منذ أكثر من سبعة اسابيع، أو ما يقارب الشهرين من اندلاع التظاهرات المطالبة بإصلاح الدولة العراقية برمتها، تعالت الأصوات شيئاً فشيئاً حتى بدأت تطالب بتغير العملية السياسية وتعديل الدستور وحل مجلس النواب ومجالس المحافظات والبلدية وتصحيح مجلس القضاء الأعلى، وابعاده عن المحاصصة والتسيس.

إذ تعد تلك التظاهرات، خطوة هامة في تعديل مسار العملية السياسية وإدارة الدولة في القضاء على الفساد وإصلاح الدولة العراقية. الحكومة العراقية بدورها اتخذت بعض الإصلاحات التقشفية أكثر مما هي إصلاحات بنيوية لمستقبل البلد ومستقبل العملية السياسية وتصحيح ما دمر خلال السنوات الماضية، وحتى الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء المتمثلة بإقالة نوابه ونواب رئيس الجمهورية هي لم تصدق بعد من قبل الرئيس معصوم على الرغم من تصويت مجلس النواب، كذلك بعض الإجراءات التي اتخذت لم ترضي الكثير من القوى السياسية مما استدعى التدخل الإقليمي لأنهاء تلك التظاهرات أو تشتيتها ومن ثم اضعافها.

ورغم ذلك بقي المتظاهرون مستمرين في التظاهر، إلا أنهم اخذوا يعوا خطورة الإصلاح المفاجئ وأصبحوا مدركين لضرورة التدرج في الإصلاحات، إذا كانت الحكومة والقوى السياسية جادة في ذلك.

على ما يبدو أن الحكومة والإرادة الإقليمية كانت تراهن على الوقت في تسويف مطالب المتظاهرين التي اصبحت حاجة ملحة في تصحيح مسار العملية السياسية وتدارك الانهيار للدولة العراقية. وهذا ما حدث بالفعل فالجمعة السابعة 11/9 بدت ساحة التحرير شبه فارغة من المتظاهرين؛ وهو نتيجة طبيعية للتأثير الإقليمي وتوقف عمليات تحرير الأنبار بحجة الانقسام بين الحشد بسبب التظاهرات، مما تسبب بانسحاب أو تعليق مشاركة ما يسمى بالحشد المدني من المشاركة في التظاهر خشية من أن يؤثر ذلك على إداء الحشد الشعبي في مواجهة تنظيم "داعش"، مما ينعكس سلباً على عمليات التحرير والوضع الامني بشكل عام. وعلى ما يبدو، وهو كذلك، أن داعش أصبح ورقة ابتزاز داخلية وخارجية سواء على الحكومة العراقية أو على المتظاهرين "الشعب العراقي" للقبول بالوضع الراهن أو القبول بأي حال ترسو عليه القوى السياسية والإرادة الإقليمية المتنفذة.

المتظاهرون الذين استمروا بمطالبهم للجمعة السابعة على التوالي كانوا في غاية العقل والإدراك؛ لأنهم لم يهتفوا بكلمة اسقاط الحكومة أو تغيير العبادي أو نسف العملية السياسية، أو يرفعوا شعارات مناهضة للعملية السياسية، وإنما طالبوا بالإصلاح فقط، وربما كانوا اكثر تعقل من الحكومة في تنظيمهم وهتافاتهم الإصلاحية، واصبحوا على وعي وادراك بإن الإصلاح الجذري سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل العراق والعملية السياسية وربما يعود بنا إلى المربع الأول في ظل هذا الوضع المتردي والحساس، وهو ما يقود إلى فوضى شاملة تستهدف حياة المجتمع العراقي قبل كل شيء.

بالمقابل كانت الحكومة العراقية والسلطة التشريعية والقوى السياسية العراقية بطيئة جداً أو غير جادة في عملية الإصلاح، وهذا ربما يقود إلى سيناريو خطير عكس ما تظاهر به المتظاهرون ومن ثم يؤدي إلى فوضى وحينها ستكون الحكومة والقوى السياسية في موقف قد يتسبب بفوضى في حالة الاستمرار على عدم إصلاح مفاصل الدولة الرئيسة من الفساد، وعدم الاستجابة الفعلية لمطالب المتظاهرين، لا سيما بعد وضوح نية الحكومات المحلية في الإصلاحات التي حاولت الالتفاف على إرادة المتظاهرين وامتصاص غضهم منذ أن انطلقت التظاهرات حينما اتخذت مجالس المحافظات خطوات بحل المجالس البلدية التي اتضحت فيما بعد بأنها خطه مرسومة بين الحكومة الاتحادية وحكومة المحافظات لردم الموقف الجماهيري الساخط والتقليل من حدته؛ ولذلك نرى اليوم بإن المجالس المحلية قد رجعت بعدما تم حلها، بحجة أن ذلك يحتاج إلى إقرار قانون بحلها من قبل السلطة التشريعية، على العكس من مطالب المتظاهرين التي جوبهت بحجج عدم دستوريتها والقفز على الدستور والقانون والاتفاقات السياسية، والحال نفسه ربما ينطبق على الغاء نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الذي ما زال القرار لم يصدق من قبل الرئيس معصوم حتى يتم التراجع عن القرار بحجة عدم دستوريته بعد أن يهدأ المتظاهرون ويتم امتصاص غضبهم عبر الوقت.

هذه السيناريوهات من قبل الحكومة العراقية والقوى السياسية في تسويف مطالب المتظاهرين ربما لم تتنبأ بنتائجها حتى الآن؛ لأن تكرار سيناريو التسويف والمماطلة من قبل الحكومة والقوى السياسية في كل مرة على مدار السنوات الماضية لمواجهة الاحتجاجات الشعبية هو سيناريو لا يمكن القبول به هذه المرة؛ لكون الشعب ادرك ذلك واخذ يعي تصرف الحكومة والقوى السياسية اتجاه المتظاهرين في تسويف المطالب، بحجة انها مطالب غير شرعية أو غير دستورية أو انها تستهدف العملية السياسية، لذلك ابتعدت التظاهرات الحالية رويداً رويدا عن كل ما يمكن أن يسوف مطالبهم ويشوه تظاهراتهم.

الحكومة العرقية والقوى السياسية يمكنها أن تستوعب المتظاهرين وتباشر بالإصلاح الحقيقي، لكي تبعد شبح التقسيم والحرب الطائفية، وتقوض كل السيناريوهات المستقبلية الخطيرة، والتي ربما يكون احدها انهيار الدولة العراقية والعملية السياسية وتعميم الفوضى، إذا ما سوفت مطالب المتظاهرين، فهناك سيناريو يمكن للحكومة العرقية أن تنتهجه في عملية الإصلاح، ((وهو ما يفرض على الحكومة العراقية والسلطة التشريعية والقوى السياسية، أن تباشر بتدوين كل مطالب المتظاهرين، وتضع برنامج إصلاحي واضح وشامل لكل مؤسسات الدولة، ومتفق عليه بين القوى السياسية والحكومة وباشراف من قبل اللجان التنسيقية للمتظاهرين، وأن يكون هذا البرنامج محرراً "مكتوب على شكل مسودة"، ويعرض على الشعب ويحدد بفترة زمنية لا تتجاوز السنة ضمن جدول زمني، ومن ثم يصوت عليه البرلمان؛ كي يصبح ملزم على الحكومة، حتى تباشر في عملية الإصلاح بعيداً عن ضغوط المتظاهرين والإرادة غير الراغبة بالإصلاح، وأن تأخذ الوقت الكافي في عملية الإصلاح، كذلك حتى تبتعد عن خطورة الإصلاح المفاجئ وتداعيات ذلك التحول، التي تطالب بحل مجلس النواب، وتغير النظام السياسي، ولهذا فان التدرج في الإصلاح من خلال برنامج واضح ومكتوب سيعطي الحكومة ديناميكية اكثر في عملية الإصلاح.

وبهذا السيناريو قد تضرب الحكومة أكثر من عصفور، وهو اجبار القوى السياسية على الرضوخ لمطالب المتظاهرين، وتصحيح مسارها السياسي والاقتصادي واثبات نواياها لدى المتظاهرين وجديتها في الإصلاح "ان ثبت ذلك"، وايضاً ابعاد كل المتصيدين واصحاب النوايا الخبيثة عن استغلال التظاهرات وركوبها، وتقويض كل السناريوهات التي تتسبب ربما في خلق الفوضى إذا ما استمر المتظاهرون في التظاهر.

وهذا بحاجة إلى إرادة حقيقية داخلية من قبل القوى السياسية في عملية الإصلاح وعدم الرضوخ للإرادات الإقليمية والدولية السلبية. وهذا سيعطي الحكومة الوقت الكافي في عملية الإصلاح وعدم التأثر بضغط المتظاهرين حتى لا يلقي بضلاله على العمليات العسكرية في مواجهة تنظيم "داعش". لاسيما وأن السيد رئيس الوزراء يمتلك رؤية وروح إصلاحية، إلا أن الخطر الحقيقي يكمن في القوى السياسية التي تحاصره بتوافقاتها وانتماءاتها الحزبية، ولربما الانتماء الحزبي لرئيس الوزراء يعوق الكثير من إصلاحياته؛ لأن العبادي مدرك لإصلاحاته منذ أن تم اختياره لرئاسة الوزراء في العام 2014 وهو حينها كتب مقال قال فيه "لا يمكن تحقيق نصر دائم من دون إجراء إصلاح حكومي وتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي"، وأورد قائمة بالإصلاحات القانونية والمؤسسية الجديرة بالثناء التي قال إنه سيشرع فيها.

إلا أن المشكلة تكمن في التوافقات السياسية والمضايقات الحزبية من قبل القوى السياسية التي ما زالت تائهة بين غياب المشروع الوطني والتخبطات السياسية والاجندة الخارجية. وعليه يجب على القوى السياسية العراقية أن تعي خطورة المرحلة وأن تكون داعمة للإصلاحات التي يطالب بها الشعب، وأن تبادر بشكل فعلي الى دعمها. وإلا ستكون هناك تداعيات خطيرة على مستقبل العملية السياسية الحالية، ومستقبل الدولة العراقية بشكل عام. فالإصلاح ضرورة لابد منها.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق