان وحيفا وفلسطين والمغرب وتونس وعمان، وهلُم جرّا. حتى بات على البغدادي أن يحمل معه أطلس خرائط، وأن يحفظ على ظهر قلب أسماء مدن وبلدات ربما حتى سكان تلك المدن لا يعرفون الكثير عنها. 

ومع اعتزازنا بهذه البلدان والأماكن التي تربطنا معها روابط ووشائج روحية وتاريخية عميقة إلا أنَّ هذا لا يعني الاستخفاف والتجاهل لتراثنا الوطني وموروثنا الحضاري. وهنا السؤال الذي يثير الشجون، هل خلت أرض العراق وعبر تاريخه الموغل في القدم من رموز وأسماء حضارية وطنية حتى نستعين بأسماء من وراء الحدود؟، ثم لماذا هذا التهميش والتجاهل لعناوين عراقية كان لها ولا يزال القدح المُعلى في إغناء الموروث الحضاري للإنسانية؟

بدليل أنَّ الكثير من البلدان في العالم قد أطلقت على مدنها ومراكزها الثقافية والحضارية تسميات مستوحاة من حضارة بلاد ما بين النهرين، في حين يحصل هذا التجاهل والإهمال في بلادنا، وحتى عندما استعار البعض أسماء وعناوين تاريخية إلا أنَّ إطلاقها على المُسمى الجديد قد جاء في غير محله، وهذا ما فعله النظام السابق عندما استعار مفردة (سومر) ليطلقه على (سكائر سومر)، وكذلك الحال بعد التغيير، فما حصل من استبدال لبعض المُسميات من قبل جهات رسمية أو غير رسمية لم يكن موفقاً على اعتبار أنه جاء كرد فعل عاطفي وعفوي غير مدروس مما يستوجب إعادة النظر فيه أيضاً. إنَّ اختيار أسماء الأماكن والشوارع والساحات العامة يعكس شخصية البلد وثقافته ومزاج شعبه وتاريخه واعتزازه بأبطاله، وكل من أسدى خدمة لهذا البلد. 

خلاصة القول أنَّ تأكيدنا على مفهوم العرقنة لا يعني التخلي أو الانسلاخ عن عمقنا العربي أو الإقليمي، والانكفاء على الذات، أو عدم التواصل مع الآخر، ففي زمن العولمة انتهى هذا الأمر، وإنما المُراد هو رد اعتبار لهويتنا الوطنية التاريخية، والمتمثلة بهذا الإرث الحضاري الذي يحاول البعض أن يتجاهله من خلال مسخ الشخصية العراقية وإفراغها من أي مضمون حضاري. 

ونعتقد أنَّ الأمر مقصود ومدبر، وهو محاولة إبعاد وتغييب الموروث الحضاري العراقي بكل ما يعنيه من قيم وثقافة وطنية عن أذهان أجيال عراقية تجهل الكثير عن هذا الموروث، وإلا كيف نُفسر أن تُسمى أهم ميادين وشوارع عاصمتنا الحبيبة بأسماء لا تمت بصلة إلى تاريخها الثقافي والحضاري. 

ولهذا فالأمر بحاجة إلى مراجعة وتأمل، ودعوة وطنية للجهات المعنية لوضع الأسس السليمة لتسمية شوارع وساحات ومحلات بغداد بعيداً عن الأسماء التي شوّهت تراث بغداد وتاريخها من أسماء رموز النظام المباد، وأزلامه ومناسباته، واستفزازاته ومعاركه. واختيار أسماء تـُـكرِم عظماء البلاد، ورموزها التاريخية، وقادتها وشهداءها ومفكريها وعلماءها وشعراءها. 

وهناك توجه للأخذ بهذه الطروحات والمقترحات، وهذا ما لمسناه من خلال إطلاق اسم الجواهري والوردي على مدن قيد الإنشاء، وكذلك إطلاق اسم الفنان فائق حسن على أحد المُجسرات، وفي النية تعميم هذه التجربة على مدن وأماكن أخرى. وعلى الرغم من ارتباط تغيير الأسماء واختيارها بفلسفة نظام الحكم إلا أنَّ هذا لا يمنع من اختيار الأسماء والمُسميات المُتفق عليها، والتي تَجمع ولا تُفرق.

اضف تعليق