q
لا نعرف ما الذي يخبئه المستقبل للحلبوسي وخصومه، ولا نعرف بالضبط ما سيفعله الحلبوسي ضدهم، لكن ما نعرفه أن من يحاول التفرد بالسلطة يخسر عاجلاً أم آجلاً، ليس لأن العراق دولة ديمقراطية وحسب، بل لأن مراكز القوة موزعة بنسب متفاوتة، وأي شخصية تحاول التفرد يعني أنها تأخذ من مكانة غيرها...

قررت المحكمة الاتحادية العليا في العراق استبعاد رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي من عضوية المجلس، يوم الرابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر الجاري، ما يعني عملياً طرده من رئاسة مجلس النواب، وتجريده من سلطات واسعة كان يتمتع بها منذ ترؤسه المجلس وحتى يوم استبعاده. ...التفكيك والتفرد

شخصية مثل الحلبوسي كفيلة بإثارة الجدل، سواء كان رئيس للبرلمان، أو زعيم حزب أو حتى حينما يجرد من مناصبه وما يتبعها من سلطات عابرة للقانون، وهنا نستعرض مرحلتين من حياة الحلبوسي، فترة ما قبل قرار المحكمة الاتحادية العليا باستبعاده من عضوية مجلس النواب، وفترة ما بعد استبعاده.

المرحلة الأولى

صعد الحلبوسي إلى عضوية مجلس النواب ثم إلى رئاسته باستراتيجية بسيطة قائمة على التفكيك والتفرد، أي تفكيك الكيانات السياسية التي تقف في طريقه نحو تحقيق المجد الشخصي، والغريب أنه لا يتوانى عن ضرب أقرب حلفائه إذا ما تطلبت مصالحه السياسية فعل ذلك.

وعلى العكس لا يمانع أن يتحالف مع أشد خصومه إذا ما تطلبت المصلحة الشخصية له تحقيق غرض معين، وقد لا أبالغ إذا قلت مصالحه الشخصية وليست مصالح الحزب، أو "الأمة" الجديدة التي يريد الصعود من خلالها.

بداية الحلبوسي كما يعرف الجميع مع حزب عائلة الكرابة "حزب الحل"، مع رئيسية محمد الكربولي، فهو الذي صدره للمشهد السياسي كشاب طموح يريد تحقيق أهدافه "النبيلة" من خلال العمل السياسي، لكن ما إن وضع الحلبوسي قدمه في مجلس النواب، وبناء شبكة علاقات مع القوى السياسية المؤثرة، خرج عن النهج الذي يتبعه حزب الحل، وتحالف مع خصومه السياسيين والحصول على رئاسة مجلس النواب عام 2018.

وكلنا نعرف أن الحلبوسي كان خيار القوى السياسية المحسوبة على الجانب الإيراني وعلى رأسهم تحالف الفتح بزعامة هادي العامري وقيس الخزعلي، لكن الغريب أن يكمل الحلبوسي انقلابه ضد الكربولي و"يسمح" بإيداعه في السجن بتهم الفساد.

استطاع من خلال هذه الحركة الشرسة أن يتخلص من أبرز حلفائه السابقين ومنافسيه فيما بعد على تسيد الساحة السياسية في محافظة الأنبار، وفعلاً تحقق له ما أراد، حتى بدأنا نسمع عن الزعيم الشاب و"محمدنا"، وغيرها من التوصيفات التي تعبر ولادة زعيم جديد أوحد في المناطق السنية الغربية التي تفككت زعاماتها التقليدية خلال فترة الحرب على داعش وما تبعها من نكسات سياسية واجتماعية في المناطق المحررة.

وخلال سنوات قليلة استولى الحلبوسي على الأنبار وصار سيدها، ثم حاول أن يتسيد المشهد السني، وتحالف مع مشعان الجبوري وخميس الجنجر، في تحالف غير متجانس ولا يفهم منه إلا العبور لمرحلة معينة وهذا ما حدث، لينقلب مرة أخرى ضد مشعان الجبوري ويضربه بالقاضية عبر استبعاده من مجلس النواب بقرار من المحكمة الاتحادية العليا، فضلاً عن صراعه مع خميس الخنجر الذي ظهرت بوادره بحملات تشويه غير مباشرة بين الطرفين.

وفي نفس المدة اشتعل صراعه مع القيادات السنية التقليدية فشعروا بالخطر، وبدأوا يعلنون أنه لا زعيم للسنة ولا أي شيء من هذا الشكل، في إشارة واضحة لفرضهم فكرة زعامة الحلبوسي للمشهد السني، بل أن بعضهم اشتغل على مسألة إبعاد رئيس مجلس النواب من منصبه.

على الجانب الآخر اشتعلت معركة كبيرة بين الحلبوسي من جهة والقوى الشيعية التي اسهمت بصعوده إلى رئاسة مجلس النواب الأولى من جهة ثانية، فقد أظهر عدم اكتراثه بالأزمة السياسية التي ضربت القوى الشيعية عام 2019 خلال تظاهرات تشرين، ونزلت إلى ساحة النسور مع المتظاهرين المناوئين للقوى الشيعية المحسوبة على إيران، ثم لحقها بتحالفه المشهور مع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر بعد انتخابات تشرين الأول 2021، وما تبع ذلك التحالف من غضب مكبوت ومعلن لدى قوى الإطار التنسيقي الشيعي.

لعنة التفرد

شعر الحلبوسي أنه تفرد بالساحة، هو الآن لاعب قوي كسر رفيق دربه الأول محمد الكربولي وأنهى مستقبله السياسي، وصعد على أكتاف تحالف الفتح وكسر أجنحته، ثم عبر مرحلة مع خميس الخنجر ومشعان الجبوري ثم رماهم في أقرب نقطة تفتيش، ولم يتردد في التخلي عن حليفه الشيعي القوي السيد مقتدى الصدر، فضلاً عن عداوته الخطيرة ضد زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي.

في السياسة يعتبر خلق الأعداء بهذا الكم الكبيرة خطيئة لا تغتفر، ومصير فاعلها الموت سياسياً، وسمعنا ما سمعنا من التحذيرات للسيد الحلبوسي بأنه سوف يسقى من نفس السم الذي سقاه لخصومه، وكان من أكثر محذريه مشعان الجبوري ضحيته الذي استبعده من مجلس النواب بقرار من المحكمة الاتحادية العليا، ها هو اليوم يتجرع القرار من نفس المصدر، من المحكمة الاتحادية العليا، ليكتب بذلك رحلة قصيرة زمنياً، كثيفة الأزمات مضغوطة بالاحداث.

أثبت سقوط الحلبوسي أنه لا يمكن لأحد التفرد بالحكم في العراق، لقد حاول نوري المالكي سابقاً التفرد، ومارس نفس الأساليب ضد حلفائه الشيعة أولاً، ثم انتقل للهجوم ضد خصومه السنة، لكنه سقط عام 2014 سقوطاً مريعاً، رغم حصوله على أعلى عدد من أصوات الناخبين في تاريخ العراق.

المرحلة الثانية

بعد إعلان قرار إنهاء عضويته نكص الحلبوسي وعاد إلى خطاب عتيق ملمحاً إلى إثارة الأزمات الداخلية، وإشعال بعض المحافظات بوجه الحكومة والنظام السياسي، وهو ذات الخطاب الذي استخدمه نوري المالكي بعد سقوطه عام 2014، ثم انتبه وأعاد ترتيب أوراقه ولم يستطع الوقوف على قدميه إلا بعد اقتناعه بحجمه السياسي وأنه لا يمكن لأحد التمدد أكبر من المساحة المحددة له.

ومنذ ابعاده وحتى الآن قام رئيس مجلس النواب السابق بزيارات مكثفة للقوى السياسية، والشخصيات الفاعلة، أبرزها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فأثار تساؤلات لدى الجمهور العراقي إثر توصيف المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء بكون الحلبوسي رئيس مجلس النواب، ولم يذكر بأنه رئيس مجلس النواب السابق، وكأن رئيس الوزراء لا يعترف بقرار المحكمة الاتحادية.

ثم تكرر الأمر مع السفيرة الأميركية ألينا رومانسكي التي وصفت الحلبوسي برئيس مجلس النواب.

في الخلاصة لا نعرف ما الذي يخبئه المستقبل للحلبوسي وخصومه، ولا نعرف بالضبط ما سيفعله الحلبوسي ضدهم، لكن ما نعرفه أن من يحاول التفرد بالسلطة يخسر عاجلاً أم آجلاً، ليس لأن العراق دولة ديمقراطية وحسب، بل لأن مراكز القوة موزعة بنسب متفاوتة، وأي شخصية تحاول التفرد يعني أنها تأخذ من مكانة غيرها وهذا غير ممكن بالمنطقة السياسي، وسيؤدي إلى صراع فيه خاسر ورابح، والخاسر دائماً هو من يزيد من عدد أعدائه، ويعاني من ندرة في الحلفاء.

اضف تعليق