q
التعامل مع التاريخ كوحدة إنسانية مترابطة ومتواصلة عبر الزمن يعمق في نفوسنا وعقولنا الوعي التاريخي الذي يزيل الالتباسات ويقضي على ما يمكن تسميته بالوعي الطفولي للتاريخ. فالحاجة إلى التاريخ هي حاجة إلى تعميق الوعي التاريخي في عقولنا باعتباره شرطاً ضرورياً للنمو والتقدم. وعلى المستوى الحضاري، لم يصل مجتمع...

مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، أطلق نيتشه صرخته المعروفة ضد التاريخ والمؤرخين.. محاولاً اضعاف هيمنة العلم التاريخي والفللوجي على كل مظاهر الحياة في ألمانيا وعموم اوروبا.

وآنذاك كان العلم الاوروبي بمختلف مدارسه ومشاربه قد انخرط في عملية استكشاف تاريخية لتراثه اليوناني - الروماني، ثم اللاتيني المسيحي.. وانطلاقاً من الظرفية التاريخية التي كان يعيش تحت تأثيرها نيتشه، نفهم أن صرخته كانت ضد الانغلاق في تفاصيل التفاصيل للتاريخ، دون الخروج بنتيجة أو نتائج محددة لتفسير حركة التاريخ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة نفسه بقوله: من كثرة البحث عن الأصول، يصبح سرطاناً، ومن كثرة ما ينظر إلى الوراء، ينتهي به الأمر إلى الإيمان إلى الوراء أيضاً.. فالشيء الذي يرفضه نيتشه هو المعرفة المجانية، أو المعرفة من أجل المعرفة.

فالمعرفة ينبغي أن تثير الشهية للانخراط في الممارسة والعمل، ينبغي أن تكون قابلة للتطبيق واعطاء الثمار.

لهذا فإن نيتشه يعيب أولئك النفر الذين يقفون عند حدود المعرفة، دون سبر أغوارها، أو الخروج بنتائج مفيدة للحياة والوجود.. لهذا فإن التاريخ على مستوى العطاء الإنساني، لا يشكل نهاية المطاف وقيمة الإبداع الوحيدة وأكمل صوره من صور الحضارة والمدنية.. وانما هو عبارة عن نتاج إنساني متواصل، لا يقف عند حدود معينة، وإنما هو عبارة عن سجل مفتوح، بإمكان الفرد بجهوده واجتهاده يسطر في هذا السجل أروع الأمثلة والنماذج في العطاء الإنساني اللامحدود.

فالتاريخ يمكن أن يدفع ويساعد إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية بعيدة عن التهويل والتهوين وأكدنا على الجوانب الإيجابية فيه واستخرجنا العناصر الحية منه لكي تستمر وتنمو، وإذا هضمناه هضماً جيداً دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجياته.. من هنا فإننا ينبغي أن نبتعد عن عملية الاسقاطات التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة، حتى لا نكون جزءاً من منظومة ثقافية - فكرية، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية.

فقد «ادخل الاستعمار كل ثقافته المضادة للكنيسة إلى المجتمعات العربية والإسلامية، وأدخل الآداب والفلسفات التي قضت هناك على الإقطاع والارستقراطية والكنيسة المستبدة والخرافات، وبدأ مفكرونا الذين كانوا مفتونين بهذه الثقافة الاستعمارية حركة النضال ضد الدين والقديم والتاريخ والتقاليد والعادات وأشكال الحياة، وهم يظنون أنهم يقومون بأدوار فولتير وديدرو في المجتمعات العربية والإسلامية.. ورأينا نتيجة نضالهم في أن مجتمعنا الذي كانت له شخصيته، وكان يفكر بنفسه ويختار بنفسه صار جسداً مكوناً من عناصر متنافرة».

ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: ما هي حاجتنا إلى التاريخ؟

حضور التاريخ:

بطبيعة الحال، لا يمكننا بأي شكل من الأشكال، أن نمارس القطيعة التامة مع تاريخنا لأنه ببساطة حاضر فينا.. لهذا فإننا نرى أن دعوات القطيعة مع التاريخ هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. ولكن وفي نفس الوقت من الخطأ الاستغراق في شؤون التاريخ والانحباس في أجوائه وأحداثه، لأنه التاريخ كمجموعة من الاحداث قد انتهت وأصحابها انتقلوا إلى ربهم ودورنا ليس الوقوف الجامد على تلك التجربة الإنسانية، وإنما من الضروري أن نقرأ التاريخ وندرس التجارب الإنسانية، لأخذ العبر واستخلاص الدروس وإنضاج الأفكار وتجاوز نقاط الضعف في التجارب الإنسانية السابقة. لهذا فإننا بحاجة إلى تحديد موقف سليم من التاريخ، لأنه يشكل جزءاً أصيلاً من تفكيرنا وحاضرنا.

وفيما يرتبط بنا نحن الأمة العربية الإسلامية، يأخذ حضور التاريخ فينا بعداً دينياً مقدساً، حيث في هذا التاريخ، كانت التجربة الإسلامية الاولى لهذا فإن فهم التاريخ ضرورة لفهم التشريع الإسلامي.

والحاجة إلى التاريخ بالنسبة لنا تتعدى الحاجة الفلكورية والاستئناس بالماضي، وتصل إلى أن التاريخ هو الوعاء الذي احتضن القيم التي نقدسها، فنحن نحتاج إلى التاريخ، كلما تذكرنا القيم الخالدة التي صنعت تاريخنا المجيد وحولته من تاريخ مليء بالصراعات الجاهلية والقبلية، إلى تاريخ مليء بالبطولات والتضحيات والقيم الحضارية.

اكتشاف التاريخ ضرورة للنهوض:

إننا سنتعامل مع التاريخ شئنا ذلك أم أبينا، لذلك وبدل أن يكون تعاملنا معه نابعاً من حالة نفسية مهزومة تهرب إلى كهف التاريخ لكي تبرز فشلها وتقاعسها في الحاضر، من الضروري أن تحدد منهجية سليمة للتعامل مع التاريخ، تحول التاريخ بالنسبة لنا إلى قوة دافعة لتطوير الحاضر، وتؤكد المسؤولية الذاتية في التقدم والنهوض.

لهذا فإن اكتشاف التاريخ بمنهجية واعية-متحركة يعد بوابة أساسية لعملية النهوض.. والاكتشاف هنا لا يعني أن نعرف اليوم التي وقعت فيه الحادثة الفلانية، أو الموقع الذي نشبت فيه هذه المعركة أو تلك.. إن الاكتشاف يتعدى هذا الفهم المكاني إلى الاحداث، ويصل إلى دلالات الأحداث والعبر المستوحاة منها والقيم الدافعة والصانعة لتلك الأحداث بشقيها السلبي والايجابي فالاكتشاف يعني معرفة العوامل الحقيقية والفعلية للأحداث الكبرى التي حدثت في التاريخ وادراك طبيعة الروح التي كانت تسير الأمور وتوجهها في أي اتجاه.

فحتى لا نكون بكراً على المستوى العقلي والإنساني، بحاجة إلى التاريخ، كتجربة إنسانية طويلة مليئة بالدروس والعبر ومشحونة بالدلالات والرموز المعرفية والإنسانية.

تعميق الوعي التاريخي:

إن التاريخ الإنساني، يشكل سلسلة مترابطة الحلقات وسياقاً متواصلاً منذ فجر التاريخ وإلى الآن.. لذلك فإن التعاطي مع التاريخ باعتباره مجموعة من القصص المتفرقة أو الاحداث المنفصلة والغريبة عن بعضها لا تؤدي إلى الفهم السليم لهذا التاريخ.

بينما التعامل مع التاريخ كوحدة إنسانية مترابطة ومتواصلة عبر الزمن يعمق في نفوسنا وعقولنا الوعي التاريخي الذي يزيل الالتباسات ويقضي على ما يمكن تسميته بالوعي الطفولي للتاريخ. فالحاجة إلى التاريخ هي حاجة إلى تعميق الوعي التاريخي في عقولنا باعتباره شرطاً ضرورياً للنمو والتقدم.

وعلى المستوى الحضاري، لم يصل مجتمع من المجتمعات إلى ذروته الحضارية، أو قمته المدنية، إلا بعد أن أحسن علاقته بتاريخه ودائماً كان حسن العلاقة مع التاريخ الشرط الضروري للانطلاقة الحضارية.

فحينما بدأت الهجرة الاوروبية إلى العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية)، لم يتركوا تاريخهم وراء ظهورهم، وانما حملوا معهم تراثهم وتاريخهم وتقاليدهم واعرافهم وانتصروا على مستوى الفكر والثقافة والأنماط الحضارية إلى النمط الانكلوسكسوني وانطلقوا منه واضافوا عليه وتشكلت عليه وتشكلت بهذه الجهود الموجه الحضارية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.

فالحاجة إلى التاريخ تبقى ضرورية لأنه يتضمن ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. فالتاريخ بأحداثه وتجاربه لا ينتهي بمجرد زواله الوجودي وانما يظل حياً في خبرة الأمة وذاكرتها. لأنه ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة، لا يمكن الفكاك منه.

من هنا من الضروري أن نقرأ التاريخ وندرس أحداثه وتطوراته وتحولاته، بوصفه كائناً حياً ينبض بالحياة. وذلك لأن طبيعة رؤيتنا إلى التاريخ وأحداثه، يرتبط بشكل أو بآخر بطبيعة الشخصية المسلمة اليوم.. فرؤيتنا إلى الحياة المعاصرة إنما تستوحى من رؤيتنا للتاريخ، وانه لو غيرنا تاريخ أمة لتغيرت بشكل طبيعي حياتها، لأن رؤيتها إلى التاريخ ستنعكس على موقفها في الحياة.

فحينما ندرس التاريخ ليس من أجل الانحباس في أحداثه والتقوقع على قضاياه، وانما من أجل معرفة سنن الحياة في مختلف المجالات، ومن أجل أخذ العبر والدروس من تحولاته. فبالتالي إن العلاقة عميقة بين معرفة التاريخ ومعرفة الواقع الذي نعيشه. فالذي يجهل سنن التاريخ لن يتمكن من معرفة الواقع. لذلك فإن قراءة التاريخ مسألة ضرورية وحيوية لإدراك الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته. فالتاريخ هو تجربة الحياة الإنسانية بكل منعطفاتها، ولأن عمر الإنسان قصير عن معرفة كل ما في الحياة. وإذا أراد أن يجرب كل شيء بنفسه، فإنه يحتاج إلى القيام بملايين التجارب. فلو لا أن الإنسان يستفيد من التجارب السابقة ويستفيد من تاريخه لما كان قد وصل إلى ما وصل إليه من التقدم العلمي. فهو يبني حياته بما انتهى إليه الأولون، وليس يبدأها من الصفر. وعليه فإننا من الضروري أن نقرأ التاريخ قراءة تحليلية عميقة، وذلك من أجل معرفة القضايا الهامة في حركة التاريخ ونستفيد من أحداثه وتحولاته.

فالتاريخ لا يقرأ قراءة سردية مجردة على وزن (كان يا مكان في قديم الزمان) وانما يقرأ قراءة سببية وتحليلية، بحيث نتعرف على أسباب الظواهر ونفهم طبيعة التحولات التي جرت في حقب تاريخية مختلفة.. فحاجتنا إلى التاريخ حاجة ماسة وحقيقية، ولا يمكن أن نستفيد من هذه التجربة الإنسانية الطويلة إلا بوعي عميق لسننه ونواميسه.

اضف تعليق