q
يجب على الإنسان أن يستمد عقيدته في الجزئيات وفي بعض الكليات التي لا يتوصل إليها العقل، من منبعها الصافي وهو القرآن الكريم ومفسروه الذين هم الرسول وأهل البيت، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يضل ضلالاً بعيداً؛ بل العقل بنفسه يأمرنا بالرجوع إلى العالم حينما لا نعلم...

لا شك في أن العقل حجة باطنية جعلها اللّه عزّ وجلّ في كل إنسان، بينما جعل الأنبياء حجة ظاهرة، ومن مهمات الأنبياء أن يثيروا في الناس دفائن العقول.

ولكن ما هو مدى سعة العقل وكشفه عن الحقيقة في مجال العقائد؟ فهل يشمل ذلك كل ما يتعلق بالمعتقد أم لا؟

إن مدى العقل محدود، فهو يكشف بعض الأمور أو يحكم في بعضها، فلو لاحظنا عقلنا بتجرد عن أي حكم مسبق فسنلاحظ أنه لا يكتشف إلّا بعض الأمور:

فمنها: بعض الأمور العامّة التي تتعلق بمسائل العقيدة، حيث يمكن لكل إنسان أن يكتشف بعقله أن لهذا الكون خالقاً يتحلّى بالكمال ويتنزّه عن النقص كما أنه يكتشف أصل المعاد، بمعنى أن الخالق حينما خلق الإنسان سيجازيه عن أفعاله إن كانت خيراً فخيراً، وان كانت شراً فشراً؛ كما أنه يكتشف لزوم إرسال الرسل.

ومنها: بعض الأمور العامّة التي تتعلق بالأعمال كحسن العدل وقبح الظلم وبعض مصاديقهما.

ولكن ليس للعقل قدرة كافية لمعرفة التفاصيل.

لنأت بمثال يتعلق بالشريعة، إن العقل يحكم أو يكشف أنه يجب على الإنسان أن يشكر اللّه المنعم، أمّا كيفية العبادة فلا يعرفها؛ مثل: جزئيات الصلاة وكيفياتها وشروطها وموانعها ومبطلاتها، وكذا الحال في الصوم والحج والزكاة وغيرها، فلا طريق للعقل إليها.

ففي مجال العقيدة فإن العقل يكشف أو يحكم لنا بوجود خالق وبعض أوصافه كالعلم والقدرة والحياة، لكنه لا يعرف التفاصيل والجزئيات، بل إن كثيراً منها يكون فوق إدراك العقل.

مثلاً: قد يكشف لنا العقل أن الخالق عالم، لكنه لا يستطيع أن يكشف كيفية علمه، فهي غير معلومة لدينا، لأننا لا نعرف حقيقة ذات اللّه عزّ وجلّ ولا حقيقة علمه.

فعندما نقول: (إن اللّه عالم) المقدار الذي يمكن أن ندركه هو أنه ليس بجاهل وفي الحديث: «وإنّما سمي اللّه عالماً لأنه لا يجهل شيئاً»(1).

فمن أين تؤخذ هذه التفاصيل؟ وهل بيّن لنا الشرع المقدس طريقاً لمعرفة هذه التفاصيل؟ وهل وُكلنا إلى عقولنا؟ وهل يمكن لكل إنسان أن يُحكّم عقله في الجزئيات؟

كلا، لذا ضلَّ الذين حَكّموا عقلهم في جزئيات مسائل العقيدة والشريعة وأضلوا غيرهم.

والأمور التي لا تدركها عقولنا على قسمين:

القسم الأوّل: ما يستحيل معرفة الإنسان به فهذا لم يكلّف الإنسان به، بل نُهي عن التفكر فيه لهذا ورد في بعض الروايات: «تفكروا في خلق اللّه، ولا تفكروا في اللّه»(2)، فنحن بعقولنا نعلم بوجود اللّه عزّ وجلّ ونعرف أنه هو الخالق، لكننا لا نتمكن من تصور كنه ذاته إطلاقاً؛ لأننا محدودون، ولا يتمكن المحدود من استيعاب غير المحدود، فلو كان لدينا كأس صغير وأردنا أن نضع فيه ماء البحر، فهل يمكن ذلك؟ كلا، وذلك لأن قدرة الكأس على استيعاب الماء محدودة، والمحدود لا يتمكن من استيعاب ما هو أوسع منه.

لذا ورد في بعض الروايات: «من تفكر في ذات اللّه تزندق»(3)، لأنه لا يتمكن من الوصول إلى الطريق الصحيح، فينحرف ويتصور اللّه بالصورة التي يراها في ذهنه، أو يجسم اللّه عزّ وجلّ، أو يسقط في ما ضل فيه كثيرون.

القسم الثاني: هناك بعض الأمور التي نتمكن من استيعابها لكن لا عن طريق العقل، وقد جعل اللّه عزّ وجلّ لها طريقاً، عبر ما أوحاه إلى رسوله (صلى الله عليه وآله)، وقد بيّنها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في حياته ثم بيّن الطريق من بعد رحيله فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(4)، والضلال هنا لا يختص بالمجال العملي، وإنّما يشمل جميع أنواع الضلال، ومنه الضلال في العقيدة؛ لذا فإن كثيراً من الفرق الإسلامية تركت الكتاب أو العترة فضلت وانحرفت، مثلاً المراد من قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ}(5) هو أن اللّه عزّ وجلّ عالم بكل شيء، لكن البعض ينكر ذلك ويقول: إن المراد بكل شيء هو الكليات وليست الجزئيات، ثم يؤوِّل الآيات والروايات حسب زعمه، إلّا أن الصحيح هو أن يأخذ الإنسان العقيدة من منبعها، ثم يحاول أن يقربها إلى أذهان الناس من خلال أدلة يفهمونها.

عندما أرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد اللّه بن العباس للاحتجاج على الخوارج، قال له: «لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال(6) ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً»(7)، وذلك لأنهم يؤوّلون تلك الآيات ويأتون بمعنى آخر لها، فأنت تقول: إن هذه الآية تعني كذا، فيقولون: كلا بل معناها هكذا.

ولهذا نجد أن جميع الفرق الإسلامية ـ حتى المنحرفين منهم ـ يستدلون بالقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم فيه متشابهات، قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ}(8).

من هنا يجب على الإنسان أن يستمد عقيدته في الجزئيات وفي بعض الكليات التي لا يتوصل إليها العقل، من منبعها الصافي وهو القرآن الكريم ومفسروه الذين هم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يضل ضلالاً بعيداً؛ بل العقل بنفسه يأمرنا بالرجوع إلى العالم حينما لا نعلم ولا طريق لنا للعلم سوى العالم.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «وبنا هداهم اللّه للإسلام»(9)، وقال أيضاً: «إذا قام القائم (عليه السلام) دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر وضل عنه الجمهور، وإنّما سمي المهديُّ مهدياً لأنه يهدي إلى أمر مضلول عنه»(10)، فالضلال ليس في المجال العملي فقط، وإنّما أجلى مصاديقه في الفكر والمعتقد.

وأمّا قوله (عليه السلام): «دعا الناس إلى الإسلام جديداً» فلأن معظم الناس لا يحملون عقيدة صحيحة، ولا يعرفون الشريعة بشكلها الصحيح، ولهذا يكون الإسلام مندثراً عندهم، وحينما يظهر الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) يهديهم إلى الإسلام جديداً، ويبيّن لهم معالمه الأساسية، بالرغم من أن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) بيّنوا تلك المعالم، وهي موجودة في الكتب، لكن أكثر الناس غافلون عنها.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

..........................................

(1) الكافي 1: 121.

(2) بحار الأنوار 54: 348.

(3) عيون الحكم والمواعظ: 456.

(4) بصائر الدرجات: 413؛ الأمالي، للشيخ الصدوق: 415؛ كفاية الأثر: 163.

(5) سورة البقرة، الآية: 29.

(6) حمال: أي يحمل معاني كثيرة إن أخذت بأحدها احتج الخصم بالآخر.

(7) نهج البلاغة، الرسالة: 77.

(8) سورة آل عمران، الآية: 7.

(9) مستدرك الوسائل 16: 247؛ بحار الأنوار 7: 258.

(10) روضة الواعظين: 264.

اضف تعليق