q
من لطف اللّه ورحمته علينا أن هيّأ وسائل التهذيب للنفس والتخلص من الرذائل، ولكن على الإنسان أن يغتنم الفرص، فمن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أنه بيّن لنا الأعمال الصالحة والطالحة، وأمرنا بالصالحات ونهانا عن الطالحات، والاستمرار في الالتزام بها سبب لطهارة النفس والتخلّص من الرذائل وهذا الأمر والنهي لا لحاجة من اللّه سبحانه وتعالى لأعمالنا...

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ}(1).

إن روح الإنسان وفكره يسيطران على أعماله، فالبعض يفكر في أن ينال رضا اللّه سبحانه وتعالى فيقدم على الحج والزيارة مثلاً، بينما يفكر شخص آخر بطريقة أخرى، فيذهب إلى أماكن يرتكب فيها المعصية. وهكذا في سائر أفعال الإنسان، فقد نجد إنساناً يتجنّب عن صغائر الأمور، بينما هناك شخص آخر تكون نفسيته وضيعة تؤدّي إلى ارتكاب أفعال لا تليق بالإنسان، وقد تكون من المحرّمات؛ لذا كان تركيز الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) على إرشاد الإنسان وضبط أعماله، بحيث تليق وشأنه كإنسان كرّمه اللّه سبحانه وتعالى. فهناك تركيز على نفس الإنسان وروحه.

ولأن اللّه تعالى أراد امتحان الإنسان فلذلك خلقه بكيفية خاصة فقال: {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا * قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(2) ولذلك خلق اللّه سبحانه وتعالى العقل والجهل، ثم جنّد العقل بمجموعة من الجنود يؤازرونه، وجنّد الجهل بجنود تقابل جنود العقل، فمثلاً الصدق من جنود العقل، والكذب من جنود الجهل.

هناك رواية تبين جنود العقل وجنود الجهل، رواها الشيخ الكليني فقال:

... عن سماعة بن مهران قال: «كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك، لا نعرف إلّا ما عرفتنا، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال اللّه تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً، وكرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فلم يقبل، فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلما رأى الجهل ما أكرم اللّه به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب، هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته، وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته، فقال: نعم، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي، قال: قد رضيت، فأعطاه خمسة وسبعين جنداً» ثم ذكر الإمام (عليه السلام) جنود العقل وجنود الجهل ثم قال: «فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلّا في نبي أو وصي نبي، أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأمّا سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتى يستكمل، وينقي من جنود الجهل، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء، وإنّما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا اللّه وإياكم لطاعته ومرضاته»(3).

والحاصل: إن المؤمن لا يخلو من جنود العقل، كالصبر والشكر والرضا وفعل الخير وغير ذلك، ولكن ينبغي على المؤمن أن يثابر ويزكي نفسه لتكتمل هذه الجنود فيه؛ لأن جنود العقل خمسة وسبعون جندياً، وهي مكتملة في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، لكن سائر الناس قد لا يخلون من بعض جنود الجهل، واللّه سبحانه وتعالى أعطى للمؤمن قابلية أن يزكي نفسه لكي يتخلّص من جنود الجهل، ويعوّضها بجنود العقل.

إننا نشاهد بعض الأشخاص كانت فيه صفة ذميمة، لكنه ثابر فبدّل الصفة الذميمة إلى صفة حسنة.

لكن هناك البعض لا يستطيع أن يبدّلها ـ لأنه في بعض الأحيان تكون هذه الصفات ملاصقة للإنسان وخاصة إذا تعوّد عليها ـ فالأولى به أن لا يظهرها، وحينئذٍ فسوف لا يعاقب على ذلك؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقب على الصفات الذميمة إذا لم يظهرها الإنسان، وهذا ما أشار له حديث الرفع: فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «رفع عن أمتي تسعة» وعدّ منها: «الحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(4).

فإذا كان شخص يحسد مؤمناً في قلبه، فهذه صفة ذميمة توجب نقصان درجات الحاسد في الآخرة، ولكن إذا لم يظهرها بيد بأن يعمل عملاً ليضرّ المحسود، ولا يظهرها بلسانه، بغيبة وتهمة ومنقصةٍ وغير ذلك، بل حدث ذلك بقلبه ففي يوم القيامة لا يعاقب على هذه الصفة، التي كانت كامنة في قلبه، وهذا من رحمة اللّه سبحانه وتعالى ومنّته على هذه الأمة المرحومة، فلا عقوبة عليها، ولكن الحسد يسبّب هبوط درجاته في الآخرة.

إذن، ينبغي على الإنسان أن يهذب نفسه وفكره، ومعنى تهذيب النفس هو أن يزيل الشوائب من نفسه، وإذا لم يفعل ذلك فغالباً ما تظهر هذه الصفات في أفعاله وأقواله وقد تؤدّي إلى حصول المعصية، وقد تسبب نقصان درجته اجتماعياً، فقد نرى إنساناً ظاهره جميل، ولكننا لو علمنا ما في قلبه فسوف يسقط من أعيننا.

إن من لطف اللّه ورحمته علينا أن هيّأ وسائل التهذيب للنفس والتخلص من الرذائل، ولكن على الإنسان أن يغتنم الفرص، فمن لطف اللّه سبحانه وتعالى علينا أنه بيّن لنا الأعمال الصالحة والطالحة، وأمرنا بالصالحات ونهانا عن الطالحات، والاستمرار في الالتزام بها سبب لطهارة النفس والتخلّص من الرذائل وهذا الأمر والنهي لا لحاجة من اللّه سبحانه وتعالى لأعمالنا، لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلينا ولا إلى أعمالنا: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ}(5)، {إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٖ}(6)، فإذا أمرنا اللّه فإنّما ذاك لمصلحتنا، لأن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ}(7)، ومن لطفه ورحمته ومنّه علينا أن أرسل لنا الرسل، قال تعالى: {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ}(8).

فاللّه سبحانه وتعالى هيّأ وسائل السّمو والرقي، فهناك أماكن تقرّب الإنسان إلى الطاعات والكمال، وكذلك هناك أزمنة هيّأها اللّه لنا، وفيها تفيض رحمة اللّه سبحانه وتعالى على الناس، وإن كانت الرحمة موجودة في كل زمان ومكان، لكن من لطفه خصّص أماكن يفيض الرحمة فيها فيضاً، وأزمنة يصّب الرحمة فيها صباً.

صحيح أن اللّه سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ}(9)، حيث يمكننا أن ندعوه في أيّ مكان وزمان، إلّا أنه أحب أن يعبد في بعض الأمكنة والأزمنة، ففيها يفيض رحمته علينا.

فينبغي على الإنسان أن يعرّض نفسه لهذه الرحمة، ويحاول أنه يطهّر نفسه ليكون نزول الرحمة سبباً لزيادة الخير والبركة.

وإلّا فهناك أناس كانوا يعيشون مع الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، وكانوا قريبين جداً منهم، إلّا أنهم كانوا منافقين، فالمشكلة ليست في الرسول (صلى الله عليه وآله)، الذي أدّى مهمته على أحسن وجه {فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ * لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ}(10)، وإنّما كانت المشكلة في ذاك الشخص الذي لم يستفد من الرحمة، فبسوء اختياره وسوء عمله وفكره وعدم تهذيب نفسه حوّل هذه الرحمة إلى نقمة.

إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ}(11)، فهل أن اللّه سبحانه وتعالى أغوى إبليس، أم أن إبليس بتكبّره واستكباره غوى؟

يقول بعض المفسرين: إنه لولا خلق آدم (عليه السلام) لما عصى إبليس، فقد ورد في بعض الأحاديث: «إن إبليس عَبَدَ اللّه في السماء سبعة آلاف سنة في ركعتين، فأعطاه اللّه ما أعطاه ثواباً له بعبادته»(12)، إلّا أنه عندما أمره اللّه بالسجود لآدم (عليه السلام) أبى واستكبر {قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا}(13)، وكان استكباره على حكم اللّه سبحانه وتعالى {أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ}(14)، وقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «فأوّل من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أوّل معصية عصي اللّه بها، قال: فقال إبليس: يا رب، أعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقال اللّه: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنّما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد...»(15).

وذلك لأن العبادة لا بدّ أن تكون واجدة للشرائط التي أرادها اللّه تعالى، فلو صلّى شخص صلاة واحدة وطالت عشر ساعات لكنها كانت عكس اتجاه القبلة فصلاته باطلة، وكذلك لو صام في يوم عيد الأضحى أو عيد الفطر، فصومه باطل وحرام، لأن العبادة لا بدّ أن تكون وفق شروط معينة مأخوذة من الشارع المقدس.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

.........................................
(1) سورة المائدة، الآية: 100.
(2) سورة الشمس، الآية: 7-10.
(3) الكافي 1: 20-23.
(4) التوحيد: 353؛ الخصال: 417.
(5) سورة فاطر، الآية: 15.
(6) سورة إبراهيم، الآية: 19-20.
(7) سورة هود، الآية: 119.
(8) سورة آل عمران، الآية: 164.
(9) سورة غافر، الآية: 60.
(10) سورة الغاشية، الآية: 21-22.
(11) سورة الحجر، الآية: 39.
(12) علل الشرائع 2: 526.
(13) سورة الإسراء، الآية: 61.
(14) سورة ص، الآية: 75.
(15) بحار الأنوار 11: 141.

اضف تعليق