q
مع مرور الايام وضعف الدولة وانتشار الفساد فيها وافتقار المواطن للاحساس بالامان، بدا اتجاه ينمو بسرعة ضد الديموقراطية والحرية متهمين اياهما بالتسبب في كل المشاكل التي يعاني منها العراق. لذلك فبعد اكثر من عشرين سنة من محاولات تطبيق الديموقراطية في العراق شهد هذا المفهوم تراجعا كبيرا في شعبيته...

للتذكير فاني اجادل في سلسلة المقالات هذه بان مصطلح المجتمعات الثنائية Two Tiered societies  الذي جاء به عالما الاقتصاد عاصم اوغلو وجونسون في كتابهما الاخير «السلطة والتقدم « ًPower and Progress  الذي بات ينطبق على مجتمعات العالم عموما ومنها العراق. فقد كاد يختفي الراي الثالث وبدا الوسط يُر ُفع  من حياتنا حتى باتت نظرية (معي او ضدي) هي التي تتحكم بمفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية. في هذه الحلقة ساركز على الوضع السياسي في العراق الذي استبشر كثيرون بعد 2003 بتحوله الى نظام ديموقراطي حر تسوده العدالة والمساواة وحرية الراي وتقبل الاخر. لذلك افاد حوالي 80 بالمئة من العراقيين الذين استُطلعت اراؤهم في 2004، وليس الان، ان النظام الديموقراطي هو نظام جيد.

مع مرور الايام وضعف الدولة وانتشار الفساد فيها وافتقار المواطن للاحساس بالامان، بدا اتجاه ينمو بسرعة ضد الديموقراطية والحرية متهمين اياهما بالتسبب في كل المشاكل التي يعاني منها العراق. لذلك فبعد اكثر من عشرين سنة من محاولات تطبيق الديموقراطية في العراق شهد هذا المفهوم تراجعا كبيرا في شعبيته. فقد تراجعت نسبة من يعتقدون ان النظام الديموقراطي جيد للحكم الى حوالي النصف فقط. مقابل ذلك زادت نسبة من يريدون قائد قوي لا يكترث بالانتخابات والبرلمان من 18 بالمئة في سنة 2004 الى 66 بالمئة في عام 2020. كما زادت نسبة من يريدون للجيش ان يسيطر على الحكم من 14بالمئة الى 50 بالمئة خلال نفس الفترة.

وبدلا من ان يتم توجيه النقد للاحزاب والقوى التي شوهت مفهوم الديموقراطية عبر كثير من ممارساتها خلال العقدين الماضيين فقد جرى حرف الاتجاه ليتم تصوير الديموقراطية (الضحية) بانها الجاني لانها لا تناسب العراقيين وثقافتهم وكان العراقيين ليسوا بشرا ولا يستحقون الحرية.

لقد تلقفت الاحزاب الشمولية -وبخاصة ذات الصبغة الدينية- والتي سيطرت على المشهد السياسي العراقي هذه الدعوة  للخلاص مما تفرضه الديموقراطية من اسس التعامل او المناخ السياسي واهمها قبول الاخر المختلف. فباستثناء صندوق الانتخابات (المشكوك فيه غالبا) تم اللجوء الى سلسلة من الممارسات التي جعلت حرية التعبير والاختلاف في الراي في خطر شديد.

وقد حاولت هذه الاحزاب من خلال تسيدها المشهد السياسي بخاصة داخل البرلمان سن تشريعات وقوانين تقوّض حرية الراي بحجة انها تعارض الثقافة العامة وتتعدى على بعض المحرمات و او حرية الاخرين. وحينما كانت تفشل في هذا المسعى كانت تستغل ثغرات قانونية اخرى مثل استمرار سريان قوانين النظام السابق. وعلى الرغم من المقبولية الشكلية لهذا الطرح،الا انه جرى استثماره من قبل القوى المعادية للحرية باتجاهين رئيسين:

استغلال القانون العراقي الذي لا زال كثير منه موروث من الحقبة السابقة لاغراق اصحاب الراي بمطالبات وملاحقات قانونية تقيد حرياتهم وتزجهم في السجون كما حصل مع كثير من اصحاب الراي المعارض للحكومة او النظام.

ولعل الاشهر القليلة الماضية وما وقع خلالها من اعتقالات لناشطين والمخالفين في الراي،شاهد واضح على قوة هذا الاتجاه التقييدي للحريات. فلقد تم تغليف اسكات الراي الاخر بالغطاء القانوني كي تتم شرعنته ومقبوليته اجتماعيا.

اغتيالات منظمة ومتواصلة لاصحاب الراي الاخر انتهت اغلب تحقيقاتها الى سلة المهملات ولم يجري الكشف عمن يقف وراءها او يمولها او يامر بها. ان قائمة اسماء الذين تمت تصفيتهم خلال العقد الماضي من اصحاب الراي تطول كل يوم وتضاف لها اسماء جديدة باستمرار. اما الاتجاه الجديد لتبرير اسكات الاخر المختلف فهو الانجاز.

نظرا لتعطش العراقيين منذ سنين طويلة لاي انجاز حتى وان كان ثانوي، فقد جرى تضخيم الانجازات التي قامت بها حكومة الاطار وبخاصة في مجال الطرق والجسور.وبما ان الراي العام العراقي محروم من اي « انجاز» فقد ادت حملات الاعمار التي قامت بها حكومة السوداني الى ارتفاع شعبية الحكومة كما كشفت عن ذلك استطلاعات الراي الاخيرة.

وجرى التركيز والترويج الاعلامي على هذا الجانب الايجابي فقط دون التطرق لجوانب اخرى مثل ان اقل من ربع العراقيين باتوا يؤمنون الان ان العراق بلد ديموقراطي. ويبدو ان الفاعلين السياسيين قد استثمروا ذلك «الانجاز العمراني» ان صح التعبير، بتصوير المعارضين على انهم معادين لنهضة العراق ويريدون العودة به الى مربع الخراب واشاعة الفوضى.

لذا فقد بدا هناك راي يتشكل يمكن اختصاره ب (اما المجسرات او المعتقلات).ويستمد هذا الراي قوته من نظرية معي او ضدي. فلتبرير اعتقالات اصحاب الراي الاخر وتقليص او تدمير معسكر من لهم راي مختلف فيما يجري فان تاييد المجسرات يعني انك مع النظام وبالتالي تستحق الامان.

اما اذا كنت معترضا على ما يجري من فساد وتسلط الميليشيات وتقييد الحريات وسواها من امور فهذا يعني انك معادٍ للانجاز وبالتالي تستحق كل ما يجري لك سواءً بسلطة القانون او بطلقة الكاتم او بفزعة الرشاش.

اضف تعليق