q
كل هذه النهايات القصصية تنذر بالساعة الأخيرة، على يد شيطان الآلة، إذا لم نلجمه، ونضع روحه في الزجاجة، فهناك قنبلة هيدروجينية على صورة آلة تنذر بنهاية طريق البشرية، هذه الآلة هي التي جلبت طاعون التغرب المنذر بدمار المجتمع. هذه الرؤية لا تخلو من إثارة، ومن نهاية مثيرة أيضا...

في خاتمة كتابه (الابتلاء بالتغرب)، حاول جلال آل أحمد أن ينتهي إلى نهاية، هي أشبه بتلك النهايات التي انتهت إليها بعض الأعمال والروايات الفنية والأدبية، نهايات تنذر بحدث عظيم، أو خطر كبير، أو فجر جديد، فاختار نهاية أطلق عليها تسمية (اقتربت الساعة)، وختم السطر الأخير من خاتمة الكتاب بالآية الكريمة التي استوحى منها هذه التسمية (اقتربت الساعة وانشق القمر) القمر1.

هذه الخاتمة أو النهاية، تظهر كما لو أن هذا الكتاب هو أشبه بعمل أدبي على صورة نثر أو رواية، وهو إلى النثر أقرب من الرواية.

وفي نطاق هذه النهايات، تذكر آل أحمد ثلاثة أعمال تنتمي إلى ثلاثة أجناس أدبية وفنية، هي الرواية والمسرح والسينما، في جانب الرواية، تذكر رواية (الطاعون) للأديب الفرنسي ألبير كامو، الذي يجله كثيرا، معتبرا أنها تمثل رائعته، وربما عمله الأعظم حسب قوله، حاكيا بإجمال شديد حدث الرواية، والمتمثل بقصة مدينة في شمال إفريقيا، ليس من المعلوم لماذا ومن أين تسرب إليها مرض الطاعون، كأنه شيء شبيه بالقدر، وأدى إلى نهايتها.

في هذه الرواية، لم يكن واضحا عند آل أحمد الجانب الرمزي فيها، وإلى ماذا يرمز وباء الطاعون تحديدا، الذي يكون سببا لدمار ونهاية مدينة من المدن، أو أمة من الأمم، وحين رجع إلى النقاد وجدهم مختلفين أيضا من هذه الجهة، فجماعة من النقاد اليمينيين قالوا إن كامو جعل من المدينة الموبوءة بالطاعون رمزا على المجتمع السوفيتي، وقال جماعة من النقاد اليساريين إن كامو وضع بهذا الكتاب نطفة الكفاح الجزائري، وقالوا آخرون كلاما غير ذلك، وهكذا.

ولكشف هذا الغموض، ومعرفة الغرض الأصلي من هذا العمل، قام آل أحمد بترجمته، وعندما وصل في الترجمة إلى ثلث الكتاب، فهم حسب قوله، القصد والغرض فترك الترجمة

وتوقف عنها، ورأى أن الطاعون من وجهة نظر كامو، يرمز إلى الآلة القاتلة لأنواع الجمال والشعر والبشر وحتى السماء.

وفي جانب المسرح، تذكر آل أحمد مسرحية (الخرتيت) للكاتب الفرنسي أوجين يونسكو، وتدور قصة هذه المسرحية، حول مدينة يعيش سكانها حياة عادية بلا خوف، وفجأة ينتشر فيها مرض معد، بسببه يتحول الإنسان إلى خرتيت، يبدأ المرض بالحمى، ثم يتغير الصوت، ويظهر قرن فوق الجبهة، فيتحول اللسان من القدرة على الكلام، إلى إطلاق أصوات حيوانية يصاب به الجميع، فينطلقون إلى الشارع، ويخربون المدينة والحضارة والجمال.

هذه المسرحية في نظر آل أحمد، كانت على درجة من الوضوح، ولم تكن بحاجة إلى ترجمة، لكنه مع ذلك ظل يفكر دائما في ترجمتها إلى الفارسية، لكي يشير في هوامشها حسب قوله، إلى أن مواطني بلده، آخذون بالتدريج في التحول يوما بعد يوم إلى خراتيت، وهذا في نظره آخر حل لمقاومة الآلة.

وفي جانب السينما، تذكر آل أحمد فيلم (الختم السابع)، الذي شاهده في طهران أواخر أيام سنة 1961م، وهو من أعمال المخرج السويدي أنجمار برجمان، وتجري قصة الفيلم في زمن القرون الوسطى، ويحكي قصة أحد الفرسان حين يعود إلى وطنه، محطما منهزما وعاجزا من الحروب الصليبية، فقد كان يبحث عن الله، ويريد أن يرى الله في أراضي فلسطين المقدسة، وبدلا من ذلك يكون الشيطان في كل لحظة أمام قدمه، وحين يعود إلى بلده متعبا من البحث عن الله، يجد كنيسة بلده تقرأ آية العذاب، وتعلن الوعيد بدنو يوم القيامة، واقتراب الساعة.

من هنا يرى آل أحمد، أن كل هذه النهايات القصصية تنذر بالساعة الأخيرة، على يد شيطان الآلة، إذا لم نلجمه، ونضع روحه في الزجاجة، فهناك قنبلة هيدروجينية على صورة آلة تنذر بنهاية طريق البشرية، هذه الآلة هي التي جلبت طاعون التغرب المنذر بدمار المجتمع.

لا شك أن هذه الرؤية لا تخلو من إثارة، ومن نهاية مثيرة أيضا، وفي ميزان النقد يمكن النظر إلى هذه الرؤية من جهات عدة، فمن جهة أن الكاتب بهذه الرؤية، يكون قد وضع نفسه ضمن ما يعرف بنزعة التشاؤمية الثقافية، التي ترسم نهايات مشوبة بالتشاؤم والقلق، وتنذر بمصير غامض وقاتم، هو أشبه بتلك النهايات التي أشارت إليها تلك الأعمال الأدبية والفنية المذكورة، وفي إطار هذه النزعة (التشاؤمية الثقافية)، يمكن قراءة وتفسير رؤية ونظرية آل أحمد التي تنذر بخطر الابتلاء بالتغرب، بوصفه طاعونا يجلب الدمار والخراب.

ومن جهة ثانية، وفي إطار هذه النزعة التشاؤمية الثقافية فإن آل أحمد قد أسرف وأفرط كثيرا في المبالغة بما اسماه الابتلاء بالتغرب، كما لو أن الغرب شر محض وشر مطلق، لا يأتي منه، ولا يصدر عنه إلا شر، ولا شك أن هذا تصور ناقص ومبتور، لا يمكن التسليم به، والركون إليه، لما فيه من إطلاق وتعميم مخل.

ومن جهة ثالثة، فإن المؤلف مع حذره الشديد من كل ما له صلة بالغرب والتغرب، أيا كانت هذه الصلة ونوعها وشكلها، وأيا كان درجتها وتأثيرها، مع ذلك فإنه في نهاية الكتاب استند على أعمال غربية قاس عليها، وتماثل معها في رسم النهاية التي انتهى إليها، الأمر الذي يعني أن ما بدأ به، هو بخلاف ما انتهى إليه.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق